أدخلت دمشق بفعل نفوذها في لبنان كلاً من السعودية عبر رفيق الحريري وإيران من خلال حزب الله في مرحلة ما بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. وعندما حصلت عملية إيقاف التصادم الإسرائيلي مع حزب الله عقب مجزرة قانا عام 1996 بجهد بذله الحريري مع واشنطن وباريس من أجل اقناع رئيس الوزراء الإسرائيلي شيمون بيريز بإنشاء أول تفاهم بين الحزب وتل أبيب، ما عنى وقتذاك أن هناك جسراً سورياً يصل بين طهران والرياض، وهو جسر ما كان ليشيّد لولا وجود ثالوث: الرياض- القاهرة- دمشق، الذي برز في التسعينيات عقب حرب خليج 1991.
إلّا أن سوريا لم تستطع بعد انسحابها العسكري من لبنان عام 2005 أن توازي قوتي طهران والرياض في بلاد الأرز. وعندما تحدث رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه برّي عام 2009 عن معادلة «س- س: السعودية- سوريا»، فقد كان يرمي، بوصفه حليف دمشق، والثاني في التركيبة السياسية الشيعية، إلى إيجاد معادلة جديدة تحجّم قوة حزب الله. ولكن بري اضطر هو ودمشق لمشاركة حسن نصر الله وميشيل عون في عملية إسقاط حكومة سعد الحريري أثناء زيارته لواشنطن في الشهر الأول من عام 2011، وهي خطوة دمشقية في بيروت كانت تثنية لخطوة بدأت في بغداد قبل شهرين عندما انضمت العاصمة السورية إلى عملية دعم الإيرانيين لوصول نوري المالكي لرئاسة الوزراء بعد أن تخلى السوريون عن دعم إياد علّاوي وقائمته التي نالت المركز الأول في انتخابات البرلمان العراقي، بعد أن شاركت الرياض وأنقرة مع دمشق في دعم علاوي.
كان ما جرى في بغداد وبيروت بمثابة إعلان من دمشق عن انزياحها لمحور طهران الإقليمي وفشل جهد استغرق أربع سنوات من قبل أنقرة والدوحة وباريس، ومن ورائهم واشنطن، لجعل سوريا في محور مضاد للإيرانيين بدأ يتشكًل في المنطقة عقب حرب 2006 أسمته كوندوليزا رايس بعيد تلك الحرب بإسم «معتدلون ضد متشددين».
على الأرجح، كانت اصطفافات واشنطن وباريس وأنقرة والدوحة في الأزمة السورية البادئة في مارس/آذار 2011 محاولة «عبر النار» لإبعاد دمشق عن محور (طهران- بغداد نوري المالكي- الضاحية الجنوبية- غزة)، وأن اصطفافات طهران وحزب الله مع السلطة السورية خلال تلك الأزمة كانت من أجل منع حصول ذلك، بما يعنيه لهما الجسر السوري في طريق طهران -بغداد- دمشق- الضاحية الجنوبية.
في الحرب التي تلت 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كان مفاجئاً حصول تغيّرات، أو لنقل تمايزات، في هذه اللوحة الشرق أوسطية المتبلورة منذ عام 2011. فالمسافة التي أخذتها دمشق من الحرب، رغم المحافظة على التأييد السوري التقليدي للقضية الفلسطينية، كانت أكبر من المسافة التي أخذتها طهران ومن مسافة حزب الله الذي دخل في اليوم التالي في «حرب إسناد ومشاغلة»، وهو أمر جعل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، بعد أن أضعف قدرات حركة حماس في غزة عسكرياً، يلتفت نحو جرّ إيران للحرب عبر «التحرّش» بها من خلال ضرب القنصلية الإيرانية بدمشق في أبريل/نيسان واغتيال إسماعيل هنية في بيت الضيافة الرسمية بطهران في يوليو/تموز، ثم ليقوم بشن حرب واسعة على لبنان في سبتمبر/أيلول، وكذلك العمليات التي قامت بها إسرائيل على الأرض السورية التي كانت موجهة ضد قيادات عسكرية إيرانية وضد تواجد عسكري لحزب الله.
في النتيجة، وإن مع شيء من الحذر في مقاربة الوقائع، يمكن القول بأن هناك شيئاً من النأي بالنفس تقوم به دمشق عن حربي غزة ولبنان. وهو على الأرجح آتٍ كحصيلة لقراءة توازنات القوى في عموم الإقليم بعد أن أظهرها ما يجري في غزة خلال ثلاثة عشر شهراً مضت ولبنان خلال شهر ونصف، ونتيجةً لقراءة سوريّة لمعاني الإحجام الإيراني عن خوض المجابهة المباشرة مع إسرائيل وتفضيل طهران أن تكون هذه المجابهة غير مباشرة عبر حزب الله والحوثيين. وهذا الأسلوب الإيراني في استخدام الأرض اللبنانية ضد إسرائيل سبق أن مارسته دمشق لمّا ساندت ودعمت مع طهران مقاومة حزب الله في مرحلة ما قبل تحرير الجنوب اللبناني عام 2000، في قراءة بأن أيّ مجابهة مباشرة مع إسرائيل في الجولان لن تكون توازناتها لصالح سوريا، وأنه يمكن استخدام ورقة الجنوب اللبناني من أجل الجولان. والحديث السوري عن وحدة المسارين السوري واللبناني في المفاوضات العربية- الإسرائيلية التي جرت في التسعينيات كان تعبيراً مضمراً عن ذلك.
يترافق هذا مع إعلام رسمي سوري مساند بقوة للبنان في مجابهة إسرائيل، ومع أجواء مرحّبة وتسهيلات للبنانيين الذين أتوا ولجؤوا إلى سوريا خلال الشهرين الماضيين، وهي أجواء و تسهيلات لم يجدها اللاجئون السوريون في لبنان الرسمي والاجتماعي خلال فترة 2012-2024.
في المقابل، هناك ارتياح في الأوساط الاجتماعية السورية، سواء كانت موالية للسلطة أو معارضة أو بين- بين، لموقف السلطة السورية في تجنيب البلاد مرارة تجرع الكأس المرًة التي تجرّعها الغزاويون بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 واللبنانيون بعد 17 سبتمبر/أيلول 2024، خاصة أن سوريا عانت طوال عقد ونصف من حالة اضطراب داخلي نجم عنها قتل مئات الآلاف من السوريين ووقوع ما يقارب نصف السكان بين نازح داخلي ولاجئ في الخارج، مع خراب كبير في البنى الاقتصادية والخدمية التحتية. وعليه، فإنه ثمة تشابه بين الموقف السوري والموقف المصري المجاورة لغزة. فهناك شيء من النأي بالنفس ممزوج بتأييد سياسي للقضية الفلسطينية وليس لحركة حماس، مع خدمات إنسانية قدمتها مصر للغزاويين.
ولكن، يمكن للمرء أن يذهب أبعد والتذكير بأن دمشق كانت هي التي أعطت الرئيس جمال عبد الناصر الزعامة العربية بعد أن انحازت إليه في النصف الثاني من عقد الخمسينيات ضد رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد وحلف بغداد، وأن انفصال دمشق عن الوحدة مع القاهرة عام 1961 كان بداية الجزر للمدّ الناصري، وهو ما انطبق على طهران التي دخلت للبنان الذي كان تحت النفوذ السوري في الثمانينيات، ولم تكن قادرة على دعم حزب الله ومقاومته لإسرائيل لولا موافقة وتسهيلات دمشق. كما أن امتدادات طهران في الإقليم شرق الأوسطي من بغداد إلى الضاحية الجنوبية وغزة تنهار من دون الجسر الجغرافي السوري.
في هذا الصدد، يمكن التخمين بأن موقف دمشق من حربي غزة ولبنان يمتد (إذا عزلنا موضوع عدم الانخراط بهما لحسابات تتعلق بتوازنات القوى) لكي يكون موقفاً انتظارياً لما سيؤول إليه مشهد اليوم التالي للحربين على صعيد توازنات القوى في الشرق الأوسط، حيث ظهر مقدار الضعف الإيراني وظهرت حتى التوازنات العالمية التي كشفت فيها هاتين الحربين مدى الحضور الأميركي في الشرق الأوسط وفي رسم الخطوط الحمر والخضر والصفر فيهما، وكذلك مدى الغياب الروسي والصيني عنهما وضعف أدوار موسكو وبكين في حرب شرق أوسطية أخذت الكثير من اهتمامات العالم بالحرب الأوكرانية. فدمشق هي التي امتلكت مفتاح تغيير توازنات المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ولعل عبدالناصر كان يدرك أهمية دمشق في ذلك هو ونوري السعيد، ثم الخميني وخامنئي على التوالي. ولعل العرب أيضاً، من خلال انفتاحهم الجديد على دمشق منذ عام 2023، يدركون ذلك، إضافةً للرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يخطب ودّ دمشق بإلحاح ملفت للنظر منذ صيف 2024 في أجواء يسودها شيء من الضعف التركي.