استراتيجية «الوطن الأزرق».. الأزمات بين تركيا واليونان.. الخلفية والتوقعات
سارة شريف
يعتبر التوتر بين تركيا واليونان أحد النزاعات المستمرة منذ أكثر من 50 عاماً. قد ترتفع أو تنخفض درجة التوتر في كل فترة، لكن إجمالاً يعتبر هذا الصراع أحد الصراعات المستمرة منذ وقت طويل وبدون حل في الأفق، رغم التصريحات من الجانبين أحياناً بوجود فرصة، لكن الواقع على الأرض لا يقول ذلك. فهل حقاً هناك فرصة للتقارب اليوناني التركي؟ وما الأجندة التركية من وراء استفزاز اليونان؟
انتقادات وتوتر
قائمة النزاعات الثنائية بين تركيا واليونان، الجارتين والعضوين في حلف الناتو، طويلة وتضم العديد من الملفات، على رأسها الأزمة في قبرص والتحركات التركية المثيرة للجدل في البحر المتوسط والتنافس على موارد الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط والهجرة والحدود البحرية في بحر إيجة، فضلاً عن التهديدات التركية لليونان على خلفية تعزيز الأخيرة التعاون الدفاعي والطاقة مع الولايات المتحدة وفرنسا وإسرائيل.
خلال الأسابيع الأخيرة، عاد التوتر إلى الواجهة مرة أخرى بعد أن تبادلت السلطات التركية واليونانية الانتقادات بشأن العملية العسكرية التركية في قبرص عام 1974، حيث اتهم كل جانب الآخر بتشويه خلفية الأحداث.
بدأ الخلاف عندما زار وزير الدفاع اليوناني نيكوس ديندياس قبرص في الذكرى الخمسين للانقلاب العسكري عام 1974، وهو الانقلاب الذي أطاح بالحكومة في ذلك الوقت ومهد الطريق للغزو التركي للجزيرة الواقعة في البحر الأبيض المتوسط. وتم إعلان الجزء الشمالي من الجزيرة، مع أغلبية من القبارصة الأتراك والمستوطنين الأتراك، باسم الجمهورية التركية لشمال قبرص عام 1983، وهي الدولة التي لم تعترف بها أي دولة في العالم سوى تركيا، فيما انضمت قبرص إلى الاتحاد الأوروبي في 2004.
وقال وزير الدفاع اليوناني نيكوس ديندياس عقب اجتماعه مع نظيره القبرصي فاسيليس بالماس في نيقوسيا في إحياء الذكرى إن انقلاب عام 1974 «فتح الباب الخلفي للمتطفل الذي كان يتربص»، في إشارة ضمنية إلى تركيا، مضيفاً أنه «من غير المقبول أن تكون عاصمة أوروبية، عاصمة دولة عضو في الاتحاد الأوروبي وعضو في الأمم المتحدة، مقسمة لمدة نصف قرن، وأن يكون عليها خطوط خضراء أو أي خطوط ملونة أخرى».
واتهم ديندياس تركيا بانتهاك القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة على مدى السنوات الخمسين الماضية، بينما دعا إلى «حل عادل وقابل للتطبيق» للمشكلة القبرصية بما يتماشى مع قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والتي تدعو إلى اتحاد ثنائي المنطقة وثنائي الطائفة.
وسارعت وزارة الدفاع التركية إلى الرد على تصريحات وزير الدفاع اليوناني ووصفتها بأنها «كاذبة» و«افتراء»، قائلة: «ندين بشدة التصريح متدني المستوى والكاذب والتشهيري الذي أدلى به وزير الدفاع اليوناني نيكوس ديندياس، والذي استهدف القبارصة الأتراك والجيش التركي البطل».
ونفت الخارجية التركية اتهامات ديندياس لتركيا بانتهاك المعاهدات الدولية، زاعمة أن جيش البلاد اتخذ إجراءات وفقاً لحق تركيا في الضمان المستمد من الاتفاقيات الدولية و«أنقذ الشعب القبرصي التركي الذي تعرض لجميع أنواع الاضطهاد من الجانب القبرصي اليوناني بين عامي 1963 و1974، من محاولة إبادة جماعية». وأضافت: «ندعو وزير الدفاع اليوناني إلى التخلي عن مساعيه لتقويض الموقف المشترك لزعماء البلدين، والذي يهدف إلى تعزيز العلاقات التركية اليونانية بشكل بناء. إن محاولات السيد ديندياس لتعزيز مسيرته السياسية من خلال خلق الاضطرابات بين الشعبين التركي واليوناني لن تسفر عن أي نتائج».
وردت وزارة الدفاع اليونانية على الفور على بيان وزارة الدفاع التركية ببيان آخر مليء بالسخرية، حيث أعربت الوزارة اليونانية عن «أسفها» لأن ديندياس «أغفل خلال زيارته لقبرص توجيه الشكر» لقوات الغزو والاحتلال التركية على «خدماتها في الدفاع عن المبادئ [المنصوص عليها] في ميثاق الأمم المتحدة، وسلامة أراضي جمهورية قبرص، وحماية حقوق الإنسان والديمقراطية».
ولم تكتف تركيا بالبيانات شديدة اللهجة، بل أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لاحقاً أن بلاده مستعدة لإقامة قاعدة عسكرية بحرية في شمال قبرص، قائلاً: «إذا دعت الحاجة، يمكننا بناء قاعدة ومنشآت بحرية في الشمال. نحن أيضاً لدينا البحر». واتهم اليونان بالسعي إلى إقامة قاعدة مماثلة في الجزيرة، وهو التصريح الذي لاقى ردود فعل كبيرة. واعتبر إشارة مباشرة من أردوغان برفضه الحل السلمي، فيما استبعد أردوغان قبل عرض عسكري لإحياء الذكرى الخمسين للغزو التركي التوصل إلى اتفاق سلام على أساس خطة الاتحاد التي أقرتها الأمم المتحدة، ما يعقد من جهود الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش لإعادة الجانبين إلى طاولة المفاوضات.
تأتي الانتقادات بعد أسابيع قليلة من توترات أخرى على خلفية تحذيرات من تركيا بشأن انتهاك اليونان مياهها الإقليمية. وأصدرت تركيا برقيتي ملاحة بشأن عمل السفينة المسجلة في إيطاليا «تيليري»، والتي تحدد منطقة عملها داخل الجرف القاري التركي، فيما تقع المنطقة الواقعة بين جزيرتي رودس وكريت ضمن منطقة متنازع عليها بين الجارتين. ولكن أتت هذه الخطوة بشكل مفاجىء في ظل تحسن العلاقات بين البلدين على جانبي بحر إيجه بعد ماض اتسم بالعداء.
وذكرت وسائل إعلام تركية أن اليونان والقبارصة اليونانيين حاولوا انتهاك الجرف القاري التركي أكثر من عشر مرات في الآونة الأخيرة، وأن محاولاتهم تم إحباطها من خلال الجهود العسكرية والدبلوماسية التركية.
وجدير بالذكر، أن سفينة «تيليري» تقوم بمد الكابلات تحت البحر كجزء من صفقة بين مصر وإسرائيل والإدارة القبرصية اليونانية واليونان. وقبل يوم واحد من الإخطار البحري التركي في 24 يونيو/حزيران، أصدر القبارصة اليونانيون برقية بشأن منطقة عمل السفينة. ورداً على ذلك، أصدرت تركيا رسالة أخرى، ووصفت الأخرى بأنها صادرة عن «محطة غير مرخصة»، مؤكدة أن المنطقة المذكورة تقع ضمن الجرف القاري التركي. وقالت البرقية إنها «محاولة من الإدارة القبرصية اليونانية لإضفاء الشرعية على مطالباتها غير القانونية ولن تقبلها تركيا».
في الربيع الماضي، عادت خلافات بحر إيجة إلى الواجهة حينما أعلنت اليونان أنها ستبني حديقتين بحريتين في بحر إيجه والبحر الأيوني بحلول نهاية عام 2024، على الرغم من اعتراضات تركيا. وأثار إنشاء الحديقة في بحر إيجه حفيظة تركيا التي اتهمت أثينا باستغلال القضايا البيئية لدفع أجندة جيوسياسية. وردت وزارة الخارجية اليونانية بأن أنقرة «تسيس قضية بيئية واضحة»، فيما ألمح مسؤول تركي إلى أن تركيا قد تضع خريطة لمتنزهاتها البحرية الخاصة في المنطقة، في رد انتقامي واضح.
أما التوتر بسبب التسليح، فكان حاضراً أيضاً من بين التطورات الأخرى. فبينما تم حظر تركيا من شراء الطائرات المقاتلة من الجيل الخامس من طراز «إف-35» من الولايات المتحدة بسبب استحواذها على نظام الدفاع الجوي الروسي الصنع «إس-400»، نجحت اليونان في شراء المقاتلات على الرغم من امتلاكها أيضاً نظام الدفاع الجوي الروسي الصنع «إس-300»، الأسبوع الجاري.
وبحسب ما ورد، وافق وزير الدفاع اليوناني على شراء 20 طائرة مقاتلة من طراز «إف-35» بقيمة 3.5 مليار دولار. ومن المتوقع أن تتسلمهم بحلول عام 2028، أي بعد أربع سنوات من اتفاقية الشراء، مع خيار الحصول على 20 طائرة إضافية. في المجمل، عرضت الولايات المتحدة على اليونان 40 طائرة «إف-35» بقيمة 8.6 مليار دولار، وهي الصفقة التي ستوسع الفجوة في قدرات القوة الجوية بين تركيا واليونان.
وتهدف عملية الاستحواذ إلى تعزيز القوات الجوية اليونانية التي تشغّل بالفعل طائرات مقاتلة من طراز «رافال» فرنسية الصنع تم الحصول عليها مؤخراً. ويأتي هذا بالتزامن مع الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة وألمانيا لمنع تركيا من شراء مقاتلات حديثة مثل «إف-35» و«يورو فايتر تايفون»، بينما تحظى اليونان بدعم كامل من واشنطن وباريس في تحديث قواتها الجوية بطائرات متقدمة مثل «إف-35» و«رافال».
وتعتمد تركيا الآن على طائرتها المقاتلة من الجيل الخامس المطورة محلياً «قآن» للتنافس مع «إف-35» الموردة إلى اليونان.
ويهدف شراء اليونان لطائرات «إف-35» وزيادة ميزانيات الدفاع إلى حماية المصالح اليونانية في شرق البحر الأبيض المتوسط، حيث تريد اليونان الدفاع عن الجزر ضد هجوم محتمل من تركيا. لكن المسؤولين الأتراك قالوا إن استمرار عسكرة الجزر قد يؤدي إلى تساؤل أنقرة عن ملكيتها.
حدث التصعيد الكبير بين الجارتين في عام 2020 عندما كانتا على شفا صراع مسلح في شرق البحر الأبيض المتوسط، بسبب الخلافات حول ترسيم حدود منطقتيهما الاقتصادية الخالصة بعدما انخرطت فرقاطات من البحريتين التركية واليونانية في مناورات خطيرة. وكان ذلك إشارة خطيرة إلى تدهور خطير في العلاقات الثنائية. وفي حينه، أدعت تركيا بأن اليونان عسكرت العديد من الجزر في بحر إيجه، وهو ما اعتبرته خرقاً لمعاهدتي لوزان وباريس، وهي الاتفاقيات التي تنص على وضع منزوع السلاح للجزر.
محاولات للحوار
رغم كل التوترات السابقة، إلا أنه دائماً ما كانت هناك جهود لاحتواء ذلك التوتر. ومهدت الزلازل المدمرة التي ضربت تركيا وسوريا في فبراير/شباط 2023 الطريق لمحاولة إعادة ضبط العلاقات، فكانت اليونان من بين أوائل الدول التي تعهدت بدعم تركيا. وبعد بضعة أشهر، حصل رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس والرئيس التركي رجب طيب أردوغان على تفويض جديد في انتخابات بلديهما، ما أتاح لهما فعلياً التصرف بشكل مستقل عن الحسابات الانتخابية، وهو ما تم اعتباره بأنه قلل من اللهجة الحادة التي صاحبت الحملات الانتخابية لكسب الأصوات.
من ناحية أخرى، فإن أردوغان بذل جهود أوسع نطاقا لإعادة التواصل مع الدول الغربية بعد فوزه في الانتخابات العام الماضي. ولتحقيق ذلك، وفي تطور دبلوماسي مهم، استأنفت اليونان وتركيا محادثات رفيعة المستوى خلال زيارة أردوغان التاريخية إلى أثينا في ديسمبر/كانون الأول 2023، وهي الأولى منذ عام 2017. وفي حينه، أعرب أردوغان، الذي سبق أن شكك في المعاهدات التي مضى عليها قرن من الزمان والتي تحكم سيادة بحر إيجه وانخرط في سياسة حافة الهاوية الخطابية، عن رغبته في تحويل بحر إيجه إلى «بحر من السلام والتعاون».
وردد رئيس الوزراء اليوناني هذا الخطاب، حيث أقر بالتوترات السابقة، لكنه أكد على «مسار أكثر هدوءً حالياً». ووقع البلدان إعلان صداقة غير ملزم بهدف مضاعفة التجارة الثنائية إلى 10 مليارات دولار. وتضمن هذا الإعلان التزامات بالامتناع عن الخطاب العدواني والحد من التوترات العسكرية. ورغم أن هناك من اعتبر هذه الزيارة نقطة تحول، لكن الأسابيع الأخيرة أعادت الأوضاع إلى سابق عهدها.
ويمكن تفسير طبيعة العلاقات بين تركيا واليونان من خلال ثلاثة مستويات، الأول هو ما يسمى «الأجندة الإيجابية»، وهي مجالات التعاون بين البلدين رغم الخلافات مثل التعاون في التجارة والتعليم والبحث والسياحة وغيرها، وهي المجالات التي تعتبر مصلحة حيوية للطرفين، ومن المرجح لها الاستمرار حتى مع تصاعد الانتقادات والتوتر.
وتعهدت الدولتان بمضاعفة حجم تجارتهما الثنائية إلى عشرة مليارات دولار واتفقتا على إنشاء منتدى أعمال يوناني تركي، بالتوازي مع قرار اليونان تمديد تأشيرات السياحة للمواطنين الأتراك لزيارة جزر بحر إيجة الشرقية المختارة على مدار العام، وكذلك تعاون أنقرة مع السلطات اليونانية والاتحاد الأوروبي بشأن الهجرة، وهي واحدة من الملفات التي تهم الجانبين والاتحاد الأوروبي ككل.
أما المستوى الثاني، يتعلق بـ«إجراءات بناء الثقة» لتجنب التوتر بشأن بحر إيجه من خلال الاتفاق على قواعد التدريبات العسكرية وإنشاء خط ساخن بين المقرات العسكرية والمدنية للبلدين، فيما استؤنفت المحادثات في عام 2023 بعد انقطاع طويل، وأدت حتى الآن إلى حالة من الهدوء بشأن بحر إيجه. لكن من غير الواضح إلى مدى سيستمر هذا الهدوء في حال تنفيذ تركيا تهديدها إنشاء قاعدة عسكرية في قبرص.
أما المستوى الثالث، فهو الحوار السياسي لمعالجة النزاعات والصراعات المستمرة منذ 50 عاماً، والذي كما يبدو هو المستوى الأضعف في مستوى الحوار بين تركيا واليونان، في وقت لايزال هناك فجوات كبيرة بين الموقفين التركي واليوناني بسبب الخلاف الإيديولوجي.
أجندة أردوغان: الوطن الأزرق
يرتبط التوتر بين تركيا واليونان واستفزازات أردوغان المستمرة لأثينا والتهدئة معها أحياناً بشكل وثيق بمعيارين، الأول هو بأجندة الرئيس التركي في المنطقة، والثاني إيديولوجية أردوغان.
بالنسبة للمعيار الأول، كان واضحاً بعد انتخاب أردوغان رغبته في التقرب من الاتحاد الأوروبي، وهو ما يبرر خطواته الإيجابية حيال أثينا، إذ لا يمكن فصل خطواته عن وضع اليونان في الاتحاد الأوروبي وعلاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة وتعاونها السياسي والعسكري مع إسرائيل في شرق البحر الأبيض المتوسط.
فتركيا فهمت مكانة اليونان وفهمت أن ورقة الضغط على أثينا لن تكون فعالة في كثير من الأوقات، خاصة مع الأزمة الاقتصادية تمر بها تركيا، وهو ما يتطلب جذب استثمارات أجنبية وتدفق العملات الأجنبية حتى يتمكن الاقتصاد التركي من التعافي، وهي ذات الأجندة التي تفسر لماذا طبّعت تركيا علاقاتها الدبلوماسية مع الإمارات العربية المتحدة ومصر والمملكة العربية السعودية وإسرائيل (قبل حرب غزة). كما أرادت تركيا أيضاً تسريع عملية المصالحة والتقارب مع الاتحاد الأوروبي، وهي السياسة التي وصفت في تركيا بإسم «صفر مشكلات».
لكن يبدو أن الاتحاد الأوروبي فهم نوايا تركيا. ففي يونيو/حزيران 2023، دعا المجلس الأوروبي مفوضية الاتحاد الأوروبي لتقديم تقرير عن حالة العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا لتقييم شكل العلاقات وطرح اقتراحات خطوات تدريجية نحو المشاركة البناءة مع الحفاظ على أولويات الاتحاد الأوروبي، وبالفعل نُشر التقرير في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، والذي أشار إلى أن هناك توترات وتحديات في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، خاصة فيما يتعلق بعلاقات تركيا مع اليونان وقضية قبرص، فضلاً عن التوتر المتزايد في المنطقة في أعقاب هجمات حركة حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول. ويشير التقرير إلى أن التوقيت المناسب لإطلاق مبادرات تعاون إقليمية جديدة يحتاج إلى تقييم مستمر.
رغم الخطوات الإيجابية التي تقوم بها تركيا حيال اليونان، إلا أن التحركات التركية على الأرض لا تتفق تماماً مع تلك التصريحات بسبب موقف تركيا بشأن قضية قبرص ودعمها للتدخلات العسكرية في الصراعات الإقليمية، مثل سوريا وليبيا، وهو ما يتناقض مع مواقف الاتحاد الأوروبي، ما يعيق تحقيق أجندتها.
أما المعيار الثاني فهو استراتيجية «الوطن الأزرق». فعلى الرغم من مساعي تركيا التقرب من الاتحاد الأوروبي، لاتزال تتحرك بإيديولوجية «الوطن الأزرق» التوسعية بعد أن أصبح البحر عنصراً أساسياً في العقيدة الجيوسياسية التركية المعاصرة (رغم أن البحر لم يكن قط من الأولويات الاستراتيجية الحاسمة للإمبراطورية العثمانية، فيما كان ينظر إلى حد كبير إلى الهوية التركية كأمة برية). لكن منذ بداية سبعينيات القرن العشرين، تغيرت هذه الرؤية بعد تطوير تقنيات التنقيب عن النفط في البحر واكتشاف حقل «برينوس» في بحر إيجه. وزعمت تركيا أنها «تختنق» بسبب قرب جزر بحر إيجه الشرقية وجزر دوديكانيسيا الخاضعة للسيادة اليونانية من شواطئها. ومنذ ذلك الحين، ركزت الاستراتيجية التركية تجاه اليونان على التوسع البحري والمطالبة بنصف بحر إيجه.
في عام 2006، بدأ استخدام مصطلح «الوطن الأزرق» من قبل النخبة العسكرية والسياسية في تركيا التي طفقت تشير إلى حاجة تركيا إلى المطالبة بالمنطقة الاقتصادية الخالصة الواسعة والدفاع عنها، وهو ما يمثل تحدياً مسبقاً للسيادة اليونانية وحقوق السيادة اليونانية والقبرصية في بحر إيجه وشرق البحر الأبيض المتوسط.
تشكل إيديولوجية «الوطن الأزرق» دمجاً في خطة شاملة للمطالبات التركية على الأرض والبحر وجزءاً من الترويج لأجندة أردوغان العثمانية الجديدة، حيث تروج إلى ضرورة عودة تركيا الحديثة إلى المناطق الجغرافية الأوسع التي أثرت عليها الإمبراطورية العثمانية تاريخياً وهيمنت عليها في الماضي، وهو ما دفع أردوغان إلى الاهتمام بأوراسيا حتى لا ترى تركيا نفسها على هامش العالم الغربي بل في مركز نظام جيوسياسي كبير.
تتعارض هذه السياسية بشكل فعال مع سياسة التقارب من الاتحاد الأوروبي والتهدئة مع اليونان، لكن بدو أن أردوغان يعطي الأولوية لعقيدة «الوطن الأزرق» على التقارب مع الاتحاد الأوروبي.
فرص التقارب واحتمالات التدهور
في حين أعرب المسؤولون من الجانبين عن التزامهم الحفاظ على المناخ الإيجابي، إلا أن القضايا محل الخلاف طويلة الأمد وعميقة الجذور. ولا يتوقع أي من الجانبين أن تمر فترة من الوقت دون اضطرابات، خاصة في بحر إيجه. ورغم اللقاءات المتكررة بين رئيس الوزراء ميتسوتاكيس وأردوغان، وكذلك وزيري الخارجية ونائبي وزير الخارجية، فإن قضية المناطق البحرية لم تُطرح على الطاولة بعد ولا تزال عالقة.
وبحسب مسؤولين من أثينا، فإن الأولوية اليونانية في الوقت الحالي هي الحفاظ على الهدوء في بحر إيجه وشرق البحر الأبيض المتوسط ومنع الخلافات القائمة.
ورغم محاولات التهدئة السابقة ولقاء أردوغان وميتسوتاكس نهاية العام الماضي، إلا أن هناك انقسامات عميقة بين الجانبين بشأن الحرب بين إسرائيل وحركة حماس. ففي حين تعتبر اليونان الحركة منظمة إرهابية كبقية الدول الغربية، يكرر أردوغان خطابه بأن الجماعة منظمة مقاومة.
من الواضح أردوغان لن يتراجع عن استفزاز اليونان. فقبل أيام من اجتماعه برئيس الوزراء اليوناني في ديسمبر/كانون الماضي، أعادت تركيا رسمياً فتح موقع مدرج على قائمة التراث العالمي للأمم المتحدة كمسجد (مسجد كارييه كامي)،وهو الموقع الذي كان في الأصل كنيسة بيزنطية بارزة (كنيسة القديس المخلص في خورا) قبل تحويله إلى مسجد أثناء الحكم العثماني ومتحف عام 1945. ورداً على ذلك، تقدمت اليونان بشكوى إلى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «يونسكو».
في الماضي، كان لمثل هذه المواقف المستفزة تأثيراً على بناء الثقة بين الجانبين، ولطالما غذت دورة متكررة من الشكوك المتبادلة والخطاب الغاضب.
لكن رغم الاستفزازات، فإن استمرار الحروب في أوكرانيا وغزة يعزز فكرة أن كلاً من اليونان وتركيا لديهما مصلحة راسخة في أن يُنظر إليهما كقوة استقرار في جوار غير مستقر. ومن غير المتوقع أن تتدهور الاستفزازات إلى مواجهات كبيرة.
كما تدعم كل من واشنطن وبروكسل جهود المصالحة اليونانية والتركية: حيث يحتل التعاون في مجال الطاقة والدفاع مكانة عالية على أجندة أنقرة وواشنطن في محاولتهما تنحية الخلافات الرئيسية جانباً بشأن إسرائيل وروسيا وسوريا. بالنسبة للاتحاد الأوروبي، تعد أنقرة لاعباً رئيسياً في ملف المهاجرين، كما أن التعاون بين الاتحاد الأوروبي وتركيا في مسائل التجارة والطاقة أمر بالغ الأهمية أيضاً.
رغم وجود كل الأسباب التي تدعو إلى الهدوء، إلا أن التفاؤل المبالغ فيه بشأن آفاق العلاقات بين اليونان وتركيا ليس له ما يبرره. فهناك خلافات إيدولوجية كبيرة بين البلدين حول مجموعة من القضايا. وهما لم يحاولا حتى الآن الابتعاد عن مواقفهما الراسخة. كما أن حتى القضايا الثانوية يمكنها أن تسبب المزيد من التوتر وتشعل الأجواء.
بالنسبة لليونان وجمهورية قبرص، فإن السؤال الكبير هو ما إذا كان «الوطن الأزرق» مشروعاً إيديولوجياً غير قابل للتفاوض أم مجرد خطة جيو-استراتيجية يمكن تعديلها في سياق تسوية إقليمية ومفاوضات، في وقت يعتبر «الوطن الأزرق» ضد المصالح الحيوية لليونان، فهو يقطعها عن شرق البحر الأبيض المتوسط، ويحرمها من أي حق في المناطق البحرية الواقعة شرق خط الطول الخامس والعشرين ويخضع الجزر اليونانية فعلياً للولاية البحرية التركية. ويبدو أن تركيا لا تريد التنازل عن تلك الاستراتيجية، ما يعقد الوضع الحالي.
من السابق لأوانه الحديث عن حقبة جديدة في العلاقات الثنائية. فحتى الآن، لا تزال كل القضايا السياسية الخلافية دون حل. ورغم التقدم الذي أحرزه الجانبان في العلاقات الاقتصادية، إلا أن الخلافات السياسية لا تزال دون حل.
وفي الوقت نفسه، فإن مسألة تدهور التوتر إلى نزاع مسلح، يبدو غير وارد أيضاً. فالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لا يزالا يسيطرا على الجانبين منعاً لنشوب نزاع بين دولتين حليفتي في حلف الناتو، في وقت تشتعل الاضطرابات في الشرق الأوسط.
ومن المقرر أن يلتقي أردوغان وميتسوتاكيس مرة أخرى هذا العام على هامش قمة حلف الناتو في الصيف والجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول. وربما تكشف هذه اللقاءات ما إذا كان الزعيمان قادرين على تعميق تفاهمهما المتبادل وبناء الثقة التي ستسمح في نهاية المطاف بتحقيق تقدم في القضايا السياسية الملحة أم لا.
* باحثة سياسية مصري