العرب عام 1926

هل خدع الوطنيون السوريون فرنسا في مؤتمر السلام 1919؟

نشر هذا المقال (العالم العربي عام 1926) في مجلة «فورين أفيرز» الأميركية قبل 98 عاماً، وتحديداً في أبريل/نيسان 1926.
الكاتب البريطاني ديفيد ج. هوغارث، رئيس الجمعية الجغرافية الملكية؛ أمين متحف أشموليان، أكسفورد؛ مؤلف عدد من الأعمال التاريخية والأثرية التي تتناول الشرق الأدنى والأوسط. وهو شخص لديه معرفة جيدة بمنطقة الشرق الأوسط. وخلال الحرب العالمية الأولى، كان هوغارث من المتطوعين البحريين، وعمل مع شعبة المخابرات البحرية البريطانية. وخلال عام 1916، كان مدير المكتب العربي في الخارجية البريطانية. 
كتب هوغارث هذا المقال قبل أسابيع فقط من حسم مصير ولاية الموصل، والبلاد العربية واقعة حينها بمعظمها تحت الاحتلالات الأوروبية. وكتب هوغارث مقالته قبل وفاته بعام واحد عام 1927، وحاول تقديم صورة معرفية استشراقية عن مجتمعات سوريا والعراق بالتحديد، ولم يكن صائباً في العديد من هذه الآراء لكنه رسم بعض الجوانب المهمة في المجتمعات العربية وتمايزها عن بعضها البعض، والعلاقات الرخوة بين العراق وسوريا، وكذلك بين المدن السورية نفسها. 
أدناه المقال كاملاً:

العالم العربي اليوم 

ديفيد ج. هوغارث

إن العالم العربي هو العالم الذي يتكلم اللغة العربية. واللغة هي الاختبار الوحيد الصالح لتحديد ملامحه، وهو أفضل كثيراً من الاختبار الجغرافي. صحيح أن العالم العربي منطقة متصلة تضم كل الشعوب الناطقة بالعربية (باستثناء المنفيين الطوعيين الذين يعيشون في إندونيسيا وأميركا وشرق أفريقيا وغيرها من المناطق الأجنبية)؛ ولكن نفس المنطقة تضم عدداً كبيراً للغاية من المتحدثين بألسنة أخرى ـ مثل التركية، أو الكردية، أو الأرمنية، أو العبرية، أو الأمازيغية، أو بعض اللغات الأوروبية ـ الذين يرتبط نطقهم غير العربي دائماً بعدم وجود مجتمع واعٍ مع العرب، أو تعرضهم للازدراء الاجتماعي.
والعامل الديني في تحديد العالم العربي سيكون أكثر خطأ من العوامل السابقة؛ ذلك أن الأقليات المسيحية، التي لا تعيش في العالم العربي فحسب، بل تشكل أحد الأصول التاريخية له أيضاً، كثيرة. ومن هؤلاء الأقباط المصريون والعديد من الطوائف التي تحمل في سوريا اتجاهاً مؤيداً للعروبة، يعود تاريخ عروبة المسيحيين إلى تاريخ سحيق عندما دفعت الكراهية مع اليونانيين هؤلاء المسيحيين السوريين إلى تأييد القوات العربية التي يقودها صحابة النبي محمد. من ناحية أخرى، وبشكل عام، فإن جميع المجتمعات التي تعد العربية لغتها الأم، بغض النظر عن أصولها العرقية، تشعر بشكل أو بآخر بأنها جزء من مجتمع عربي متكامل.
الانقسام بين العرب في آسيا وأفريقيا ليس مجرد تصنيف نظري. إنه يعكس بالفعل اختلافات في الرؤية السياسية. بينما تشعر مجتمعات العالم العربي الآسيوي بنوع من الشعور السياسي المشترك، ولو كان ضعيفًا هنا أو هناك، فإن المجتمعات العربية الأفريقية لا تشعر بأي تضامن سياسي تجاه العرب الآسيويين (أو حتى تجاه إخوانهم الأفارقة)، رغم وجود القواسم المشتركة الدينية واللغوية، ووجود عدد كبير منهم يتمتع بأنقى سلالة عربية كما في آسيا. هذا الانقسام يعود إلى الاختلاف في الظروف الجغرافية، ولكن بشكل أساسي إلى الاختلاف في الظروف السياسية.
