الحرب في غزة وآفاق المسار السياسي الفلسطيني الإسرائيلي

د. حسين الديك

بعد أكثر من سبعة أشهر من الحرب في قطاع غزة، أصبح الحديث عن مسار سياسي فلسطيني إسرائيلي لما بعد الحرب رائجاً ومتداولاً في الكثير من النقاشات السياسية في المنطقة والعالم. وهذا المسار هو ضرورة حتمية نابعة من صرورة تاريخية. فبعد الحروب، تأتي المفاوضات والترتيبات السياسية، واستناداً إلى أن الحرب هي أداة من أدوات السياسية ويتم القيام بها غالباً لتحقيق أهداف سياسية.

بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 قام وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بعدد كبير من الزيارات الى منطقة الشرق الأوسط، والسبب في ذلك هو مدى التأثير الذي أحدثه السابع من أكتوبر وارتداداته الإقليمية. وهدفت زيارات بلينكن إلى محاولة التوصل الى هدنة مؤقته ومنع توسع الحرب إلى جبهات أخرى، خاصة بعد أن وجدت الولايات المتحدة أن مصالحها تتعرض لهجمات كثيرة وتحديداً في العراق وسوريا وتهديد حركة الملاحة البحرية في البحر الأحمر وخليج باب المندب من قبل الحوثيين في اليمن.

أصبح هناك قناعة أساسية لدى الإدارة الأميركية بضرورة البحث عن مسار سياسي جديد بعد الحرب قائم على أساس حل الدولتين وتوفير الأمن والاستقرار لإسرائيل ودول المنطقة. وكان هذا المسار السياسي من خلال التنسيق مع الدول العربية وتشكيل ما عرف بالسداسية العربية برئاسة السعودية، أهم التطورات التي حصلت في هذا المسار.

فريق أميركي لبحث الاعتراف بدولة فلسطينية

وفي تقرير لصحية «واشنطن بوست» بعد حوالي 130 يوماً من الحرب الدائرة في قطاع غزة، أعلنت وزارة الخارجية الأميركية أن بلينكن كلف فريقاً في الوزارة لدراسة إمكانية اعتراف الولايات المتحدة بدولة فلسطينية. وكان الموقف الأميركي الرسمي منذ بداية الحرب داعماً بشكل كبير لإسرائيل وبكل ما تقوم به من أجل تحقيق أهداف الحرب بتدمير البنية العسكرية لحركة حماس واستعادة المخطوفين وضمان ألّا يشكل قطاع غزة أي تهديد مستقبلي على إسرائيل. وتجلى ذلك أيضاً في البيان الخماسي الصادر عن دول بريطانيا وألمانيا وإيطاليا فرنسا والولايات المتحدة ليكون الخطوة الأولى في التأييد السياسي من قبل هذه الدول، فيما دأبت الولايات المتحدة على تقديم المساعدات العسكرية لإسرائيل وعملت على توفير الغطاء السياسي لها في مجلس الأمن الدولي لإسقاط أي مشروع قرار يدعو لوقف إطلاق النار في قطاع غزة.

ساهمت العديد من العوامل في التوجه الى البحث عن مسار سياسي لما بعد الحرب في قطاع غزة منها ما يتعلق بالواقع الميداني العسكري ومنها ما يتعلق بالتأثير في الرأي العام الدولي ومنها ما يتعلق بالوضع الإقليمي، خاصة العلاقات الأميركية مع الدول العربية. وأشارت صحيفة «الشرق الأوسط» إلى أن هناك مجموعة من الأسباب والعوامل التي تضافرت مع بعضها البعض ودفعت الإدارة الأميركية للبحث عن مسار سياسي بعد الحرب في غزة، منها عوامل تتعلق بالداخل الأميركي والحسابات الحزبية والانتخابية الأميركية، إذ تشير استطلاعات الرأي الى تقدم مرشح الحزب الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. ومنها أيضاً ما يتعلق بالتحركات الدبلوماسية في الأمم المتحدة وطلب الاعتراف بدولة فلسطينية كاملة العضوية في الأمم المتحدة، ومنها عوامل تتعلق بالتطورات الميدانية العسكرية وعدم قدرة الجيش الإسرائيلي على حسم المعركة بتحقيق أية أهداف أو انتصارات من خلال العمليات العسكرية، خاصة إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين، مع دخول قوى أخرى على خط الأزمة، خاصة من اليمن ولبنان والعراق ومهاجمة القواعد الأميركية وتهديدها وتعريض المصالح الأميركية في منطقة الشرق الأوسط للخطر.

