سياسة ترامب الشرق أوسطية: مزيج من الوعود والغموض

شورش درويش 
تسبب الانقطاع بين ولايتي دونالد ترامب في إحداث تغيّرات كبيرة وفجوات عميقة في سياسته الخارجية، إلى جانب ارتفاع احتمالية أن يمضي جل فترة ولايته الثانية منهمكاً في التخلّص من نهج خلفه جو بايدن الذي أورثه حربين اضطراريتين في أوكرانيا والشرق الأوسط. ومع وعود ترامب بإنهاء الحرب في أوكرانيا، دون أن يقدّم خطّة مفصلة حول ذلك، فإنه بالقدر نفسه يتحدّث عن إنهاء الصراع في الشرق الأوسط بشكل لا يقلّ غموضاً. لذ،ا فإن خطط ترامب لوقف الحرب و«فرض السلام  من خلال القوّة» يحتاج إلى شيء من التفصيل لم يقدّمه ترامب خارج الكلمات المقتضبة التي شكّلت جزءاً من خطابه الانتخابي.

الولاء أوّلاً ..الانتقام ثانياً

مثل أيّ سياسة داخلية تتنافس فيها الاتجاهات الرئيسية داخل أروقة الحكم في البيت الأبيض، فإنه من المتوقع أن يحصل تنافس موازٍ حول السياسة الخارجية بين الموظفين الرئيسيين. لكن هذه المرّة، بحسب ما ذهبت إليه مجلة «فورين أفيرز»، سيكون للجماعات الأكثر تطرّفاً اليد العليا، وستضغط لتجميد الأصوات الأكثر اعتدالاً، ما سيؤدي إلى «تفريغ الإدارة من المهنيين المدنيين والعسكريين» الذين يُنظر إليهم بأنهم جزء من «الدولة العميقة».
ولأجل ذلك، قد يضطر الوافدون الجدد إلى استخدام مقدّرات الحكم لملاحقة معارضي ترامب ومنتقديه. يشي مثل هذا التحليل إلى إمكانية تطوير سياسات انتقامية أيضاً على النحو الذي صوّرته منافسته كامالا هاريس حين قالت إن ترامب «مهووس بالانتقام ويسعى إلى سلطة غير مقيّدة» للنيل من القوى الاعتراضية التي أرّقته طيلة السنوات الأربع الماضية وتقليل الأصوات المعترضة داخل فريقه الحكومي، كما حصل في فترة حكمه الأولى حين حدثت سلسلة اعتراضات على سياساته الخارجية في وزارة الدفاع ووزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي، وانتهت إلى جملة استقالات متواترة أضرّت بسمعة وتماسك البيت الداخلي. ولأجل ذلك، ستبرز إلى السطح مسألة الولاء لشخص ترامب كمعيار رئيسي في تقلّد المناصب الرئيسية. ولن تكون السياسة الخارجية بمنأى عن معايير الولاء التي تتطلّبها سياسات الرئيس. وفي الغالب، سيخضع مدار السياسة الشرق أوسطية لمسألتي الارتجال المعروف عن ترامب والولاء لما سيقرّره، وهذه المرّة دون منغّصات كتلك التي تسبّب بها أصدقاء ترامب قبل خصومه حين نفّذ انسحابه الجزئي من سوريا أواخر عام  2019، الأمر الذي أدى لاستقالة وزير الدفاع جيمس ماتيس على خلفية قرار ترامب الفردي بسحب قوات بلاده من سوريا.