والواقع أن الظروف المادية للحياة في شمال أفريقيا ليست مختلفة كثيراً عن الظروف لدى عرب آسيا لتفسير هذا التباين في الشعور، كما أن البحر الأحمر، الذي تضرر بسبب بر السويس، لم يكن يشكل حاجزاً جغرافياً قوياً في أي وقت مضى. ومن ناحية أخرى، فإن مصر، التي لم تكن عربية عرقياً، والتي سيطر عليها الأجانب غير العرب طيلة الألف عام الماضية، وتعرضت التأثيرات الأوروبية طيلة قرنين من الزمان على الأقل، كانت هي الحاجز بين عرب شمال أفريقيا وعرب آسيا.
الفنان الروسي سيرج يوريفيتش ينحت تمثالاً للزعيم الوطني المصري سعد زغلول باشا عام 1926 | أ.ف.ب
لقد أثار الاحتلال الأوروبي لبلدان عربية العديد من الحركات الثورية المضادة، وكانت ثورة عبد الكريم الخطابي في الريف المغربي آخرها؛ ولكن من المهم أن نلاحظ أن الثورة الأكثر شمولاً والأكثر شهرة على الإطلاق، الثورة السنوسية، لم تنطلق تضامناً مع قضية عربية عامة، بل كانت انسحاباً من كل ارتباط بأي مجتمعات أخرى مقابل عزلة هادئة. وعلى هذا، وبما أن موضوعنا هو العالم العربي، والذي لابد وأن يكون له بعض الأمل في أن يصبح كياناً يحظى بالاعتراف، فإنني لا أتحدث عن كتلة أفريقيا، بل أقتصر على الكتلة الآسيوية من المجتمعات والأراضي العربية.
أكثر هذه الدول عربية، بلا شك، هي سوريا. وكان العراق ليصبح منافساً لها وربما قائداً، لولا وجود العنصر الإيراني القوي في تركيبته الاجتماعية، وبعده عن مهد الأفكار القومية. لذلك، على الرغم من أن العراق يتعرض أيضاً للتأثير الذي يجدد باستمرار عروبة المجتمع السوري – ألا وهو التسلل المستمر لأهل البادية الذين يزيدون عدد سكان الحواضر المدنية باستمرار – فإن العراق أقل اهتماماً من سوريا للتعبير عن العروبة وتبنيها كبرنامج عمل.
والحقيقة أن موارد العراق قادرة على تلبية الهدر الذي قد يترتب على نفقات الموقف الإمبراطوري (في حال حملها لواء قيادة العروبة واستعادة أمجاد الأمة).
إذا كان هناك يوماً ما دولة عربية موحدة، فإن المركز الإمبراطوري سينتقل من دمشق إلى بغداد كما حدث قبل أكثر من ألف عام، عندما حلت الخلافة العباسية محل الأموية. ولكن طابع الدولة الإمبراطورية الناتجة عن ذلك سوف يكون أشبه بطابع الدولة العباسية، وسيكون فارسياً أكثر منه عربياً.
لقد قامت مصر المتأثرة بالغرب والولايات المتحدة الأمريكية بتعليم سوريا ولكنها لم تقم بنزع صبغتها العربية عنها؛ ولقد لعبت فرنسا وغيرها من بلدان جنوب أوروبا دوراً أقل أهمية في هذا الصدد. ففي سوريا وُلدت فكرة القومية العربية في ذاكرة جيل حي من خلال تأثير المغتربين العائدين، والذي تم تعزيزه من خلال تأثير السوريين الذين التحقوا بالمدارس الغربية التي أسستها وحافظت عليها أميركا والشعوب اللاتينية في الشرق أو تأثروا بها. لقد تشرب كل هؤلاء السوريين أفكار تقرير المصير واستوعبوها، حتى قبل أن يمنح الرئيس ويلسون «تقرير المصير» برنامجاً سياسياً.
 إن السوريين سريعو البديهة وذوي عقلية تجارية. ومن خلال الاتصال بالمجتمعات الغربية، تعلموا بسرعة وأدركوا حقيقة واحدة على الأقل ـ وهي أن فرص كسب المال كانت أقل في ظل الحكم التركي؛ وأقل من ذلك احتمالات الاحتفاظ بالأموال والتمتع بها. ولم يكن الأتراك يحكمون سوريا بشكل سيئ بشكل خاص؛ بل كانوا يعاملونها قبل الحرب بشكل أفضل من معظم أقاليمهم. ولكن الحقيقة الراسخة ظلت قائمة ــ أن السوريين كانوا في وضع غير مؤات بشكل واضح بالمقارنة مع البلاد الأخرى التي تعرفوا عليها، في حين كان آخرون، وليس هم، يتمتعون بثمرات الحداثة التي كانت سوريا قادرة على تقديم ما هو أفضل.
لقد وجدت دعوات القومية العربية تحت شعار «بلاد العرب للعرب» التي نشأت في سوريا في مطلع القرن الحالي، أنصاراً لها في كل الطوائف. ورغم أن هذه الحركة كانت مستوحاة ومدعومة إلى حد ما من قِبَل المسلمين الذين كانوا مستائين من تراجع العرب مؤسسي الإسلام وقادته، فإن الحركة لم تكن منذ البداية، ولا تزال كذلك اليوم، إسلامية في جوهرها. لقد عاش المسلمون والمسيحيون في سوريا في عموم الأمر في سلام مع بعضهم البعض، وبوعي أقل حيوية باختلافهم الديني مقارنة بأي مكان آخر في العالم الإسلامي.
وبما أن العروبة السورية كانت حركة سياسية تصاعدت طموحاتها خلال عشرين عاماً من خلال دعوات اللامركزية والحكم الذاتي وتقرير المصير إلى الاستقلال التام، فقد كان من المحتم أن تسبب مشاكل خطيرة لأي قوة احتلال. وقد نجح الأتراك، من خلال جمال باشا، في إحباطها في عام 1915؛ ولكنهم لم يتمكنوا من القضاء عليها تماماً عندما منحها الجنرال البريطاني أللنبي، عند طرد الأتراك في عام 1918، دفعة قوية بوضع دمشق وغيرها من المدن الرئيسية الداخلية تحت إدارة عربية. وأصبح التأثير البدوي على سوريا، الذي لا يتطلب كفاءة بالضرورة، بل يتطلب حكماً ذاتياً، أكثر فاعلية من أي وقت مضى.
ولو استجابت أميركا أو بريطانيا العظمى للدعوات السورية بأن تقبل إحداهما الانتداب على سوريا، لكانت أي منهما وجدت شعبية فرنسا الأولية سرعان من تتلاشى.
ولقد أصرت فرنسا على احتلال البلاد، رغم أنها لم تكن تحظى بشعبية كبيرة إلا بين طائفة مسيحية واحدة وعدد قليل من «أنصار النزعة العالمية» ـ وهي القوة التي عانت هيبتها في الشرق الأدنى في الآونة الأخيرة جراء المقارنة بين جهودها الحربية في تلك المنطقة وإنجازات حليفها الرئيسي أي بريطانيا. وكان العرب الفطنون يدركون جيداً أن بريطانيا سوف تكون الأكثر نفوذاً بين الدول العظمى.
ومن الآمن أن نقول إن الفرنسي غير الرسمي كان جاهلاً تماماً بعدم شعبية فرنسا محلياً ـ ناهيك عن أسبابها. ويحتاج الأمر إلى عالم من الخبرة لجعله ناقداً لفرنسا في الخارج. ولم أقابل في مصر شخصاً واحداً كان لديه أدنى شك في أن كل ما كان يُفكَّر فيه أو يُقال عن البريطانيين هناك سوف يُفكَّر فيه ويُقال عن الفرنسيين حتماً، إذا ما حلوا محل بريطانيا العظمى كقوة احتلال.
ولعل الحكومة الفرنسية نفسها في عام 1919 لم تكن لديها معرفة أفضل بالحقائق، إذا جاز لنا أن نحكم من خلال الموقف الذي تبناه أبرع المسؤولين الفرنسيين اطلاعاً، واللغة التي استخدموها أثناء مؤتمر السلام في باريس. ولم يدرك أحد منهم أن أشهر ما تتمتع به الإدارة الاستعمارية الفرنسية ـ وهو الاستيعاب الاستعماري على طريقة الجزائر ـ لم تكن موضع تقدير من جانب أغلب العرب الآسيويين الذين كانوا يشكلون الجبهة الأكثر عداء للسيطرة الفرنسية. ومن في مجتمع من المهاجرين العائدين، الذين كانوا على اتصال بالأسرة الدمشقية القوية التي تتحدر من البطل الجزائري عبد القادر الجزائري، لم يكن يعرف سياسة الاستيعاب التي تنتهجها فرنسا؟
مظاهرة احتجاجية ضد الوجود الفرنسي في سوريا عام 1919 | أ.ف.ب
عندما أدركنا نحن البريطانيين، في عام 1919، أن أي تعديل لاتفاقية سايكس-بيكو كان مستحيلاً ما لم نرغب في صدام مفتوح مع فرنسا، التي كانت تنوي الوفاء بوعودها للعرب وفقاً لفهمها هي، وليس وفقاً لفهمنا، بذلنا الكثير من الجهود الصادقة (رغم أن قلة من الفرنسيين ستصدق ذلك) لتهدئة المشاعر المعادية لفرنسا لدى السوريين.
طُلب من السوريين أن ينظروا إلى النموذج الفرنسي في المغرب ومنجزات الجنرال ليوتي حاكم المغرب الفرنسي، بدلاً من الجزائر، ولكن دون جدوى.
فقد اعتبر السوريون ليوتي فرداً مجتهداً وليس مترجماً مخلصاً لسياسة بلاده غير المقبولة. وفي جميع الأحوال، كان السوريون يعترضون على أنه، سواء حكمهم ليوتي أو لم يحكمهم، فإن جميع المشاريع المربحة في بلادهم ستؤول إلى الممولين الفرنسيين. كما أعربوا عن مخاوفهم بشأن مصير لغتهم، ومعتقداتهم، ونسائهم، وهي مخاوف كانت في أسوأ الأحوال أنصاف حقائق، وغالباً ما كانت مجرد أوهام.
ولقد تذرعت الحكومة الفرنسية والصحافة الفرنسية بهذا العذر ـ وهو أن مجموعة صغيرة من الوطنيين السوريين المتشددين الذين كانوا نشطين في باريس قبل مؤتمر السلام عام 1919 وأثناءه وبعده، قد ضللتهم في كثير من النقاط. فقد وضع هؤلاء السوريون، الذين كان كثير منهم يقيمون خارج وطنهم، وينوون الإقامة خارجه، سوريا الموحدة في طليعة قضيتهم، وهاجموا بريطانيا العظمى باعتبارها من دعاة تقسيم فلسطين، ودعوا فرنسا إلى أن تكون وكيلة لإعادة توحيد فلسطين. ولقد أضفت المظاهرات المتقطعة والخطابات النارية التي كانت تُـقام علناً في دمشق لوناً من الصبغة التي تؤكد أن هذه كانت أولوية السوريين.
لكن في الواقع، لم يكن هناك شعور عميق خلف هذه التصريحات المحلية. فقد كانت نابعة من مجرد موجات من المثالية الأكاديمية في هذا المجتمع الحضري أو ذاك. ذلك أن المدن السورية لا تشعر بالكثير من الروابط المجتمعية حتى مع بعضها البعض، وإذا تمكنت أي مدينة من تحقيق الحكم الذاتي، فإنها لن تبالي كثيرًا بما سيحدث لبقية البلاد. إن الانفصال بين مدينة وأخرى، ومنطقة وأخرى، وقبيلة وأخرى، عميق في النفوس ويتعزز باستمرار بسبب تدفق الأشخاص من قبائل شبه الجزيرة العربية. ولحسن الحظ، بالنسبة للفرنسيين، فإن هذا التدفق والانقسام المحلي قد يضمن لفرنسا الاحتفاظ بسوريا. فكل ما عليهم فعله هو الصمود لفترة قصيرة لرؤية الدروز، الذين يُستخدمون الآن كرأس حربة من قبل الثوار السوريين، يدخلون في صراعات مع باقي اللبنانيين، وليروا رجال حمص يتنازعون مع رجال حماة، وأهل حلب في خلاف مع الدمشقيين.
ولن يتقرر مصير الانتداب الفرنسي في سوريا على يد القوات المتمردة، بل من خلال الموقف في فرنسا. ولعل المفوضين السامين الأولين، غورو وويغان، أغضبا الأغلبية المسلمة بالاعتماد على الأقليات المسيحية وتفضيل لبنان على بقية سوريا. إن المفوض الثالث، ساريل ، ربما فشل بسبب عيوب في طباعه وسلوكه في التوفيق بين المسلمين، في حين خيبت إدارته آمال المسيحيين وأثارت غضب الدروز إلى حد الغيظ. وكان لدى المفوضين الثلاثة أدوات كثيرة غير مبالية أو سيئة بصراحة للعمل بها ـ ضباط لا تدريب لهم ولا قدرة على التعامل مع شعوب ذات عادات ولغات غريبة ـ ومجندون ملونون ذوو أخلاق غير مبالية وقليل من الحضارة الفرنسية. ولكن كل أخطاء النظام الفرنسي مجتمعة لم توحد سوريا بالقدر الكافي لجعلها قادرة على طرد فرنسا.
وإذا حدث هذا، فإن بريطانيا العظمى ستكون آخر من يفرح؛ لأن الحكم الأبيض هو الحكم الأبيض في كل مكان، وقليلون هم من يميزون طويلاً أو عميقاً بين من يمارسه وآخر. إن انسحاب المفوض السامي الفرنسي سيجعل كل المفوضين السامين في الشرق الأدنى والشرق الأوسط يجلس على عرش غير مريح للغاية!
إن العراق لم يبدِ أي رد فعل متعاطف مع سوريا في محنتها الفرنسية. ومن المؤكد أنه لم تظهر أي علامة واضحة على ذلك، ومن المرجح أن العراق سوف يظل غير مبالٍ. فقد كان يشعر بالحسد من سوريا منذ أيام الأمويين. فضلاً عن ذلك، بذل العراق بالفعل جهده الرئيسي ضد السيطرة الغربية وخسره. وفي فشله، اكتسب بعض التجارب التي لا تزال راسخة في الذاكرة: أولاً وقبل كل شيء، فإن المياه لا تكفي للزراعة في أوقات الاضطرابات. كما أن المزارع العراقي لا يثق في أي حكومة محلية غير خاضعة للرقابة، والتي يمكنه أن يتصور تأسيسها في بغداد في الوقت الحاضر، لتزويده بالمياه الكافية لتلبية الاحتياجات التي زادت بشكل كبير منذ رحيل الأتراك. وفي أسوأ الأحوال أيضاً، لا ينظر المزارع العراقي إلى البريطانيين بين ظهرانيه، كما ينظر السوريون إلى الفرنسيين، باعتبارهم أسياداً أتوا للبقاء. وهو يعتقد إلى حد ما بأن الادعاء البريطاني الفعلي بوجوده في العراق، أياً كان ما كان عليه الحال قبل خمس سنوات، ينطوي على شيء من الدوافع التي تجعله يتولى توجيه وحماية دولة ناشئة بنيت من الدمار وكان البريطانيون مسؤولين عن إنشائها. إن المستشارين البريطانيين سوف يرحلون بمجرد أن يشعروا بأنهم أدوا مهمتهم على أكمل وجه في إقامة دولة عربية في العراق. ألم يعينوا ملكاً عربياً (ولم يكن العراقيون متحمسين له كثيراً) وأكثر من مجرد واجهة لإدارة عربية، والتي يبدو أنهم من عام إلى آخر لا يتدخلون فيها؟ إنهم لا يحتفظون في البلاد بربع القوات الأجنبية الموجودة في سوريا، ولقد استبدلوا تفويضهم بمعاهدة بين أطراف مستقلة، والتي تعني ضمناً الاعتراف الكامل بأن العراق عربي وليس بريطانياً. أما كيف قد تؤثر قضية النزاع في الموصل على هذا الاعتبار الأخير، فمن السابق لأوانه الحكم عليه.
إن العراقي يميل إلى الثقة في الموقف البريطاني الفعلي أكثر من أي شيء آخر، لأنه يدرك إلى حد ما القوى السياسية والاقتصادية في بريطانيا العظمى ذاتها التي عززت نموها انطلاقاً من موقف مختلف تماماً تبنته أثناء الحرب وبعدها مباشرة. وهو يدرك أن العنصر الهندي البريطاني، الذي كان يشكل جزءاً كبيراً من قوات تحريره، كان في واقع الأمر يفترض أن ضم العراق أو على الأقل احتلاله كما حدث في مصر آنذاك، هو النتيجة الحتمية والمشروعة للغزو. ولكن دافعي الضرائب في لندن بعد الحرب والمزاج السائد في حزب العمال سرعان ما غير هذه الطموحات.
يطمح العراقي في نهاية المطاف إلى حكم ذاتي، ولا يرغب في أن يصبح البريطانيون أو أي أجانب آخرين من المقيمين الدائمين في بلاده. ولنكن صادقين، فهو لا يرغب في ذلك. وقد يكون صحيحاً أن وجود البريطانيين يزعجه أقل من وجود الفرنسيين الذين يزعجون السوريين، وأن العلاقات البريطانية مع السكان الأصليين، في عمومها، أكثر ودية وحميمية، بفضل الجودة المتوسطة الأفضل والتدريب الأفضل والتقاليد والممارسات الأفضل للشباب الذين يتم تعيينهم في الإدارة الخارجية البريطانية بالعراق.
لقد قرأت مؤخراً شهادة أميركية قاطعة أدلى بها شخص مطلع على البلاد وشعبها منذ فترة طويلة حول جودة المسؤولين البريطانيين في العراق ونيتهم الشريفة وتفانيهم العملي في أداء واجبهم. لكن نفس الشاهد رفض أن يستنتج أن المستشارين البريطانيين، إما لهذا السبب أو لأي سبب آخر، يحظون بقبول غير متحفظ، ناهيك عن المودة العامة. إن فضائلهم ذاتها تزعج العراقيين ـ طاقتهم، وكفاءتهم، وعدم قابليتهم للفساد، وإصرارهم على النظافة والصحة. والعراقي يكره تفوقهم ويتذمر على حسابهم. ولكنه مستعد لتحملهم لفترة من الوقت. فهو يشعر بالضعف داخل حدود هشة محاصرة بأعداء أكثر إلحاحاً وكراهية من الأعداء الذين يهددون سوريا، وهم الوهابيون في الجنوب الغربي، والكرد في الشمال الشرقي، والأتراك فوق الموصل؛ وهو يدرك أنه يعيش في بيت منقسم على نفسه. وفي مواجهة الخطر الخارجي، فإن تقسيم العراق بين الشيعة والسنة سوف يكون عيباً أكثر خطورة من كل التقسيمات المتعددة لسوريا.
إن بقية العرب الآسيويين يتمتعون، إلى حد ما، باستثناء عدد قليل من المناطق الساحلية غير المهمة، بالحكم الذاتي الذي يرغب فيه الجميع. ويتمتعون بأكبر قدر من الحكم الذاتي في أقصى الشمال وأقصى الجنوب؛ وأقل في الوسط. والمنطقة الأخيرة، التي تضم الجزء الأكبر من شبه الجزيرة العربية، تشهد مرة أخرى إحدى تلك المراحل المتكررة من تاريخها، عندما تم القضاء على انفصالها الأساسي لفترة (لن تدوم طويلاً) بفضل عبقرية رجل قوي مسلح تدعمه قوة صغيرة ولكنها حازمة ومنضبطة. والهيمنة الوهابية الحالية لعبد العزيز بن سعود، أمير أو سلطان نجد، هي الإمبراطورية العربية الأوسع انتشاراً منذ عهد النبي، وقد يثبت أنها تحاكي حتى هذه الإمبراطورية من حيث المدة، حيث عاشت بعد مؤسسها ما يقرب من نصف الجيل الذي افترقت فيه وفاة محمد وعلي. وفي الوقت الحاضر، ترتكز هذه الهيمنة على ثلاثة دعائم إيجابية وحقيقة سلبية.
أولاً، حول الشخصية الجذابة والقوية لابن سعود نفسه، الذي يعد بلا أدنى شك أبرز عربي في جيله.
ثانياً، حول مدى ملاءمة النزعة الراديكالية الوهابية الصارمة لعقل البدو، حيثما لم يتلوثوا بالاتصال بالحضارة العليا.
ثالثاً، حول التعصب الدعوي لمجموعة صغيرة نسبياً من المتعصبين الوهابيين الذين يتحدرون من البدو وأهل الواحات في الداخل، والذين يعيشون في ظروف بدائية للغاية.
وأخيراً، حول الحقيقة السلبية المتمثلة في أنه منذ انسحاب تركيا، لم تعد هناك قوة خارج الجزيرة العربية تشعر بأنها مستعدة على الإطلاق للتدخل في شؤون الجزيرة العربية الداخلية.
إن هذه الأصول تساهم في بناء الإمبراطورية العربية أكثر من مساهمتها في الحفاظ عليها. إن التعصب الوهابي، الذي نشأ عن الظروف البدائية للحياة والجهل بكل شيء عدا هذه الظروف، وصل إلى أطراف الحضارات العليا، حيث ستغيره الاتصالات الجديدة بنفس السرعة التي حدث بها بعد انطفاءه الأول قبل أكثر من مئة عام. إن أهل الحواضر المستقرين ليسوا وهابيين، ولن يكونوا كذلك أبداً. فهم في الشرق ليسوا من أهل السنة في الغالب، بينما هم في الغرب شيعة في معظم أنحاء اليمن، وفي مدن الحجاز يعيشون حياة مترفة.
لقد نجحت الوهابية في تجنيد عدد قليل من المؤيدين في الخارج ـ على سبيل المثال في الهند، حيث يعيش في هذه البلاد، كما هو الحال في كل مكان آخر، بعض المسلمين. ولكن من غير المعقول أن تقود هذه الحركة حركة إسلامية شاملة.
إننا إذا نظرنا إلى العالم العربي اليوم، سوف نجده لا يقل انقساماً على نفسه عن أي وقت مضى. ولا يبدو العالم الإسلامي الأوسع، الذي يشكل العالم العربي مركزه الروحي بالاسم فقط، مختلفاً تماماً. وربما نجد هنا وهناك، وفي كل مرة، بعض الدلائل على وجود سياسة مشتركة وتحرك مشترك، كما قد نجد في تزامن جهود عبد الكريم الخطابي في الريف المغربي مع جهود المتمردين السوريين. ولكن لا يوجد ما يشير إلى أن المسلمين سوف يوحدون قواهم الآن أو في المستقبل، أو أنهم قادرون على ذلك، في جهد مشترك لتحقيق النصر مرة أخرى كما فعل خلفاؤهم الأوائل.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد