لا جديد في إمارات الرعب بالشمال السوري

شورش درويش

لم يثر تقرير «اللجنة الدولية للتحقيق بشأن سوريا» الصادر في 9 سبتمبر/أيلول الجاري، وتسجيله انتهاكات مروّعة تقوم بها ميليشيا «الجيش الوطني السوري» الموالية لتركيا في عفرين وريف حلب الشمالي وسري كانيه/ رأس العين، أيَّ ردود أفعال تذكر، حتى بالنسبة لأولئك الذين يبدون شيئاً من الرهافة وتسجيل المواقف تجاه قضايا عنفيّة متطرّفة تحصل في بلدان اللجوء الأوروبية. يبدو من ذلك أن التقرير وإدانة اللجنة سيجري تجاهلها شأن تقارير حقوقية وأممية أسبق، الأمر الذي سيوفّر للإقطاعات العسكرية الإجرامية ومتزعميها فرصة مراكمة الانتهاكات والاستمرار في أفعالهم المتوحشّة. والأخطر من ذلك أن تستمر حالة «التطبيع» مع انتشار أنباء الانتهاكات اليومية والاعتياد على سماعها، واعتبار ما يجري في مناطق الاحتلال التركي وسيطرة فصائل «الجيش الوطني» مجرّد أحداث اعتيادية تحصل في سياق سوريّ عام يعاني من تضاعيف غياب الأمن والاستقرار والحل السياسي.
يوثّق التقرير للجرائم الواقعة منذ مطلع العام الجاري وحتى شهر يونيو/حزيران، والتي شملت طائفة مروّعة من الانتهاكات المرتكبة بحق النساء والرجال. التعذيب الجسدي الذي يشمل الضرب والشَبْح والصعق بالكهرباء خلال فترة الاحتجاز، وصولاً إلى تجريد المحتجزين من ثيابهم وتركهم في زنانزين باردة فارغة ومتسخة يفتقر فيها المحتجزون/ات للطعام والرعاية الطبية. داخل هذا الجحيم المجسّد يجري أيضاً احتجاز الأمهات والأطفال وعمليات الابتزاز المالي لأجل تقديم الطعام لهم أو اتصالهم بذويهم، فيما سجّل التقرير عمليات التعذيب الجنسي والتعذيب الجنساني وحصول حالات اغتصاب للنساء داخل وخارج أماكن الاحتجاز. فضلاً عن مواصلة الفصائل جريمة مصادرة الممتلكات أو المطالبة بأموال طائلة في سبيل إعادتها لأصحابها الكرد.
تتنوّع مراكز الاحتجاز بحسب سيطرة كل فصيل حظي بإقطاعه العسكريّ الخاص. فأماكن الاحتجاز التابعة لـ«فرقة السلطان سليمان شاه» (العمشات) تقع في الشيخ حديد وعفرين، و«السلطان مراد» (الحمزات) في حور كلّس وإعزاز، ويتبع سجن المعصرة الواقع في منطقة إعزاز لـ«الجبهة الشامية». أما «الشرطة المدنيّة»، فلديها سجنها بمبروكة في ريف رأس العين/سرى كانيه. لكن واقع الحال يكشف عن وجود عشرات المعتقلات الخاصة ومراكز الاحتجاز المنتشرة على كامل رقعة مناطق الاحتلال التركي.
في فبراير/شباط الماضي نشرت «هيومن رايتس ووتش» تقريراً مطوّلاً من 75 صفحة عن الأوضاع في عفرين حمل اسم «كل شي بقوة السلاح: الانتهاكات والإفلات من العقاب في مناطق شمال سوريا التي تحتلها تركيا». ولعل من بين أبرز الجمل المفتاحية في التقرير كان اعتبار تركيا مسؤولة عن ما يجري في عفرين ذلك أنها سلطة احتلال مباشر «المسؤولون الأتراك ليسوا مجرد متفرجين على الانتهاكات، بل يتحملون المسؤولية باعتبارهم سلطة الاحتلال، وفي بعض الحالات، كانوا متورطين مباشرة في جرائم حرب مفترضة في ما تسميه تركيا [منطقة آمنة]». غير أن التقرير الذي احتوى معلومات خطيرة جرى تجاهله، مثلما جرى تجاهل العقوبات التي فرضتها الخزانة الأميركية على فصيل «أحرار الشرقيّة» عام 2021، وفصيلي «الحمزات» و«العمشات» عام 2023.
واقعياً، لا تشكّل الإدانات المحلّية التي يضطلع بها الكرد السوريون ولا التقارير الحقوقية والأممية أو عقوبات الخزانة الأميركية أي فارق في سيرورة عمل مرتكبي الجريمة المستمرة في عفرين ورأس العين، إذ إنها تستمر، رغم كل ما يقال ويكتب، مستفيدة من الغطاء التركي العسكري والأمني. فوق أن بعض الفصائل كفرقة «السلطان مراد» جمعت العمل الإجرامي بالبعد القومي المحبّذ تركياً، إذ باتت تعرّف عن نفسها كفصيل تركمانيّ الأمر الذي يمنحها طبقة إضافيّة من الحماية والرعاية، فيما تشتغل بقية الفصائل على هدي ما تقرره المخابرات التركية وتنشط في تنفيذ الجزء الأكثر قذارة في الحرب على السكان المحليين.
يشابه الدور الوظيفي لفصائل «الجيش الوطني» أدوار المجرمين الصغار في الأفلام المبتذلة التي تدور حول أنشطة العصابات، حيث يتبرّع أحد المجرمين بتحمّل أعباء الجرائم التي يرتكبها زعيم العصابة. ورغم معرفة القاضي والصحافة والرأي العام بمتسبّب الجرائم، إلّا أن إقرار عضو العصابة أمام قوس المحكمة كفيل بإبعاد التهم عن الزعيم. بكلمات أخرى، لا يجب النظر إلى انتهاكات فصائل «الجيش الوطني» كجهاز تنفيذي لارتكاب الجرائم على أنها اعتباطية أو تحدث فقط لأن عصابة مسلّحة قررت ارتكابها سعياً وراء الأموال أو انعكاساً لشرٍّ محض، بل يتعيّن النظر إلى من يصدّر الأوامر ومن يطلق يد العصابات ويحافظ على النظام العنصريّ الموجّه ضد الكرد. ومن المفيد القول إن التعامل مع العصابات المسلّحة لا يحتاج إلى كتابة الأوامر، ذلك أنها تحدث مشافهة أو أن صمت المسؤول الرئيسي (تركيا) يعني القبول بما يحدث. هل يعني ذلك أننا أمام جريمة كاملة لا تترك فيها تركيا بصماتها في مسرح الجريمة؟ قطعاً، ذلك أن الانتهاكات في عفرين ورأس العين ومجمل الشمال المحتل تتحمّل مسؤوليتها تركيا بوصفها قوّة احتلال وحليف أوّل للفصائل، وتتحمّل مسؤوليتها مظلتهم السياسية والإدارية، «الائتلاف» و«الحكومة المؤقّتة» و«وزارة دفاعهما»، وحتى «المجلس الإسلامي السوري» الذي أصدر فتاوى القتل والسلب مطلع عملية احتلال عفرين عام 2018 .
بعد قليل من صدور تقرير اللجنة الدولية للتحقيق بشأن سوريا، حصلت جريمة اعتداء بالضرب على نسوة قرية كاخرة بعفرين، ليجري تسليط الضوء على متزعم فرقة «العمشات» محمد الجاسم أبو عمشة، والذي يجمع، إلى جانب سلوكه الإجرامي، مسحة تهريج في شخصيته. لكنّ التهريج ومسحة البلادة الظاهرة على محيّاه وخطاباته ورسائله الصوتية لا ينبغي أن تُبعد عنه صفة المجرم الخطير. وفي المقابل، لا ينبغي النظر إلى أبو عمشة وتوأمه سيف بولات، متزعم فرقة «الحمزات»، وأمثالهما في ميليشيا «الجيش الوطني» على أنهم محض آلات قتل وسلب وعنف مستطير في يد حكومة رجب طيب أردوغان وشريكه في الحكم دولت بهجلي الذي استقبلهما قبل قرابة شهرين، أو أنهما مجرّد أعضاء جدد انخرطا في أنشطة منظّمات الجريمة المنظمة التركية على ما قالته لقاءات أبو عمشة وبولات مع علاء الدين تشاكيجي أحد أشهر زعماء المافيا التركية.
لعلّ أهم ما يمكن أن يقال في وصف الجرائم المستمرة شمال سوريا هو وجوب إبقاء الضوء مسلّطاً على دور الحكومة التركية؛ فالمؤكّد أنها الطرف الوحيد القادر على وقف الجرائم العنصرية في عفرين ورأس العين باعتبارها من يدير هذه الجرائم والمستفيد الأكبر من نتائجها. أما وضع الكرد في مواجهة جماعات إرهابية هنا أو فصائل مرتزقة مجرمة هناك، فهو بالتحديد ما تريده أنقرة من خلال القول إن مشكلة الكرد ليست مع تركيا فحسب إنما مع الكثير من العرب والتركمان، والدليل هو ما يحصل في الشمال السوري. هذه العقلية التركية قد تلزم الكرد على التمييز بين مرتكب الجريمة الفعليّ وبين أداته، دون إعفاء الأخير من المسؤولية.
بالعودة إلى تقرير اللجنة الدولية الأخير، وربما التقارير المتوقّعة اللاحقة، فإن من يطّلع عليه سيخرج بجملة مفجعة مفادها أن لا جديد تحت حكم إمارات الرعب التركية.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد