حين تساءل ماركس: ماذا سنفعل بتركيا؟
حسين جمو
عقب هزيمة “ربيع الشعوب” عام 1848، وتقدم الخيبة على الأمل في تغيير النظام الأوروبي بشكل جذري، التقط كارل ماركس، إحدى مفاتيح الهزيمة وكرس جهده للتعريف بالخصم “الجبّار”، مركز الثورة المضادة، روسيا القيصرية.
نقلت هذه القضية ماركس إلى الاهتمام بأوضاع الدولة العثمانية. فهذه الساحة، والتي كان تعبير “الرجل المريض” قد صاغه للتو القيصر نيقولا الأول، باتت، وفق ماركس، الأرضية التي قد تؤدي إلى سيادة روسيا العالمية. فتطرق إلى قضايا تركية عديدة في مقالات صحفية، معتمداً بشكل كبير على شريكه الفكري، فريدريك أنجلز.
بعد انتقاله إلى لندن، عام 1849، عانى ماركس من أزمة مادية، وحصار معرفي، حيث قاطعته دور النشر الأوروبية تحت ضغط سياسي، ولم يعد قادراً على تقديم مؤلفه “نقد الاقتصاد السياسي”، فوجد فرصة عمل متواضعة كمحرر ومراسل لصحيفة “نيويورك تريبيون”، وكتب لها العديد من المقالات ذات الطابع السياسي المباشر، ، دارت في معظمها عشية وبعد حرب القرم، حول سؤال محوري: ماذا سنفعل بتركيا؟
بعيداً من وقائع الحرب التي كلفت مليون قتيل (1853 – 1856)، وأعادت رسم خارطة النفوذ العالمي، انشغل ماركس بما سمي “المسألة الشرقية” ردحاً من الزمن.
من ناحية أوروبا، تم الدمج في هذه الحرب، بين هدف تحجيم الخطر العالمي لروسيا، وبين شن حرب لحماية أوروبا من الطغيان الروسي. على هذا الأساس، وصف المؤرخ البريطاني، أ.ج. تايلور، وقائع القرم بأنها وفق الرؤية الأوروبية كانت حرباً لتحرير أوروبا من الطغيان الروسي.
الكتيب المكثف “المسألة الشرقية” المكتوب بلغة صحفية تارة ولغة بحثية تارة أخرى، تجمع مساهمات ماركس في الفترة من 1852 حتى 1862. حين انتقل إلى لندن، احتاج عملاً، فوجد فرصة في أخذ دور مراسل حربي ومحرر في صحيفة “نيويورك تريبيون” الأوسع انتشاراً في أميركا الشمالية، والأكثر انفتاحاً على مجتمع المهاجرين الألمان إلى الولايات المتحدة، والذين قارب عددهم مليون مهاجر خلال عشر سنوات، ضمن تداعيات فشل ربيع أوروبا (1848).
عشية الحرب
بعد اندلاع حرب القرم بشهور، بدأت “صحيفة “تريبيون” تظهر نغمة ميّالة – وليست موالية – لروسيا، على النقيض من كتابات ماركس، الذي عدّ روسيا، مركز الثورة المضادة في عموم أوروبا، من دون أن يدفعه هذا الموقف إلى الدفاع عن تركيا. وتركيا هو الاسم الذي كان معتمداً في الصحيفة ولدى ماركس، بدلاً من الدولة العثمانية، وهو أيضاً من تأثيرات الأدبيات اليونانية تجاه العثمانيين.
عبّرت الصحيفة عن موقفها بشكل أكثر وضوحاً، حين اعتبرت أن أفضل ما يمكن أن يحدث لتركيا هو إلحاقها بروسيا، لتتخلص من سياسة التبادل التجاري الحر البريطانية. وتحت تأثير داعية الوحدة السلافية، غورسكي، الذي انتقل إلى العمل في الصحيفة، بعد مسيرة عاصفة من الولاءات والقناعات بين بولندا وروسيا، باتت الصحيفة شبه ناطقة باسم الأرثوذكسية السياسية، بدعوتها إلى احتلال روسي للقسطنطينية من أجل خير البشرية.
في النهاية، تبين أن غوروسكي كان يتدخل في مقالات ماركس، ويضيف إليها أشياء تفرغ المقال من مضمونه المناهض لروسيا، بشكل مكرر، ويستبعد نشر مقالات أخرى، مثل تلك المخصصة لتفنيد فكرة الوحدة السلافية، وهو ما سيكتشفه ماركس متأخراً، بعد نهاية حرب القرم.
المقالة الأولى، بعنوان المسألة التركية، جاءت قبل حرب القرم بعدة شهور، ونشرت في نيسان 1853. يستهل “ماركس- أنجلز” مقالته بنقد الأساس المعرفي الغربي حول تركيا، المستند في معظمه إلى تقارير ملفّقة من قبل “المرتزقة اليونانيين” وغيرهم على حد وصف ماركس، بسبب جهل معظم الدبلوماسيين الأوروبيين اللغات التركية والسلافية واليونانية، وعدم اعتمادهم على نتاج النقاد والفلاسفة الألمان حول تاريخ الأدب التركي، ولا تقارير المندوبين والتجار الانكليز، وذلك على النقيض من روسيا – البلد نصف الآسيوي – الذي وُجِد فيها رجال من ذوي الإدراك الفعلي للوضع في تركيا.
ما يلفت في مقالات ماركس السياسية حول السياسة الروسية تجاه تركيا، أن أبواب الحرية والثورة مسدودة أمامه، سوى بوضع آماله على بريطانيا وفرنسا لمنع التمدد الروسي إلى البوسفور. هذا الانخراط الأوروبي، او التوريط، يتطلب أولاً عدم حصر المسألة الشرقية في معادلة إما دخول روسيا القسطنطينية أو الحفاظ على الوضع القائم، وهو ما عمل عليه ماركس بقوة.
الأتراك والتجارة
يرصد ماركس الاتجاهات الصحفية في تلك الفترة، بدقة، كونها تستند إلى قاعدة سياسية. ووجد نفسه يعمل على تصحيح مغالطات الصحف، ومنها “التايمز” المبشرة بالاحتلال الروسي لتركيا، و”الديلي ميل” و”لندن ايكونوميست” اللتان تقدمان صورة تقدمية مزيفة عن تركيا. فماركس هنا، مناهض للاحتلال الروسي، وغير متحمس لتركيا، بل يدعو إلى إنهاء حكم الأتراك، ويصيغ ذلك بقوله: “إلا أن الإدعاء أن ذلك غير ممكن (أنهاء حكم الأتراك) إلا بإحلال الروس والنمساويين مكانهم، يعني التأكيد في نفس الوقت أن الحالة السياسية الراهنة في أوروبا يجب أن تستمر إلى الأبد”. ويبدو ماركس، في العمق دافعاً للحرب ليس فقط لهزيمة روسيا، بل لتهيئة بيئة جديدة للثورة داخل أوروبا.
في عرضه للوضع الاجتماعي، يكون ماركس (وعلى الأرجح أنجلز)، مدركاً تفاصيل الوضع السكاني والتجاري في الأناضول. فينفي أن يكون للترك دور في التجارة العالمية، وينسب الفضل إلى اليونانيين والأرمن والسلاف والغربيين في المرافئ التركية الكبرى. بل أكثر من ذلك، يقول: “لو طردنا جميع الأتراك من أوروبا فلن تتأذى التجارة من جراء ذلك”.
الملاحظة الجديرة بالتوقف عندها، تطرقه إلى غياب أي كتلة سكانية تركية متماسكة “فهم قليلو العدد ومفرقون في كل مكان باستثناء القطسنطينية واثنتين أو ثلاث مناطق ريفية صغيرة”، وهذا الواقع، قلة العنصر التركي، سيصبح بعد حرب البلقان (1912 – 1913) هاجس النخبة القومية المستحدثة في أواخر الدولة العثمانية، وابتكار أفضل الطرق لاستقدام الأتراك، أو صهر شعوب أخرى في التركياتية المستحدثة.
في مقالته الثانية بتاريخ 21 نيسان 1853، يتابع ماركس انتقاده للسياسة البريطانية تجاه تركيا، مستنداً إلى أن سياسة الحفاظ على الوضع القائم، وهي روح المسألة الشرقية، تعني أن “النظام الدبلوماسي الذي أُعِد ليحُول دون التوسع الروسي، يدفع بعشرة ملايين من المسيحيين الروم، في تركيا الأوروبية، إلى طلب المساعدة والحماية من روسيا”.
يقدم في المقالة ذاتها مقاربة أوضح وأكثر صراحة في ضرورة إنهاء الحكم التركي على الشعوب المسيحية، وبنى فرضية أن تحرير المضيق اليوناني – السلافي (يقصد البوسفور) من النير التركي، وتوفير حكومة أكثر ملاءمة لحاجات السكان، يهز موقع روسيا، رغم وجود مخاطر اندلاع حرب كبرى في حال تحقق ذلك.
الجبّار الروسي
في الإطار التحليلي الشامل، خلص ماركس وأنجلز إلى أن بقاء الوضع الراهن، وعدم مبادرة البورجوازية الأوروبية لإنهاء الحكم التركي، يلعب دوراً معطلاً للثورة الأوروبية نفسها، فأراد إيصال هذه الثورة إلى كل من بطرسبورغ والقسطنطينية: “وفي هذين المكانين حيث الجرح يدمي، يجب الهجوم على الجبار الروسي المعادي للثورة”.
في تشريحه للوضع في البلقان أو تركيا الأوروبية، يوضح ماركس أنه ليس هناك خصوم للسلاف واليونانيين سوى “البرابرة الأتراك” و”الأرناؤوط الذين عرفوا منذ زمن بعيد بوصفهم الخصوم اللدودين لكل تقدم”، ويشدد على اقتصار الحضارة في هذه المنطقة على سلافيي الجنوب. أما كيف يمكن أن تنتج قوة سلافية صربية غير واقعة تحت هيمنة روسية، فالإجابة الصارمة تكمن في الاقتصاد وأنماط الانتاج. فالسلاف البلقانيون والروس لديهما ساحة تجارية مشتركة للتنافس، وهي أسواق آسيا الوسطى. ومن هذا التناقض راهن ماركس على أن تحرير الصرب من الحكم التركي سيعني انضمامهم إلى الحضارة الغربية.
ما هو الحل البسيط والنهائي؟ أيّد ماركس ، بحماس، إقامة دولة مسيحية مستقلة على أنقاض الدولة الإسلامية في أوروبا، لتحل محل الباب العالي “المهترئ والعفن”.
في 5 آب 1853، وتحت عنوان “تركيا والقدرات الغربية”، يصعّد ماركس انتقاداته للدول الغربية “المتقلبة والجبانة” والحريصة فقط على الحفاظ على الأمر القائم، بما يعني “المحافظة على هذا الطور من التعفن الذي يمنع السلطان العثماني من الانعتاق من القيصر، ويمنع السلافيين الانعتاق من السلطان”.
في مقالات ماركس- أنجلز، وكذلك في مراسلاتهما الشخصية، لم يكن ماركس الحزبي “الأممي” هو الطاغي، بل ماركس ذو الأولويات الأكبر من كل ما سبق. فالحضارة الأوروبية، بما تحمله من بذور بورجوزاية وعمالية وديمقراطية هشة، كانت كلها مهددة بأكبر رجعية قائمة على وجه الأرض، وهي روسيا. وتركيا العثمانية في هذه المقالات أشبه ما تكون في نظر ماركس – أنجلز بـ”ابتلاء للحضارة الأوروبية” ولقمة متاحة لالتهامها من مركز الثورة المضادة، روسيا.
في حال انتصار روسيا لن تكون هناك أوروبا. على الأقل هذا ما كان يلمح إليه ماركس، ولذلك كان لا يتردد في عقد آماله على انكلترا وفرنسا وتوحيد ألمانيا، رغم شعوره بالمرارة من البورجوازية الجبانة، لذلك اعتبر في تلك المرحلة، في لحظات خيبة من القوى الأوروبية، أن أميركا هي “ممثل الغرب الأكثر فتوة وبأساً”.
واحدة من كبرى مخاوف ماركس، ارتبطت بمصير القسطنطينية. فهي وفق تعريفه: “روما الشرق. وفيها التحمت الحضارة الغربية، في ظل أباطرة الروم، بالبربرية الشرقية. وفي ظل السيطرة التركية، تحالفت فيها البربرية الشرقية مع الحضارة الغربية، وكان هذا التحالف وذاك الالتحام متيناً لدرجة أصبح معها هذا المركز حاجزاً فعلياً في وجه التقدم الأوروبي”.
أكثر من ذلك، رأى ماركس في القسطنطينية “الجسر الذهبي المنصوب بين الشرق والغرب. والحضارة الغربية كالشمس، لا تستطيع أن تستكمل دورتها حول العالم دون أن تمر في هذه النقطة، وهي لا تستطيع اجتياز هذا الجسر دون أن تدخل في حرب مع روسيا”.
تحت عنوان “القوميات في تركيا”، بتاريخ 7 نيسان 1853، يطرح ماركس سؤاله المكرر: ماذا سنفعل بتركيا؟
يجيب بعد مرافعة محكمة لفكرته: “إنه لمن الأسهل الحفاظ على جثة حصان في نفس درجة الانحلال قبل تفككها الكامل. إن تركيا مهترئة..ستضاعف كل سنة الصعوبات الدبلوماسية والمشاكل الدولية..”.
“لنخلّص قارتنا من الرعاع”
في التشريح الجغرافي والاجتماعي للدولة العثمانية، يقسم ماركس تركيا إلى ثلاثة أجزاء متميزة كلياً: تركيا الأفريقية، تركيا الآسيوية، تركيا الأوروبية. ثم يعتبر أن قوة الدولة في القسم الأوروبي والأفريقي منتهية، فمصر تحت النفوذ البريطاني، والشعوب المسيحية البلقانية مستمرة في ثوراتها. وكل ما تبقى للعثمانية من القوة يكمن في تركيا الآسيوية. وحين يفصّل أكثر، فإنه يحصر مكمن القوة في آسيا الصغرى وأرمينيا، موطن جيوش الدولة على مدى أربعة قرون، وهي، مع ذلك، تشكل “تجمعاً بشرياً شديد الانغلاق من التعصب المحمّدي ومن القومية التركية”.
الواقع أن ماركس لا يطرح نفسه كمعادٍ تقليدي للدولة العثمانية التي كان يراها تركية ومتخلفة. بل، بطريقته ورؤيته العميقة، أراد تسريع العلاج بدلاً من إطالة المرض. فالنسبة له، ليس أمراً طبيعياً أن يحكم مليون تركي 12 مليون مسيحياً في البلقان، وهذا المليون أقل تحضراً من الغالبية، لكنهم مدججون بالأسلحة ، وفي الوقت نفسه هذه الدولة المترامية الأطراف، لن تصمد أمام أي هجوم روسي، وهنا تكمن المعضلة الأساسية وفق المسارات المتشنجة لتعبيرات ماركس، والناتجة عن قلق وجودي على الحضارة الغربية وعلى الثورة، أو بعبارة أخرى، إيمانه بعدم قدرة العالم على إيقاف روسيا في حال سقطت هذه الدولة الضعيفة والكبيرة في أيديها.
لكن ماركس لا يقصر قوة تركيا في جزئها الآسيوي فقط، بل يلفت إلى أن مركز القوة المسيطرة على تركيا الأوروبية يكمن في “سكان القسطنطينية الرعاع وسكان بعض المدن الأخرى، وأصل معظم هؤلاء الرعاع تركي”. ويخلص إلى نتيجة حاسمة أنه “ستبرز حتماً، عاجلاً أم آجلاً، الحاجة الملحة لتخليص قارتنا من سيطرة رعاع إذا قارناهم برعاع الامبراطورية الرومانية نرَ أن هؤلاء الأخيرين، بالنسبة لهم، مجموعة حكماء وأبطال”.
يقدم ماركس مبررات تجارية قوية لساسة انكلترا للدخول في حرب ضد روسيا. فوضع التجارة البريطانية المترنح في آسيا برمّتها بسبب سيطرة الروس، تجارياً، على ميناء طرابزون التركي على البحر الأسود “تجبر التجارة الانكليزية على أن تهاجم من جهتين في نفس الوقت داخل آسيا: من الهندوس ومن البحر الأسود”.
في النهاية، يخلص ماركس إلى أنه لَغايةٌ في الأهمية الحفاظ على الاستقلال التركي أو تصفية مشاريع روسيا التوسعية في حال تفكك الامبراطورية العثمانية. “ففي هذه المسألة، نرى أن مصالح الديمقراطية الثورية مترابطة مع مصالح انكلترا بشكل وثيق. فلا الديمقراطية ولا انكلترا تستطيع أن تدع القيصر يجعل القسطنطينية إحدى عواصمه”.
في نهاية هذه الحرب، نجت العثمانية من الزوال، بفضل تدخل بريطانيا وفرنسا، وإلى حد ما النمسا، وبقيت القسطنطينية “الإسلامية” حلاً وسطاً بين انتقالها إلى أيدي الامبراطورية الأرثوذكسية أو خصومها الغربيين. غير أن وجه الدولة نفسها كان قد تغير. فقد أصدر السلطان عبدالمجيد الأول مرسوم “خط همايوني” بعد نهاية الحرب مباشرة، وأرفق الإصلاحات بما سمي بعد ذلك “الدستور الأرمني”، كما تم فتح الأناضول وكردستان أمام البعثات التبشيرية، ليس فقط لتنصير المسلمين، بل لتجفيف المسيحية الأرثوذكسية في الدولة العثمانية. من هذه النقطة تفجّرت لاحقاً مسألتان: الأرمنية والكردية.
هناك محطات مفصلية في تاريخ العثمانية وتركيا، واجهت خلالها الدولة خطر الزوال، أو سيطر هذا الهاجس على حكامها. بداية مع حرب القرم عام 1853، حرب 1878، حرب البلقان 1912 – 1913، الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918)، ولمرة واحدة سيطر هاجس الزوال على الدولة التركية الحديثة، عام 2016، وهو ما يحتاج إلى وقفة أخرى تبدأ بالإجابة التي قدمها التاريخ اللاحق، بعد مرور 70 عاماً على طرح ماركس سؤاله الجوهري: ماذا سنفعل بتركيا؟