إضافة الى كل ما سبق، فإن التحرك الجماهيري والاحتجاجات في الجامعات الأميركية والأوروبية لعبت دوراً أساسياً في حديث الإدارة الأميركية بشكل جدي عن مسار سياسي لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بعد الحرب في غزة. وذكرت صحيفة «القدس العربي» أن التحركات الشعبية في الشارع الأميركي، خاصة من قبل طلاب الجامعات والعديد من المنظمات مثل «حياة السود مهمة» ومنظمات السلام اليهودية والمنظمات الإسلامية والعربية والفنانين والمؤثرين، أدت إلى أن يتصدر البحث عن أفق سياسي لما بعد الحرب على قطاع غزة الأجندة السياسية العالمية وليصبح جوهر وأساس الخطاب الدولي والأميركي. وأكد معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي أن هناك تسوية إقليمية يتم العمل عليها في الشرق الأوسط. ومن أهم ملامح تلك التسوية: إنهاء الحرب في قطاع غزة وعودة السلطة الفلسطينية الى القطاع وإطلاق مسار سياسي جديد كتمهيد لعلاقات سياسية ودبلوماسية بين السعودية وإسرائيل، مع موافقة فلسطينية إسرائيلية على تشكيل ائتلاف عربي وغربي لإعادة إعمار القطاع تكون السلطة الفلسطينية شريك أساسي فيه. ومن هنا، فان موافقة إسرائيل على إيقاف الحرب في غزة والسماح بعودة السلطة الفلسطينية إلى هناك يمكن أن يعمل على تحسين وضع إسرائيل الاستراتيجي في المنطقة ويسمح بانطلاق مسار سياسي جديد.

عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة

أفادت صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو ما زال يرفض عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة في اليوم التالي للحرب، وأن هذه القضية تعتبر من أهم الخلافات ما بين واشنطن وتل أبيب، إذ ترى إدارة الرئيس جو بايدن أنه من الضرورة عودة السلطة الفلسطينية إلى القطاع بعد إجراء إصلاحات جذرية فيها وإعادة تنشيطها، بينما ما زالت الحكومة الإسرائيلية ترفض هذا الخيار. وأكد ذلك عدد من الوزراء في تلك الحكومة وعلى رأسهم نتانياهو حين قال: «لن أسمح لإسرائيل أن تكرر خطأ أوسلو. فبعد التضحيات الكبيرة التي قدمها جنودنا في هذه الحرب، لن أسمح بدخول غزة من أولئك الذين يقومون بتعليم الإرهاب ودعم الإرهاب وتمويل الإرهاب»، في إشارة الى السلطة الفلسطينية، مضيفاً أن غزة «لن تكون حماسستان ولا فتحستان».

تجسد هذا الموقف الرافض لعودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة من قبل الحكومة الإسرائيلية في تصريحات أبعد من ذلك لوزراء من اليمين الإسرائيلي بضرورة إعادة احتلال القطاع وإقامة المستوطنات فيه. ولكن واجه هذا التوجه المزيد من الرفض العربي والأميركي والأوروبي أيضاً. وذكرت صحيفة «العربي الجديد» أن الرؤية الأميركية لغزة ما بعد الحرب تتمثل في التمسك بأهداف الحرب وأهمها تدمير المقاومة في غزة وتولي قوات عربية ودولية وبدعم أميركي مهام حفظ النظام في غزة والعمل عل تهيئة الظروف لإطلاق مسار سياسي جديد يسمح بعودة السلطة الفلسطينية إلى القطاع في مرحلة لاحقة وإبقاء مزايا خاصة لحرية الحركة والرقابة وتنفيذ عمليات محدودة للجيش الإسرائيلي في القطاع كما هو الحال في الضفة الغربية، وربط هذه الرؤية بمسار سياسي إقليمي تكون إسرائيل جزءاً منه من خلال تطبيع العلاقات ما بين إسرائيل وعدد من الدول العربية والإسلامية، وعلى راسها السعودية، وحل الصراع العربي الإسرائيلي على أساس خيار حل الدولتين.

