نظرة لعالم ما بعد 7 أكتوبر
محمد سيد رصاص
أظهرت الحرب الأوكرانية عام 2022 حلفاً صينياً- روسياً في مواجهة تحالف الأطلسي- اليابان- كوريا الجنوبية- أستراليا. استخدمت أوكرانيا كساحة للمجابهة بين الحلفين، وكثيرون مازالوا يعتبرون أن زيارة الرئيس الروسي بوتين لبكين قبل ثلاثة أسابيع من الحرب قد كانت من أجل الاطمئنان لوضعية الظهير الصيني قبل بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 شباط/فبراير2022، وبعد ذلك الغزو برزت تحليلات في الصحافة الغربية ذكّرت بحلف ستالين- ماوتسي تونغ زمن الحرب الكورية (1950-1953)، وأن الحرب الأوكرنية تمثّل استعادة لذلك الحلف ولأجواء الحرب الباردة حين أعطت الحرب الكورية ذروة اشتعالية لها، وكانت تمظهراً لأول تجابه بين معسكرين على جغرافية كورية محدّدة، قبل أن تصبح الحرب الباردة (1947-1989) ساحتها الجغرافية في كل العالم، وقد قيل آنذاك بأن يوم 24شباط/فبراير2022 قد شهد محاولة انقلابية صينية- روسية على سلطة القطب الأميركي الواحد للعالم البادىء مع الانتصار الأميركي على السوفيات في الحرب الباردة عام 1989 وما أعقبه بعد سنتين من تفكك الاتحاد السوفياتي.
هنا، يمكن القول بأن حرب 7 أكتوبر 2023 الشرق الأوسطية (7أكتوبر وما بعده في نطاق قطاع غزة، و17 أيلول وما بعده امتدادها إلى لبنان، مع احتمالات انتقالها لنطاق جغرافي أوسع) قد أعطت مؤشرات على فشل محاولة انقلاب شي جين بينغ وفلاديمير بوتين في 24 شباط/فبراير 2022، حيث تبيّن مقدار الحضور الأميركي في هذه الحرب الشرق أوسطية، ومدى الغياب للصين وروسيا فيها وحدود قوتيهما، رغم أن المؤشّرات، وهذا أبرزه الرئيس الأميركي جو بايدن في مقالته بصحيفة “واشنطن بوست” 18 نوفمبر، أن عملية 7 أكتوبر كانت موجهة أساساً ضد ” الكوريدور الاقتصادي” بين الهند وأوروبا عبر جسر بري شرق أوسطي، والذي كان واضحاً من توقيعه قبل أربعة أسابيع من 7أكتوبر أنه موجه ضد مشروع “الحزام والطريق” الصيني وأنه يهدف لتأمين بديل طاقيّ (غازيّ- نفطي) شرق أوسطي للأوروبيين عن امدادات الطاقة الروسية في عالم ما بعد الحرب الأوكرانية، وكثيرون قالوا بأن عرض 2009 القطري- التركي على السلطة السورية لتأمين بديل للغاز الروسي عبر قطر للأوروبيين، من خلال أنبوب يمرّ بسوريا وتركيا، هو أحد الأسباب الرئيسية للانفجار السوري عام 2011 بعد رفض السلطة السورية لذلك العرض،أو أنه سبب رئيسي للاستثمار القطري- التركي من خلال صب الزيت على نار سورية داخلية، وأنه هو أحد أسباب رئيسية لدعم موسكو للسلطة السورية منذ عام2011 وصولاً للحضور العسكري الروسي في سوريا منذ عام 2015.
ويبدو بالنتيجة أن هذه الحرب الشرق أوسطية قد أظهرت ليس فقط بقاء القطبية الأميركية الواحدية للعالم، وعدم اهتزازها وعدم وجود اتجاه نحو تعدد الأقطاب رغم المحاولة الصينية- الروسية، بل استمرار سطوتها، مثلما ظهر ذلك في حرب خليج 1991 وفي حرب كوسوفو 1999 وغزو واحتلال العراق عام2003، حيث أظهرت واشنطن بعد يوم 7 أكتوبر القدرة على تحديد الحدود الجغرافية لتلك الحرب في نطاق قطاع غزة وعدم تحولها لحرب إقليمية شاملة عبر “وحدة ساحات” كان يريدها بنيامين ناتنياهو ويحيى السنوار وحسن نصرالله، لكن لا يريدها جو بايدن وعلى خامنئي، وكثير من المؤشرات تدلّ على ضوء أخضر أميركي لتل أبيب نحو ضرب الذراع اللبنانية الأقوى لطهران في مابعد 17 أيلول 2024، وهناك الكثير من المؤشرات على خطوط أميركية حمراء وصفراء وخضراء تحاول واشنطن فرضها على تل أبيب قبل الرد الاسرائيلي على ضربة 1 أكتوبر الإيرانية.
الملفت للنظر، هنا، مقدار تمرّد بنيامين ناتنياهو على واشنطن في مرحلة ما بعد 7 أكتوبر الماضي، وقد ظهرت قدراته التمرّدية في “محرّمات” حاولت فرضها واشنطن عليه في الحرب الغزاوية، إذ استطاع رئيس الوزراء الإسرائيلي القفز فوقها، ولكنه لم يستطع توسيع تحقيق ما أراده في الحرب على لبنان مابين 7 أكتوبر و 17أيلول، ولا ضرب إيران، حيث نجح بايدن في كبحه لبنانياً قبل اليوم المذكور، ولا يمكن التنبؤ بمدى نجاحه في كبح ناتنياهو إيرانياً وهو أمر ستوضحه حدود ضربة الردّ الإسرائيلية المتوقعة على إيران. وإذا أُريد تحليل حرب 7 أكتوبر، وهذا سينشغل به البحّاثة والمؤرخون مستقبلاً، فإن أحد العلامات البارزة فيها هو مقدار الخلاف بين واشنطن وتل أبيب أثنائها وبشكل فاق الخلاف بين الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور ورئيس الوزراء الاسرائيلي دافيد بن غوريون في حرب1956، والخلاف بين الرئيس الأميركي رونالد ريغان ورئيس الوزراء الاسرائيلي مناحيم بيغن في حرب1982، وهذا يتخطى نظريات عربية ظهرت عن طبيعة العلاقات بين إسرائيل و الولايات المتحدة، التي توزعت في منحيين: “أميركية السياسة الإسرائيلية” و”إسرائيلية السياسة الأميركية”.
إيرانياً، كانت طهران هي اللاعب الإقليمي الأكبر إلى جوار تل أبيب في الشرق الأوسط خلال الفترة الممتدة من 9 إبريل/نيسان 2003- 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. أوضحت 7 أكتوبر أن قوّة إيران في أذرعها وليس في رأسها، والذراع الأقوى هي في لبنان والثانية من حيث القوة هي الفلسطينية (وهي الذراع السُنِية الوحيدة لايران)، التي جعلت إيران جزءاً قوياً في صراع الفلسطينيين مع إسرائيل في وقت جعل “حزب الله” من طهران لاعباً كبيراً في الصراع العربي- الإسرائيلي، هذا إذا لم تكن حماس و”حزب الله” قد جعلا الصراع، من خلال إيران ودخولها فيه عبرهما، صراعاً يتجاوز مصطلح “الصراع العربي- الإسرائيلي”. وقد أظهرت ضربة ليلة 13-14نيسان/إبريل الإيرانية لإسرائيل ضعف القوة الإيرانية ، فيما أعطت ضربة الأول من أكتوبر قوة أكبر لايران، ولكنها لم تكن مؤلمة بشرياً ومادياً وعسكرياً، ولكنها أظهرت قدرة إيرانية نسبية على الإيذاء.
عملياً، تبيّن الضربتان أن “حزب الله” وحماس والحوثيون ثلاثة أسلحة ايرانية أكثر تأثيراً من القدرات العسكرية الإيرانية. وعلى الأرجح إن هذا الذي جعل خامنئي يتجنّب الحرب الإقليمية ويتجنب حتى “وحدة الساحات” في ما بعد 7 أكتوبر، وأن هذه القراءة للضعف الايراني هي التي فتحت شهيّة ناتنياهوعلى ضرب إيران واستفزازها وخاصة من خلال عملية اغتيال إسماعيل هنية في مقر الضيافة الرسمية الإيرانية بطهران في 31 تموز\يوليو، وقبلها في ضرب القنصلية الإيرانية بدمشق يوم 1 نيسان/إبريل التي تعتبر وفق القانون الدولي أرضاً إيرانية. يمكن هنا التفكير في أن تصعيد خامنئي لرئيس اصلاحي ، والانتخابات الايرانية في كل أشكالها مسبقة الصنع لحد كبير، هو قراءة منه لهذا الضعف الإيراني ، الذي يبدو أنه اكتشفه بعد 7 أكتوبر وفي قراءة جديدة منه لمدى البعد عن الواقع لقراءاته السابقة بمرحلة ما قبل 7 أكتوبر عن “الضعف الأميركي” والتي دفعته للانضمام عملياً إلى الحلف الصيني- الروسي منذ خريف 2022 وإرسال المسيرات الإيرانية للروس في حربهم مع أوكرانيا. وفي هذا المجال، يبدو أن خامنئي يريد إغواء بايدن (ومن بعده هاريس إن فازت بالانتخابات) بصفقة إيرانية – أميركية جديدة من خلال “حلوى مسعود بزشكيان- جواد ظريف”، على طراز صفقة الاتفاق النووي الإيراني عام 2015 التي وقّعها ظريف، والأرجح أن ناتنياهو من خلال محاولاته ضرب إيران يريد ضرب هذه الصفقة المحتملة وتخريبها قبل أن تقع، كما أن المحاولات الأميركية لوضع خطوط حمراء أمامه في عملية ضرب إيران هي لمنع التخريب الإسرائيلي لها، ومن المحتمل أن عدم ممانعة واشنطن في كسر الذراع اللبنانية الأقوى لطهران، وقبلها ذراعها الفلسطينية والسنية، هو من أجل الاتيان بإيران ضعيفة إلى مفاوضات أميركية- ايرانية مقبلة، فيمايريد ناتنياهو توجيه ضربة قاضية لايران. من المحتمل في هذا الصدد، إن بقيت المؤشرات الظاهرة التي تقول بأن إيران وأذرعها ستخرج خاسرة من الحرب الحالية، وأن يصبح بزشكيان هو غورباتشوف الإيراني ، وغورباتشوف الذي أتى عام1985، إثر انهيار توازنات الحرب الباردة بين العملاقين الأميركي والسوفياتي بعد (مبادرة الدفاع الاستراتيجية: حرب النجوم) عام 1983 التي قالت بإمكانية تجاوز حالة الإفناء النووي المتبادل، كان قد جاء لتقديم سياسة خارجية سوفياتية جديدة تلائم هذا الاختلال في التوازنات الدولية، وقوله بالإصلاح الداخلي من خلال “البيريسترويكا” و”الغلاسنوست”، كما كان مبنياً على ضرورة ترجمة الجو الدولي الجديد بالداخل السوفييتي. ورث غورباتشوف الحالتين عند بريجنيف وأندروبوف – قبل مرحلة قصيرة لتشيرنينكو- حيث النجاح في السياسة الخارجية بالترافق مع اقتصاد مأزوم وغالبية اجتماعية غير راضية. وهو ما يماثل الوضعية الإيرانية في ظل حكم خامنئي.
عربياً، كان ملفتاً أن تكون حركة فتح في فلسطين أول من قال عن عملية 7 أكتوبر أنها مغامرة ستُخسِر الشعب الفلسطيني و”تقوده إلى نكبة جديدة “، في وقت حتى الآن لم يتجرّأ أحد من العرب على قول ذلك، و حتى الآن وباستثناء ياسين الحافظ وإلياس مرقص في الستينيات لم يقدّم أحد من العرب أطروحات فكرية – سياسية ضد نزعات “المغامرة الحربجية”، التي لا تحسب الحروب وتزنها وفق ميزان القوى قبل شنها وبعد انتهائها، والتي أحرجت الرئيس جمال عبدالناصر وعابت عليه حرية الملاحة في مضائق تيران ووجود قوات الطوارىء الدولية في شبه جزيرة سيناء وشرم الشيخ مع أن هذا كان ثمناً لانسحاب إسرائيل من سيناء وقطاع غزة بعد حرب 1956، وهي نزعات اشترك بها كل خصوم الرئيس المصري من أكرم الحوراني إلى السعودية والأردن، والحافظ ومرقص كانا لوحدهما في فترة ما بعد هزيمة 1967عندما وقفا ضد نزعات “حرب التحرير الشعبية” وضد شعار تحويل “عمّان إلى هانوي ثانية”، ووقفا مع عبدالناصر لمّا وافق على القرار 242 وعلى مشروع روجرز.
من جهة ثانية، كان هناك انقسام عربي تجاه حركة حماس وحزب الله في حرب 7 أكتوبر، وهو انقسام شمل الأنظمة والمجتمعات العربية، وهي حالة لم نجدها في حرب 1967 لمّا تضامن المتخاصمون مع عبدالناصر في الحرب ثم تصالح معه الملك فيصل بن عبدالعزيز في قمة الخرطوم وطويا خصومة مريرة بين الرياض والقاهرة في حرب اليمن. والأرجح أن هذا الانقسام سببه ارتباط حماس وحزب الله بطهران، ثم الدور الذي لعبه حزب الله في سوريا والعراق واليمن، ويبدو أن ما قاله ماوتسي تونغ عام1937 عن “التناقض الرئيسي” ، لتجميع الصينيين ضد المحتل الياباني، لم يعد فعّالاً عند العرب بفعل مرارتهم من دور طهران في المنطقة هي وأذرعها، مع قراءة عند عرب كثيرين بأن إيران تستخدم القضية الفلسطينية كورقة ضغط على واشنطن من أجل اعتراف الأخيرة بها بوصفها “القوة الاقليمية العظمى”، وهذا سرّ اندفاعة ناتنياهو نحو توجيه ضربة قاضية لإيران، وسر منع واشنطن له القيام بذلك.
كتكثيف: بعد يومين من اغتيال أمين عام حزب الله، قال ناتنياهو الكلام التالي: “نحن نقوم الآن بتغيير الواقع الاستراتيجي في الشرق الأوسط..هذا التغيير في توازن القوة يجلب معه امكانية تحالف جديد في المنطقة”. وبالتأكيد عينه على السعودية، وهو الذي دعا في خطابه بالجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 27 أيلول، الذي دخل لإلقائه بعد أن أمر ببدء عملية اغتيال حسن نصرالله، إلى “انزياح في التاريخ …نحو مصالحة بين العالم العربي وإسرائيل، بين الإسلام واليهودية، بين مكة وأورشليم”. هنا يلفت النظر عدم ذكره الأزهر والنجف، ومفهوم هو عدم ذكره “قم”، ولكن من الواضح أن رئيس الوزراء الإسرائيلي تمنعه اعتقاداته الأيديولوجية من رؤية أن إسرائيل لا تستطيع ترجمة قوتها العسكرية في السياسة على صعيد الاقليم الشرق أوسطي باتجاه مقبولية لها من الناحية السياسية من دون حل القضية الفلسطينية وحل قضية الأراضي السورية المحتلة في مرتفعات الجولان، فهي تملك فائضاً في القوة العسكرية والتكنولوجية لا تستطيع صرفه في السياسة والاقتصاد من دون ذلك، والأصعب من ذلك أن يصرف ذلك في الفكر والثقافة وفي المقبولية لها من الفرد العربي العادي، وهذا مختلف عن موضوع الأنظمة أو بعض المثقفين الذين قالوا بالتطبيع منذ “كامب دافيد” و “أوسلو”. السعودية كانت صريحة بأن لا علاقات مع إسرائيل من دون دولة فلسطينية، وهذا بالتأكيد يدركه شخص أقل تشدداً من ناتنياهو هو الرئيس الإسرائيلي هرتسوغ عندما دعا مؤخراً إلى “بنية شبيهة بحلف الأطلسي في المنطقة”. هنا، يجب عقد مقارنة بين خطب ود لبعض العرب، أو أكثرهم، من قبل نتنياهو في ظل إحساسه بالخطر الإيراني فيما كان دافيد بن غوريون مع صعود قوة عبدالناصر يفكر بالتحالف مع شاه إيران وعدنان مندريس والامبراطور الاثيوبي هيلا سيلاسي، ولكن هذا يوحي أيضاً بأن هناك غروباً في قوة إيران وقراءة عند ناتنياهو لهذا الغروب، بالترافق مع مؤشرات كثيرة على غروب قوة تركيا، وأن هناك قراراً دولياً مأخوذاً في واشنطن وليس في تل أبيب لصعود قوة السعودية ومعها الخليج، وبالتأكيد كما كان فراغ القوة عند العرب مصحوباً بصعود قوتي طهران وأنقرة في ربع قرن مضى من القرن الواحد والعشرون، فإن ضعف قوتي تركيا وإيران سيقود إلى صعود قوتي العرب والكرد في الإقليم. ويمكن أن يكون كلام هرتسوغ عن “ناتو شرق أوسطي” في قراءة منه لامكانية تحقق ذلك ليس بسبب قوة اسرائيل بل بسبب تخلي واشنطن عن سياسة أوباما الانسحابية من المنطقة والانزياح نحو الشرق الأقصى لمجابهة الصين، واتجاهها الآن للعودة إلى الشرق الأوسط لاستخدامه للضغط على بكين التي تستورد من الشرق الأوسط معظم حاجتها من النفط وللضغط على روسيا التي تحاول الامتداد نحو المياه الدافئة مثل القياصرة عبر ايران والبحر الأبيض المتوسط .