تركيا وسوريا: أوهام في طريق المصالحة
محمد نورالدين
سال حبر كثير منذ الخامس من أغسطس/آب 2022 حين أعلن وزير الخارجية التركي حينها مولود تشاووش أوغلو عن إمكانية بدء لقاءات بين مسؤولين أتراك وسوريين لتطبيع العلاقات بين البلدين.
بعدها، توالت التصريحات التركية باحتمال عقد لقاءات أعلى من المستوى الاستخباراتي. وكانت الأنباء تخرج من وقت لآخر بأن رئيس الاستخبارات التركية حينها هاكان فيدان يلتقي من وقت لآخر برئيس جهاز الأمن الوطني السوري علي مملوك.
مع اقتراب نهاية العام 2023، أثمرت الوساطة الروسية عن اجتماع ثلاثي غير مسبوق في موسكو في 28 ديسمبر/كانون الأول، بين وزراء دفاع روسيا سيرغي شويغو، وتركيا خلوصي آكار، وسوريا علي محمود عباس.
كانت الآمال كبيرة قياساً إلى التوقعات. وجاء البيان الختامي ليعلن أن الاجتماع عقد في «أجواء بناءة» وان اجتماعاً آخر سيعقد مجدداً بين الوزراء الثلاثة. لكن أمراً لافتاً حصل وهو أن إيران لم تشارك في اجتماع موسكو. وانعكس ذلك سلباً على الوساطة الروسية، إذ إن طهران اعترضت على استبعادها من الوساطة، وهو ما تم تداركه في الاجتماع الثاني الذي انعقد في 25 أبريل/نيسان 2023 بحضور وزير الدفاع الإيراني محمد رضا أشتياني.
لكن بقيت هذه الاجتماعات في إطارها العسكري. ومارست موسكو أقصى أنواع الضغوط على أنقرة ودمشق لنقل مستوى الاجتماعات إلى مستوى وزراء الخارجية وهو الأمر الذي تحقق في 10 مايو/أيار 2023. لكن لم يتحقق ما كانت تأمل منه موسكو، كما إيران، وهو الاتفاق على ترتيب لقاء على مستوى الرؤساء بين رجب طيب أردوغان وبشار الأسد. وانصرف بعدها الأتراك بالكامل إلى انتخاباتهم الرئاسية والنيابية في 14 و 28 مايو/أيار.
فشلت محاولات لقاء أردوغان والأسد قبل الانتخابات التركية لسببين رئيسيين. الأول، أن أردوغان كان يريد من اللقاء مجرد صورة تخدمه في الانتخابات الرئاسية وتظهر أنه في صدد إراحة المجتمع التركي وحل مشكلاته ببدء المصالحة مع سوريا، خاصة أن مسألة اللاجئين السوريين في تركيا كانت تضغط اجتماعياً واقتصادياً على أردوغان وفريقه السياسي.
السبب الثاني هو أن الأسد رفض اللقاء مع أردوغان لمجرد اللقاء، وطالب بأن تعلن تركيا مسبقاً استعدادها الانسحاب من سوريا، ولو تدريجياً، وبناء على جدول زمني.
رفض أردوغان الشرط السوري، ومن ثم فاز في الانتخابات. وكان ذلك بداية اختفاء الحديث عن محاولات الجمع بين أردوغان والأسد، بل بداية مرحلة طويلة مستمرة حتى الآن من غياب أي محاولة لعقد لقاءات من أي نوع سواء العسكري منه أو السياسي أو الوزاري.
فجأة وفي السابع من يونيو/ حزيران، نشرت صحيفة «آيدينلك» التابعة لحزب وطن – القومي – والمعادية بشدة لحزب العمال الكردستاني، خبراً عن حصول اجتماع في قاعدة حميميم الروسية في سوريا بين مسؤولين أمنيين أتراك وسوريين، وذكرت أن اجتماعاً قريباً سوف يعقد بين الوفدين في بغداد. ويجر هذا إلى الحديث عن محاولات للوساطة العراقية بين أنقرة ودمشق تبعاً لما صرح به رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني.
كان تصريح السوداني مفاجئاً. لكن على ما يبدو أراد السوداني أن يراكم من رصيده الإقليمي بالتنطح لدور إقليمي، خاصةً بعدما اعتقد ان استقباله الرئيس التركي في 22 أبريل/نيسان الماضي في بغداد يخوله أن يظهر بمظهر زعيم إقليمي ويعمل على ملف المصالحة بين تركيا وسوريا.
أعاد ذلك طرح التساؤل التالي: إذا كانت روسيا، الأكثر قدرة وتأثير، لم تنجح في وساطتها فكيف للسوداني، الذي لا يملك شيئا من مثل هذه الأوراق سوى الرغبة في ذلك، أن ينجح في مبادرته؟
لم يؤكد اجتماع حميميم أو ينفيه أي طرف لا في تركيا ولا في سوريا. وانطلقت حملة إعلامية متفائلة بهذا الإجتماع المفترض. وفي حين لم يصدر أي بيان رسمي أو تعليقات عامة في تركيا على خبر لقاء حميميم، فاجأت صحيفة «الوطن» السورية الجميع بإعلانها في 24 يونيو/حزيران أن لا صحة للأنباء عن اجتماع في حميميم، وأن سوريا متمسكة بشروطها للقاء مع الأتراك وهو إعلان أنقرة نيتها سحب جيشها من سوريا. هذا في وقت كان الرئيس السوري يستقبل المبعوث الروسي ألكسندر لافرنتييف ويعلن أن سوريا تتعامل بشكل «إيجابي وبنّاء» مع المبادرات التي تسعى للمصالحة مع تركيا تحت شرط «احترام سيادة الدول واستقرارها ومحاربة كل أشكال التنظيمات الإرهابية». ويعني ذلك أن تعلن تركيا مسبقاً استعدادها الانسحاب من سوريا.
كان مثيراً ومفاجئاً بعض الشيء، كما أسلفنا، أن تظهر أنباء عن محاولات للمصالحة بين تركيا وسوريا بعد حوالي سنة من طي صفحة هذا الموضوع. وفي حين كانت تلك الأنباء تصدر عن أطراف عربية، عراقية تحديداً، كان الجانب التركي، بمختلف مسؤوليه في هذه الفترة بالذات، يثبّت مواقفه السابقة من المصالحة مع دمشق.
وفي الرابع من مارس/آذار الماضي، كان أردوغان نفسه يؤكد على أن تركيا «مصممة على إقامة حزام أمني داخل سوريا على امتداد الحدود وبعمق 30-40 كيلومتراً داخل الأراض السورية».
إلا أن الموقف الثاني الأكثر إثارة كان خطاب وزير الدفاع التركي ياشار غولر في الأول من يونيو/حزيران الجاري بعد انتهاء مناورات عسكرية تركية تحت اسم «أفس 2024» ويمكن اعتباره بمثابة خريطة طريق تعكس بصورة دقيقة وشاملة وجهة النظر التركية. وجاء في الخطاب حرفياً أن «حزب العمال الكردستاني/حزب الاتحاد الديمقراطي (السوري) يشكل تهديداً لتركيا. ولذا، قامت تركيا بعمليات عسكرية متتالية. وبعد أن يكسر الجيش التركي هذا الإرهاب يبدأ الحديث عن مواعيد لانسحاب الجيش التركي. ومع أن روسيا كانت تعبر عن قلقها من هذا الإرهاب لكنها كانت تدعم دمشق في مطالبها. وكنا نرسل مطالبنا إلى دمشق بطرق مختلفة ومن وقت لآخر».
وأضاف غولر أنه «حتى الآن، لم تتغير شروط تركيا التي أعلنتها منذ العام 2021 وهي:
1- اتفاق كل السوريين على دستور جديد يحمي حق كل الفئات السورية.
2- وضع نظام انتخابي يمكن أن تشارك فيه كل فئات الشعب السوري.
3- بعد إجراء هذه الانتخابات، تشكيل حكومة شرعية.
4- إنهاء البنى الإرهابية على الحدود التركية – السورية والتي تستهدف وحدة الأراضي التركية.
5- بعد إتمام كل هذا وضمان الأمن الكامل على الحدود، يمكن لنا أن ننظر في الانسحاب إذا كان ذلك ضرورياً».
من الواضح جداً من خطاب غولر أن مواقف تركيا ليست جديدة ولا تعود إلى بداية مسار المصالحة في العام 2022 بل إلى العام 2021. ولذلك لم تبادر إلى أي خطوة تتعلق بتغيير إيجابي للوضع مع سوريا وداخل الأراضي السورية المحتلة.
وبعد كل هذا الضجيج عن مبادرة عراقية ولقاءات أمنية بين أنقرة ودمشق، أتى كلام وزير الخارجية التركي فيدان مؤكداً على «عدم التغيير» في المواقف التركية. وتنبع أهمية كلام فيدان، الذي جاء في حوار تلفزيوني مع محطة «خبر تورك» في 24 يونيو/حزيران، أنه صدر مباشرة بعد عودته إلى أنقرة من زيارة إلى موسكو التقى خلالها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وقال فيدان: «بالنسبة لسوريا، إن الشيء الأهم الذي نجحنا فيه مع الروس هو عدم استمرار الحرب حتى الآن بين النظام والمعارضة. مسارات أستانا أعطت إمكانية مشاركة منصات أخرى. لو أن النظام السوري قام بتقييم حكيم لفترة الهدوء هذه، كان يجب إعادة ملايين اللاجئين الذين هربوا خارج البلاد ومنحهم فرصة بناء البلاد. لقد شددنا في لقاءاتنا مع نظرائنا الروس على هذه النقطة. سوريا يجب أن تقوم بذلك من أجلها هي. نرى أهمية لعودة اللاجئين. ونرى أن سوريا التي يتوحد فيها النظام والمعارضة لاعب مهم في المعركة ضد إرهاب حزب العمال الكردستاني. عمليات إسرائيل في سوريا والمجموعات المختلفة من الميليشيات تجعل الوضع أكثر تعقيداً. سياستنا الديناميكية مهمة».
وعن وحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية، قال فيدان إنها «مشكلة» تتصل بدولتين هما الولايات المتحدة وبريطانيا، وبصورة أقل فرنسا. وقال: «نعكس دائماً لواشنطن قلقنا هذا كونه يتناقض مع موجبات التحالف بيننا والأميركيين».
ما يمكن الخروج به من مواقف أردوغان وغولر وفيدان أن تركيا تريد ما يلي قبل تحقيق المصالحة:
1- تنشيط المسار السياسي في سوريا بين السلطة والمعارضة. أي الاتفاق على دستور جديد وإجراء انتخابات نيابية وتشكيل حكومة جديدة شرعية.
2- التعاون مع الجيش السوري ضد الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا. وهنا، يتبادر الى الذهن ما كان زعيم حزب الحركة القومية وشريك أردوغان في السلطة دولت باهتشلي صرح به في أواخر مايو/أيار الماضي من أنه يريد للحكومة التركية أن تتواصل مع دمشق من أجل القيام بعمليات عسكرية مشتركة ضد وحدات حماية الشعب في شمال البلاد.
3- بعد كل هذا، يمكن لتركيا أن «تنظر» في وضع جيشها في سوريا من دون الجزم في أنها ستنسحب حتماً من هناك.
إن «ثوابت» الموقف التركي تطرح بلا شك الكثير من التساؤلات، من قبيل:
1- إن المسار السياسي من حوار ووضع دستور جديد وإجراء انتخابات وتشكيل حكومة جديدة هو شأن داخلي سوري ولا يمكن لأي دولة خارجية أن تملي مواقفها ورغباتها وإرادتها على السوريين حتى في ذروة التطاحن الداخلي.
2- إن مثل هذه الشروط أقرب في ظل الظروف الراهنة إلى التعجيز من أي شيء آخر. وحتى لو افترضنا تم البدء بذلك الآن، فهذا يحتاج إلى سنوات.
3- إن اشتراط إنهاء ما تسميه أنقرة «التهديد» الكردي في شمال سوريا أمر غير واقعي. فالمجموعات المسلحة هناك لم تهدد تركيا يوماً على الإطلاق. وكل عمليات الجيش التركي منذ ما يسمى «درع الفرات» عام 2016 و«غصن الزيتون» في 2018 و«نبع السلام» في 2019 كانت «استباقية»، متذرعة باحتمالات افتراضية بل وهمية.
4- كما أن افتراض أن يتعاون الجيش السوري مع جيش أجنبي ومحتل هو الجيش التركي لضرب مجموعات هي سورية في الأساس، أمر لا يفترض أن يرد في بال الحكومة السورية، علماً أن الحوار بين دمشق وحزب الاتحاد الديمقراطي لم ينقطع ولا يزال مستمراً وإن بشكل متقطع، على الرغم من كل الضغوط الخارجية المعرقلة.
5- لا تبدو تركيا واقعة تحت ضغط أي طرف لكي تنسحب من سوريا أو أن تبدأ حتى مسار مصالحة ينتهي الى انسحابها. فروسيا، الأكثر قدرة على الضغط على تركيا، باتت مشغولة أكثر بأوكرانيا منذ سنتين ونيف. وهي الآن تحتاج إلى دعم تركيا لها أكثر من قبل. وإيران أيضاً أصبحت أكثر انشغالاً بالوضع في غزة، ولم يعد انسحاب القوات التركية من سوريا يشكل أولوية لها في ظل الوضع المتفجّر في المنطقة.
6- إلى ذلك، فإن البدء بخطوات ثنائية بين أنقرة ودمشق ليس سيئاً، ولكنه يواجه تحديات وصعوبات مع تعدد اللاعبين المؤثرين في الساحة السورية ومع ربط حل الملف السوري بملفات ساخنة ومتفجّرة أخرى في المنطقة مثل القضية الفلسطينية والوضع في جنوب لبنان والصراع بين الغرب وروسيا في أوكرانيا، فضلاً عن اتساع بؤر التوتر في المنطقة من القوقاز إلى العراق والبحر الأحمر والانتخابات الرئاسية الأميركية وممرات الطاقة والتجارة (وآخرها طريق الحرير الصيني وطريق التنمية في العراق والممر الهندي إلى إسرائيل فأوروبا). إن كل ما سبق يجعل الحديث عن بدء جدي بخطوات مصالحة بين أنقرة ودمشق في غير محله.
7- ما لا يجب أن يغيب عن الذهن والرؤية والتحليل أن احد أهم الأسباب التي تتحكم في السلوك التركي في سوريا كما في العراق هو الخلفية التاريخية التي تدفع أنقرة لكي تحاول إحياء خطط استعادة حدود الميثاق الملي لعام 1920 والذي ضمت خريطته الافتراضية حينها شمال سوريا وشمال العراق. وإذا كانت بعض الظروف بعد العام 2011 توفرت لتحقيق بعض أجزاء هذا «الحلم» في سوريا، لا سيما بعد العام 2016، فإن تركيا لن تتوانى عن استمرار بذل كل المحاولات لاستكمال ما تبقى من احتلال أراض في سوريا، كما لتحويل كردستان العراق إلى منطقة احتلال فعلياً بعدما حولتها الى منطقة هيمنة وسيطرة. وكل ذلك وفقاً لحدود الميثاق الملّي وربما.. أبعد منه.