وتتفق هذه الرؤية مع ما ورد في تقرير لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى حول الخيارات المستقبلية للقطاع بعد الحرب، إذ أكد التقرير على أن الخيار الأنسب هو تولي قوات عربية من الدول التي لديها علاقات سياسية ودبلوماسية مع إسرائيل، خاصة مصر والأردن والمغرب، والعمل على تهيئة الظروف مستقبلاً لتولي السلطة الفلسطينية بعد إعادة هيكلتها وإصلاح أجهزتها الأمنية. وهذا يحتاج إلى ثلاث سنوات تقريباً قبل البدء بمسار سياسي فلسطيني إسرائيلي برعاية عربية وأميركية ودولية قائم على خيار حل الدولتين.

ضغوط أميركية

تستمر المفاوضات السعودية الأميركية منذ فترة طويلة بشأن توقيع اتفاق شراكة ما بين الدولتين. وأهم ملامح هذا الاتفاق هو مطلب السعودية توقيع اتفاقية دفاع مشترك مع الولايات المتحدة على غرار تلك الموقعة بين الولايات المتحدة وكل من كوريا واليابان. ولكن تشترط واشنطن مقابل ذلك توقيع اتفاق سلام وتطبيع العلاقات ما بين تل أبيب والرياض. ولكن مقابل ذلك، تشترط الرياض بدورها إطلاق مسار سياسي لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وأفادت شبكة «سي إن إن» الأميركية أن المسار السياسي الذي يتم العمل عليه ما بين السعودية والولايات المتحدة يشمل على ثلاثة مسارات سياسية فرعية، أولها مجموعة الاتفاقيات ما بين السعودية والولايات المتحدة، منها ما يتعلق بالدفاع المشترك والبرنامج النووي السلمي وغيرها، وثانيها تطبيع العلاقات ما بين الرياض وتل أبيب في مسار سياسي تصبح فيه إسرائيل جزءاً من المنظومة شرق الأوسطية، وثالثها مسار سياسي متعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي على أساس حل الدولتين.

آفاق النجاح والإخفاق

وأشارت صحيفة «النهار العربي» إلى أن آفاق النجاح أو الإخفاق لأي مسار سياسي يتعلق بموقف الأطراف الفاعلة والمؤثرة، وأول هذه الأطراف هو الطرف الأميركي الذي يستطيع أن يضغط على كافة الجهات، خاصة على الإسرائيليين، للسير قدماً في مسار سياسي جدي يؤدي إلى التأسيس لحل شامل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، قائم على أساس حل الدولتين والضغط القوي على إسرائيل للتوقف عن بناء المستوطنات وتهويد القدس والانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.

وذكرت شبكة «الجزيرة» الإعلامية أن الطرف الثاني الذي يعتمد عليه نجاح أي مسار سياسي هو الحكومة الإسرائيلية، وأيضا موقف المعارضة الإسرائيلية، في ظل تنامي قوة اليمين القومي والديني ويمين الوسط الممثل بأحزاب الجنرالات في إسرائيل (أي حزب المعسكر الرسمي) برئاسة بيني غانتس، وإمكانية توحيد معسكر اليسار الإسرائيلي (حزبا العمل وميرتس برئاسة نائب رئيس هيئة الأركان السابق الجنرال يائير غولان). إذ أن فكرة الاعتراف بدولة فلسطينية غير موجودة  على الأجندة الحزبية والسياسية لليمين القومي واليمين الديني في إسرائيل الذي يشكل عصب وعماد الحكومة الحالية. وصوت أعضاء الحكومة الإسرائيلية بالإجماع على رفض الاعتراف بدولة فلسطينية من جانب واحد من قبل الولايات المتحدة، بمن فيهم غانتس وغادي إيزنكوت. وحتى المعارضة الإسرائيلية بزعامة يائير لابيد رفضت ذلك الخيار، وقالت إن هذا الأمر يجب أن يخضع للمفاوضات الثنائية بين الجانبين.

يشير ذلك بكل وضوح إلى أن غالبية الاحزاب في إسرائيل تتفق على رفض الاعتراف بدولة فلسطينية من خلال الاعتراف بها من جانب المجتمع الدولي. ولكن التباين بينها يتمثل في أن المعارضة الإسرائيلية تريد أن يكون الاعتراف بالدولة الفلسطينية من خلال مفاوضات ثنائية بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، بعكس حكومة اليمين الحالية التي ترفض أي اعترف بدولة فلسطينية أياً كان شكلها.