الشرق الأوسط بين الاهتمام والغموض

ثمة صعوبة في التنبؤ بما سيفعله ترامب على كل الأصعدة نظراً لأسلوبه الارتجالي وعدم اعتماده على مستشاريه. إلّا أن فترة حكمه الأولى قد تجيب عن بعض ملامح سياسته الخارجية. لكن التنبؤ يحتاج إلى حذر شديد، خاصةً أن الحرب الروسية- الأوكرانية والحرب في الشرق الأوسط تحتاجان إلى وقت طويل لا يكفي فيهما القول بأن استراتيجية «السلام من خلال القوّة» قد تتحقّق بالنظر إلى التعقيدات التي بلغتها الحرب في المنطقتين.
وإلى جوار الصين، التي ستكون محطّ اهتمام ترامب الرئيسي، ووقف الحرب في أوكرانيا بالاستناد على العلاقة الودّية التي أقامها مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين وإمكانية الوصول لصفقة لا يمكن التحقق من جدارتها تفضي إلى وقف الحرب، يبرز النقاش حول استراتيجية الولايات المتحدة المقبلة في الشرق الأوسط، لاسيما التصوّرات حول وقف حرب إسرائيل في غزة ولبنان. سبق لترامب خلال ولايته الأولى أن أقام علاقة مميزة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو وتماهى مع السياسات المتشدّدة التي اتبعها الأخير، فذهب إلى حد الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ضمن ما سمّي «صفقة القرن» التي هدفت لإدماج إسرائيل بالمحيط الإقليمي. كما اعترف بسيادة إسرائيل على الجولان السوري المحتل منذ عام 1967، وغض الطرف عن ارتفاع وتيرة بناء المستوطنات في الضفّة الغربيّة. والأهم من ذلك، انسحب من الاتفاق النووي الإيراني الذي عارضه نتانياهو على الدوام، في ظل اعتماده مبدأ «الضغط المتواصل» على إيران دون أن يُفهم ما المقصود بهذا الضغط.
ما تغيّر في الفترة ما بين ولايتي ترامب كانت الحرب التي تخوضها إسرائيل على ستة جبهات، ورغبة نتانياهو في أن تبلغ الحرب إيران وتوجيه ضربة قاصمة للبرنامج النووي الإيراني. إلّا أن الأجندة الرئاسية لترامب قد لا تستوعب فكرة الحرب المديدة والقابلة للتوسّع دون أفق زمني محدد، وهو ما قد يقود ترامب لممارسة الضغط بطريقته الخاصة على نتانياهو «لإعلان النصر ثم الوصول إلى اتفاق من خلال وسطاء». وإن كان هذا أحد الاحتمالات، فإن هناك احتمال أن تبقى الحرب محصورة في غزّة بطريقة أقل إحراجاً لترامب واقتصار الحرب في لبنان على تعقّب عناصر حزب الله وأصوله العسكرية والمالية بالشكل الذي يضفي على الحرب طابعاً موضعيّاً خاصّاً يمكّن ترامب من الذهاب إلى استكمال مسألة إدماج إسرائيل في المنطقة واستكمال خطّي الاتفاقيات الإبراهيمية و«صفقة القرن». ورغم أن مثل هذه السياسة الضاغطة على تل أبيب قد تعكّر صفو العلاقة الشخصية والموثوقة بينه وبين نتانياهو التي لم تقطعها سوى لحظة تهنئة الأخير لجو بايدن لتوليه الرئاسة ووصف ترامب سلوك صديقه بـ«الخيانة»، فإن اللقاء الوحيد لنتانياهو بترامب منذ مغادرته البيت الأبيض، والذي جرى في يوليو/تموز الماضي، خفّف من وهج غضب ترامب.
وفي أبريل/نيسان الماضي، صرح ترامب أن على إسرائيل «إنهاء ما بدأته بسرعة لأنها تخسر حرب العلاقات العامّة»، وهو تعبير عن رغبة الرئيس الجديد بأن يحظى بفترة رئاسة هانئة تبدأ بعقده جملة صفقات بدل الانخراط في حروب تخالف تصوّراته لفترة حكمه التي تركّز على الانسحاب. ومن بين ما يسعى إليه ترامب إبرام صفقة مع إيران. لكن ما هي طبيعة الصفقة ومتى يتعيّن الوصول إليها؟ يبقى ذلك سؤالاً عالقاً قد تجيب عنه سياسة نتانياهو التالية بعد أن اتبع تكتيكات ترامبية داخلية تمثلت بالتخلّص من الوزراء والمسؤولين الأقل تشدّداً وولاءً له كإقالة وزير الدفاع يوآف غالانت. فمن بين ما هو متوقّع أن تُقدم إسرائيل على ضرب البرنامج النووي الإيراني قبل قليل من تسلّم ترامب الحكم رسمياً. وقتها، قد يكون أمام الرئيس الجديد فرصة إبرام صفقة مع طهران المنزوعة الأظافر النووية، على ما يحمله مثل هذا السيناريو المتطرّف من إمكانية استدامة الحرب وجرّ الولايات المتحدة إليها بشكل يخالف مضامين عقيدة ترامب المثالية: «أميركا أوّلاً».
ثمة مدارات أقل سخونة تنتظرها سياسات ترامب في الشرق الأوسط، كتطوير العلاقات مع دول مجلس التعاون الخليجي، خاصة المملكة العربية السعودية، بعد أن خفت وهج العلاقات الأميركية- الخليجية خلال ولاية بايدن. وتمر فرص تطوير العلاقة بالمشروعات الاقتصادية والتكنولوجيّة المشتركة. وهنا، قد يبرز دور الملياردير المؤيّد لترامب، إيلون ماسك، في عملية التشبيك مع المملكة. ومن المحتمل أن يستكمل ترامب توسيع نطاق الموقعين على الاتفاقيات الإبراهيمية. ففي دعايته الانتخابية عام 2020، ادعى ترامب بأنه كان سيضيف لقائمة الموقّعين من 12 إلى 15 دولة أخرى. ولعلّ القوة الدافعة لتوسيع الاتفاق، إلى جوار البدء بتنفيذ مشروع الممر الهندي، يتوقّف على قدرة نتانياهو وقف الحرب عند حدّ معين حتى وإن لم يكن يتمنى ذلك.
يبقى أن لتركيا رغبة في أن تستثمر في عودة ترامب، ذلك أن أردوغان، الذي تراجعت أهميته الإقليمية خلال ولاية بايدن، يعوّل على أن تمنحه فترة رئاسة ترامب دفعة للأمام لاستعادة دوره الإقليمي الفائت. كما أنه ينتظر مكافأة من ترامب لإبقائه العلاقات باردةً مع بايدن ووقوفه تالياً خارج دائرة الانتقام الترامبيّة. ولعل العودة إلى تكرار مطالبات الأتراك بوجوب انسحاب القوات الأميركية من الأراضي السورية والحلول مكانها، بالاتفاق مع موسكو، قد يكون أبرز ما سيتصدّر جدول أعمال الرئيسين واتصالاتهما. غير أن إلحاح أنقرة على هذا الطلب قد لا يلقى الاهتمام السابق نظراً للاضطراب الكبير الحاصل في الشرق الأوسط، وعدم رغبة ترامب في الدخول بجدل مجهد مع العسكريين وأعضاء في الكونغرس كما حصل عام 2019. لذا، قد يرجئ النقاش في هذه المسائل إلى حين التفرّغ من الحربين في أوكرانيا والشرق الأوسط. إلّا أن ذلك لن يحول دون ارتجال ترامب لمواقف قد تفسّر بأنها لصالح أردوغان حتى وإن تراجعت أهميته بالنسبة لواشنطن.
في مجمل الأحوال، ما يزال الغموض يكتنف سياسة ترامب في الشرق الأوسط. وهذا قد يتوقّف على قدرته بدمج شعاريه المتناقضين: «أميركا أوّلاً» الانسحابيّ، و«فرض السلام من خلال القوّة»، إذ يتطلّب تحقيق الأوّل توافر السلام في الحدود الدنيا لتنفيذ الانسحابات، فيما يتوقف الثاني على التواجد العسكري لأجل فرض السلام، الأمر الذي يضيف طبقة إضافية من الغموض على سياسة ترامب الشرق أوسطية.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد