في الحرب المندلعة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، والتي لا تشبه أياً مما سبقها من حروب، انتصرت هذه المرة أيضاً التكنولوجيا وبشكل ساحق على التاريخ والإيمان الروحي بالنصر.
وإذا كان هناك درس بليغ من كل هذه المواجهات، سيكون هذا التحول الذي نقرأ عنه منذ سنوات وتجسد مؤخراً ورأيناه رؤيا العين مع إسرائيل التي تمنع خصومها من التنفس من الضربات المتلاحقة المضبوطة بتفوق تكنولوجي هائل.
كان الشيخ محمد بن زايد، رئيس دولة الإمارات، في نيويورك قبل الحلقة الأخيرة من التصعيد واغتيال حسن نصر الله. تجاوز محمد بن زايد الحديث عن الحرب الطاحنة في الشرق الأوسط وهو يخاطب مجموعة من الأكاديميين والطلاب الإماراتيين في واشنطن بكلمات مختلفة، ليس فيها تاريخ وتفاخر وسيادة لفظية كما درجت عادة الزعماء العرب. إذ قال بوضوح وجدية وشيء من التحذير لأن الوقت قد ينفد بدون سرعة التحرك إن «من يمتلك التكنولوجيا، وخاصة الذكاء الاصطناعي، يمتلك الثروة والقوة معاً. إن المعرفة هي ثروة المستقبل». شرح الشيخ محمد كيف أن القوة تلحق الابتكار وليس العكس، وحثهم على اختيار تخصصات تخدم توجهات البلاد الجديدة لأن «الإمارات تمر بمرحلة جديدة متسارعة تتطلب كوادر وطنية نوعية».
وبوضوح وشفافية، أعلنت الإمارات قبل بدء زيارة محمد بن زايد ولقائه الرئيس جو بايدن وكبار المسؤولين الأميركيين أن التكنولوجيا تتصدر أجندة الزيارة، ولم تأت على الملفات السياسية إلا بشكل عابر. ويأتي الاجتماع خلال أول رحلة رسمية للشيخ محمد بن زايد إلى الولايات المتحدة منذ سبع سنوات، إذ يظهر تصميمه على ضمان دعم البيت الأبيض في جهوده لتحويل دولة الإمارات إلى رائدة في مجال الذكاء الاصطناعي حيث تسعى إلى تفادي الحظر الأميركي على تصدير تكنولوجيا الرقائق إلى دول الخليج المقربة من الصين.
وقال أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي لرئيس الإمارات، في دبي الأسبوع الماضي خلال إحاطة عن الزيارة إن «تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي ستغير الطريقة التي يبدو بها العالم، ولا يمكننا السماح لهذا النوع من موجة الابتكارات التكنولوجية بتجاوزنا».
واجتمع مستشار الأمن الوطني الإماراتي الشيخ طحنون بن زايد بالملياردير الأميركي إيلون ماسك وكذلك جيف بيزوس. وتباحث حول عدد من الصفقات الخاصة بالتكنولوجيا. كما التقى رئيس الإمارات بعدد من كبار رواد التكنولوجيا في واشنطن لعقد شراكات في قطاع التقنية. وأسست الإمارات عدداً من الشركات المعنية بتنظيم تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. وأقرت إمارة دبي كذلكتدابير تشريعية تستوعب التطورات التكنولوجيا القادمة، فيما أصبح الذكاء الاصطناعي جزءاً من الحياة الإدارية اليومية في البلاد، وبشكل أسرع بما لا يقارن من أي دولة خليجية وإقليمية أخرى. وتحتاج الإمارات إلى تكنولوجيا تكميلية وأساسية لدخول عصر الذكاء الاصطناعي كمنتج لا كمستهلك فقط، وهذه التكنولوجيا ما زالت في أيدي الولايات المتحدة وحدها.
إنه منطق جديد وعالم جديد لم تدخله المنطقة بعد إلا فرادى، ومنها إسرائيل التي أذهلت خصومها بقدراتها العسكرية القائمة على قوة التكنولوجيا خلال عام قاسٍ من الحرب على سبع جبهات مختلفة. لكنها تبدو أقوى من أي وقت مضى، رغم أن خصومها ازدادوا قوة بما لا يقاس مقارنة مع آخر حرب كبيرة في العام 2006 مع حزب الله. لكن، بينما حافظ الخصوم على الخدع التكتيكية، مثل هجمة 7 أكتوبر على إسرائيل أو القدرة على إطلاق الصواريخ مثل حزب الله، فإن خصوم إسرائيل تخلفوا عنها كثيراً في السنوات الأخيرة لدرجة أن الحرب الحالية أظهرت وكأن الجانبان ينتميان إلى عصرين مختلفين، حيث نجحت إسرائيل في تفخيخ أجهزة اتصالات حزب الله وتفجيرها في وقت متزامن. كما لاحقت قيادات الحزب واغتالت معظمهم، وآخرهم حسن نصر الله الذي كان اغتياله أقرب للخيال.
لقد تأخر خصوم إسرائيل في الوصول إلى التكنولوجيا. وهذه ثمرة من ثمرات طويلة الأمد للعقوبات الأميركية ومزيج من الكسل المعرفي الابتكاري لإيران وحلفائها في الشرق الأوسط وعدم تحررهم من ثقافة تجميع المادة المتفجرة «تي إن تي» ووضعه في مخروط معدني وإطلاقه كما يفعل الحوثي. حتى بالنسبة لنموذج تركيا، التي تمتلك شيئاً من التكنولوجيا المتقدمة العسكرية، تفترق أنقرة عن استخدامات إسرائيل للتكنولوجيا بأن ما لدى الأولى محصور في الطائرات المسيرة ولأغراض تجارية تسويقية للبيع والربح، وأيضاً تسخيرها لتعطيل ديناميات القيادة الكردية في كل مكان تطاله، الأمر الذي تنبه له حزب العمال الكردستاني منذ عام 2018 حين أعلن القيادي في العمال الكردستاني مراد قريلان تغييراً شاملاً في تكتيكات العمليات تحت شعار “مرحلة التكنولوجيا في حرب الأنصار – الكريلا”. كما تختلف التكنولوجيا التركية عما تسعى الإمارات إلى امتلاكه، وهي أن أبوظبي تريد بشكل عاجل دمج الذكاء الاصطناعي بالحياة اليومية والإدارية والاقتصادية ثم تصدير المعرفة وإدخاله عنصراً قائداً للتنمية الاقتصادية، بينما لا ينعكس أي تطور تقني في تركيا على هذه القطاعات وعلى الحياة اليومية للمجتمع.
من اللافت أن الصراع والاضطرابات الأمنية تحرف مقاصد التكنولوجيا إلى خدمة العنف في مناطق الحروب والصراعات. فمن يمتلك التكنولوجيا لا يمتلك القوة والثروة فحسب بل يضاف لهما – في حالات الحرب والتهديد- أنها تضمن له النجاة من الإبادة، وتمكّنه- بشكل مؤسف – من إبادة العدو ومجتمعه معاً في المنطقة التي وصفها نتانياهو بـ«الأكثر عنفاً على وجه الأرض». وهو بالطبع من رواد العنف وفَهِم العنف في آن، إذ سخّر التكنولوجيا فائقة التقدم لأغراض العنف ولمواجهة العنف والهجوم على ما يعتقد أنه «عنف مختبئ لدى أعدائه».
لعل من المفارقة أن الفضل في إسرائيل يعود إلى نتانياهو في سرعة تطور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. فعلى سبيل المثال، يروي نتانياهو أنَّه في عام 2011 اتصل به البروفيسور إسحاق بن إسرائيل، وهو عسكري سابق يقدم له النصح في القضايا العلمية، قائلاً: «أريدك أن تقرأ هذا الكتاب». فسأله نتانياهو: «ما نوعه؟»، فأجابه إنها «رواية».
رد نتانياهو: «أنا لا أقرأ الروايات. فأنا أقرأ في التاريخ والسير الذاتية والفلسفة السياسية وعلم الآثار والتكنولوجيا والاقتصاد».
أصر إسحاق قائلاً: «سترغب في قراءة هذا».
تناول الكتاب حرباً سيبرانية مستقبلية مفترضة بين الولايات المتحدة والصين.
اتصل نتانياهو بإسحاق بن إسرائيل في اليوم التالي قائلاً له: «بقيت مستيقظاً طوال الليل وأكملت قراءة الكتاب. تعال في أسرع وقت ممكن». كان هذا في عام 2011.
يضيف نتانياهو: «في حين أن لدى إسرائيل قدرات سيبرانية فعلاً، أقنعني الكتاب أنه يتعين علينا المضي قدماً بسرعة، وشكلت لجنة إرشادية مع بن إسرائيل وسكرتيري العسكري يوهانان لوكر لتطوير المؤسسات والتمويل والإجراءات لإدخال إسرائيل بقوة في عصر الفضاء السيبراني. كان السبب الأول لهذا التحرك هو الأمان. لا يمكن أن نكون منعزلين عن هذه التكنولوجيا الجديدة القوية التي يمكن على سبيل المثال أن تعطل شبكة الكهرباء في البلاد. وقلت في كلمة بجامعة تل أبيب في 2011 ‘في غضون سنة واحدة، يجب أن تكون إسرائيل من بين القوى السيبرانية الأولى في العالم’».
كان إدخال القوة السيبرانية ضمن مجالات القوة شبيهاً بإدخال القوة الجوية في الحرب العالمية الأولى. وتطلب إنشاء قوة جديدة تماماً ذات عقيدة جديدة. وهو ما استلزم استثمارات ضخمة في الجيش والموساد والشاباك، إلى جانب برامج لتجنيد الطلاب الأكثر موهبة منذ الصغر وإنشاء أقسام جامعية جديدة، كما استلزم إنشاء مركز وطني للدفاع السيبراني لحماية الشركات الإسرائيلية. ولحل معارك النفوذ البيروقراطية بين الأجهزة الأمنية، أسست المقر الوطني السيبراني في 7 أغسطس/آب 2011، وخصصت المسؤوليات والمهام وعينت الأشخاص لتنفيذها. لقد ساعد الاستثمار الحكومي الهائل في الأمن السيبراني في تأسيس مئات شركات السيبر الجديدة. لقد تنافسوا مع بعضهم البعض، وفق ما يقول نتانياهو. فما بدأ كتحدٍ أمني، تطور الآن إلى فرصة اقتصادية عظيمة. ففي العالم الرقمي، هناك حاجة إلى الحماية السيبرانية في كل مكان. بحلول عام 2017، استحوذت إسرائيل على ثاني أكبر عدد من صفقات الأمن السيبراني على مستوى العالم بعد الولايات المتحدة.
الانتصارات الإسرائيلية الأخيرة في الحرب نتيجة مباشرة لقرار البلاد بتخصيص المزيد من موارد الاستخبارات لاستهداف حزب الله بعد حربها عام 2006. كانت لحظة حاسمة للاستخبارات الإسرائيلية. لقد فشل الجيش الإسرائيلي وأجهزة الاستخبارات في تحقيق نصر حاسم في ذلك الصراع الذي دام 34 يوماً (حرب تموز).
لقد أمضت إسرائيل الوقت منذ ذلك الحين في تعزيز ما كان يعتبر بالفعل واحدة من أفضل عمليات جمع المعلومات الاستخباراتية في العالم. وتم استثمار الكثير من الجهد في الموساد والاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، والتي أصيبت بالإحباط بعد حرب عام 2006 بسبب أوجه القصور في جمع المعلومات الحيوية حول قيادة حزب الله واستراتيجيته. ونتيجة لذلك، قامت الوحدة 8200، وهي وكالة استخبارات الإشارات الإسرائيلية، ببناء أدوات سيبرانية متطورة لاعتراض الهواتف المحمولة وغيرها من الاتصالات الخاصة بحزب الله بشكل أفضل، وأنشأت فرقاً جديدة داخل صفوف القتال لضمان نقل المعلومات القيمة بسرعة إلى الجنود والقوات الجوية. كما بدأت في إرسال المزيد من الطائرات بدون طيار وأقمارها الصناعية الأكثر تقدماً فوق لبنان لتصوير معاقل حزب الله بشكل مستمر وتوثيق حتى أصغر التغييرات في المباني التي قد تكشف، على سبيل المثال، عن مستودع للأسلحة.
في ظل هذا التفوق التكنولوجي الإسرائيلي، وعدم تأثر نتانياهو بتكتيكات “محور المقاومة” الإعلامية في إظهار الجانب الإبادي فقط من التفوق الإسرائيلي، فإن الإمارات هي الدولة العربية المؤهلة والتي تحاول ملء هذا الفراغ التكنولوجي، فيما تستمر تركيا في مسارها الخاص المقيد والمثقل بهواجس المؤامرات عن “تقسيم تركيا”، الأمر الذي يعيق انطلاقتها التكنولوجية الشاملة.
لقد تمادت إسرائيل جداً – وفق تعبيرات محور الممانعة – رغم ذلك، لا جرأة حتى الآن على الرد المباشر والشامل، ربما لأن صانع القرار الأول في هذا المحور أدرك ولو متأخراً أن هذا ليس “عصر الممانعة”.