وأفاد موقع «دي دبليو عربي» أن الولايات المتحدة، وبالتعاون مع دول الاعتدال العربي، أعدت خطة سلام إسرائيلي فلسطيني دائم بعد انتهاء الحرب تنص على تحديد جدول زمني لإقامة دولة فلسطينية. وتتلخص هذه المبادرة في الاعتراف بدولة فلسطينية منزوعة السلاح من قبل الولايات المتحدة وبقية دول العالم، إذ صرح الرئيس الأميركي جو بايدن أن هناك دولاً ليس فيها جيش وهي أعضاء في هيئة الأمم المتحدة، وممكن أن ينطبق ذلك على دولة فلسطينية مستقبلية. وصرح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أنه يدعم قيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح. ولكن رئيس الوزراء الإسرائيلي أكد أنه لن يسمح بقيام دولة فلسطينية ما دام رئيساً للوزراء، وأن الصراع ليس على قيام الدولة الفلسطينية بل على القضاء على دولة إسرائيل. وعرض الأمر على مجلس الوزراء، الذي أيد بالإجماع رفض قيام دولة فلسطينية. وبعد يومين، طرح لأمر في الكنيست، والذي أصدر بياناً يرفض الاعتراف بقيام دولة فلسطينية بأغلبية 99 عضو من أصل 120 هم إجمالي أعضاء الكنيست.

أما على الصعيد الفلسطيني، نقلت قناة «الحرة» الأميركية تصريحات لبلينكن بأنه على المدى الطويل، تعمل إدارة بايدن على إعادة توحيد الضفة وغزة تحت حكم قيادة فلسطينية، وهذا ما يتوافق مع ما طرحه الرئيس الفلسطيني محمود عباس بضرورة عقد مؤتمر دولي للسلام للتوصل إلى حل سياسي عبر إقامة دولة فلسطينية في الضفة وغزة، وتعهده بتنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية والقيام بإصلاحات في السلطة الفلسطينية. لم تكن المشكلة يوماً من الأيام في الجانب الفلسطيني بل كانت دائماً لدى الاحتلال الإسرائيلي، وفي مدى إمكانية فرض تنفيذ تلك المبادرة من قبل الولايات المتحدة التي تطرح في العادة مبادرات السلام لكنها لا تفرض آلية لتنفيذها على الطرفين، بل تترك ذلك للمفاوضات المباشرة ما بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.

الخلاصة

يبدو واضحاً أن هناك مساراً سياسياً بدأت تتشكل ملامحه لما بعد الحرب في قطاع غزة، وأن حضور السلطة الفلسطينية في القطاع أصبح أمراً مسلماً به. ولكن التباين يتمثل في حضور السلطة مباشرة بعد انتهاء الحرب أو بعد فترة انتقالية لمدة زمنية معينة وفق ترتيبات خاصة ما بين الأطراف الفاعلة وخاصة الولايات المتحدة وإسرائيل ودول السداسية العربية.

 إن محاولات إسرائيل، وخاصة حزب الليكود الذي يتولى زمام القيادة منذ العام 2009، إدارة الصراع وشراء الوقت وتجنب الدخول في أي مسار سياسي يؤدي إلى حل الدولتين، فشلت فشلاً ذريعاً. وأصبح هناك ضرورة حتمية فرضت نفسها على كافة الأطراف بإطلاق مسار سياسي جديد يؤدي إلى قيام دولة فلسطينية وفق قرارات الشرعية الدولية. وبات هناك قناعة لدى الإدارة الأميركية أن استراتيجية إدارة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لن تجلب الأمن والاستقرار الى المنطقة بل ستعني بقاء حالة الاستقطاب والمواجهة الدائمة، وأن حالة الأمن والسلم في الشرق الأوسط تقتضي إطلاق مسار سياسي يؤدي إلى قيام دولة فلسطينية.

كما أن الإصرار العربي والسعودي على إطلاق مسار سياسي فلسطيني إسرائيلي قبل تطبيع العلاقات ما بين إسرائيل والسعودية يشكل نقطة مركزية وجوهرية دافعة نحو مسار سياسي جديد يؤدي الى حل الدولتين بعد انتهاء الحرب في قطاع غزة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد