أتاتورك في المخيّلة النازية
مراجعة وإعداد: شورش درويش
الكتاب: أتاتورك في المخيّلة النازية (Atatürk in the Nazi Imagination)
المؤلف: شتيفان إيريش
الترجمة عن الإنكليزية: هوزان هادي
منشورات نقش، ودار شلير للنشر
عدد الصفحات- 558
في هذه الدراسة المطوّلة، يستعرض شتيفان إيريش، الأكاديمي والمحاضر والأستاذ بقسم التاريخ في جامعة حيفا والمحرر المشارك في مجلة «أبحاث الهولوكوست»، مقدار تأثّر وافتتان اليمين واليمين المتطرّف والنازية بتجربة تركيا في أوائل القرن العشرين، تحديداً فترتي 1919-1923 و1933و1938 والفترة اللاحقة التي ستنتهي عام 1945 مع نهاية الحرب العالمية الثانية، بالاعتماد على وسائل الإعلام المطبوعة والبيانات العامة، وبناءً على نظرة الشخصيات الرئيسية الهامة، وبالتالي إعادة بناء وجهات النظر السائدة في تلك الفترات.
خلال الكتاب الممتد على ستة فصول وفصلٍ تمهيدي وآخر للخاتمة، سيظهر بوضوح كيف قدّم أدولف هتلر نفسه بوصفه تلميذاً نجيباً لمصطفى كمال، وكيف رُسمت صورة غير واقعية لتركيا واستحضرت السياسات التركية و«الحلول التركية» لتصبح الكاتالوغ أو القاموس الذي ستفتّش فيه النازية للتعلّم والاقتداء لاسيما تلك التي تتحدّث عن نظام «فولكشيّ» جديد يمثّل حركة شعبية بقيادة زعيم أوحد هو «الفوهرر» التركي «أتاتورك»، وما استتبع ذلك من تقليدٍ ألماني لمناحي السياسة التركية المتمثّلة بالإبادة الجماعية للأرمن وإعادة البناء الاجتماعي والعمراني المشار إليها بالـ«آوفباو»، وصولاً لاستحضار موضوعتي المضائق ولواء الإسكندرون في الصحافة النازية كجزء من رغبة ألمانية لبسط سيطرتها على المناطق الناطقة بالألمانية خارج حدودها.
تقدّم الترجمة المتأنية والرشيقة التي قدّمها هوزان هادي إمكانية الوصول لقراءة سلسة للقرّاء بالعربية، فوق تكبّده عناء وضع هوامش تشرح العبارات والمصطلحات المستخدمة في متن الكتاب.
يبقى أن يُشار للكتاب بأنه أوّل دراسة أكاديمية تتبع منهجاً كرونولوجياً يستند إلى آلاف المقالات وعشرات الكتب، خاصة كتب السيرة الذاتية التي تناولت حياتي «أتاتورك» وهتلر في تلك الفترة، الأمر الذي يمنح القارئ فكرة الاطلاع عن كثب على ما كان يدور في المخيلة النازية التي كانت تعجّ بأخبار تركيا وحماسة النازية للنموذج الأتاتوركي ولتركياه الجديدة. وبذلك يكون الكتاب هو الأول من نوعه الذي يعالج هذه العلاقة بدرجة تفصيلية أكثر من سواها من كتب أشارت إلى تلك العلاقة دون أن تبلغ هذا المستوى من التفصيل.
في هذه القراءة الطويلة، ثمة مساحة لعرض بعض التفصيلات التي جاءت في الكتاب، ووضعها في إطار سرديّ تمكّن القارئ من بلوغ مستوى من الاطلاع الواسع على موضوعات الكتاب، دون أن تعوّض عن قراءة الكتاب بأكمله. كما حاولت القراءة التقليل من كثرة التكرار التي وردت في فصول الكتاب والتي قد تكون أحد المآخذ على الدراسة، حيث توجد فقرات مكررة حرفياً في غير موضعٍ من الكتاب، والتي، ربما، أراد منها الكاتب التأكيد على فكرته المحورية التي حملها عنوان الكتاب.
المحتويات
تمهيد: الرحيل إلى «أنفرلاند»
الفصل الأول: دروس تركيّة لألمانيا
حرب الاستقلال التركية بوصفها حدثاً إعلامياً ضخماً في جمهورية فايمار من 1919 إلى 1923
الفصل الثاني: أنقرة في ميونخ
تركيا وانقلاب هتلر
الفصل الثالث: نجمة هتلر: «نجمة وسط الظلام»
الإعجاب النازي بأتاتورك وتركيا الحديثة
الفصل الرابع: «الفوهرر التركي»
الهاغيوفرافيا النازية والتربية القومية
الفصل الخامس: تركيا الجديدة
الرؤى النازية لدولة فولكشية حديثة
الفصل السادس: الحرب العالمية الثانية وتركيا
أهي إسبانيا أخرى؟
الخاتمة: إلى حجرٍ في البداية، ومن ثم إلى تراب
تمهيد: الرحيل إلى أنفرلاند
في المساحة التمهيدية للكتاب، يعود شتيفان إيريش إلى عام 1908. وقتذاك هددت حركة تركيا الفتاة بالزحف للقسطنطينية ما لم تتم استعادة دستور 1878. وأذعن السلطان الأحمر، عبدالحميد الثاني «الدمويّ وسيئ السمعة» لذلك، فيما استمر الصراع حتى عام 1909 وهو العام الذي زحف فيه أنور باشا أحد قادة تركيا الفتاة إلى العاصمة بعد أن سحقوا الانقلاب المضاد الذي قام به السلطان.
في تلك الأثناء، كانت أوروبا تراقب أحداث 1908-1909 وبالأخص في ألمانيا، واحتفل القوميون الألمان بثورة تركيا الفتاة، واحتفوا بأنور باشا. عدّ القوميين الألمان ما حدث بأنه «حركة إحياء قومية»، لتجري المطابقة بين ما يجري على شواطئ البوسفور وما جرى في ألمانيا وإيطاليا في القرن التاسع عشر. بذا، أصبح طلعت باشا هو النظير التركي لبسمارك، فيما لقّب أنور باشا بـ«مولتكه التركي».
وحده أنور باشا أصبح رمز الإمبراطورية العثمانية المتجددة، حيث سيصبح اسمه إعلاناً لسجائر «أنور بك»، وسيسمّى جسرٌ في بوتسدام باسمه، فيما كتب اسم «أنفرلاند» (بلاد أنور) على عربات القطار المتجهة إلى الجبهة الشرقية خلال الحرب العالمية الثانية. كان ما يجري في ألمانيا هو عبارة عن حمّى تركية مردّها الافتتان الألماني بالأتراك. قبل عشر سنوات على انقلاب تركيا الفتاة، لعبت سكة حديد بغداد دوراً في تحقيق المصالح الاقتصادية وطموحات التحوّل لقوة عظمى، فيما مثّل إعلان الإمبراطور فيلهلم الثاني نفسه «حامياً لجميع المسلمين» أثناء زيارته للأمبراطورية العثمانية جزءاً من الدعاية الألمانية المبكّرة خلال الحرب العالمية الأولى حيث سيكنّى انخراط الأتراك في الحرب «الجهاد المصنّع في ألمانيا». إلى جوار ذلك، لعبت البعثات العسكرية الألمانية دوراً هاماً في التقارب، إذ برزت أسماء قادة كبار ألمان كمدرّبين للجيش العثماني: كولمار فون دير غولتز، وليمان فون ساندرز. واندمج الضباط الألمان في «كل ما هو تركي» خلال فترة عملهم، وحازوا على لقب الباشا مضافاً إلى أسمائهم.
يجادل إيريش في كتابه الذي يصفه بأنه «رحلة إلى الفضاء التأريخي» انطلاقاً من العام 1908، إذ حاول سدّ الفراغ المتمثّل بانعدام «المؤلّفات التي تتناول الكيفية التي نظرت بها ألمانيا إلى أتاتورك وتركيا الجديدة»، لا سيما المؤلّفات والكتابات النازية. فتركيا الأتاتوركية/الجديدة التي ظهرت كتوليفة «حيوان غامض تجمع الديكتاتورية الاستبدادية، والبلشفية، والديمقراطية الغربية، والتقاليد الثورية الفرنسية»، ظهرت خلال فترة الحربين العالميتين في الصحافة والمؤلفات الألمانية، بما في ذلك الخطاب القومي المتطرف.
يقدّم الكتاب، بحسب الكاتب، «وجهات نظر جديدة حول تاريخ ألمانيا والاشتراكية القومية» من خلال الاستعانة بالمصادر المهملة كالصحف، وقراءة آلاف المقالات، خاصة تلك المنشورة في أوائل القرن العشرين، أي من أوائل جمهورية فايمار التي ظهرت عقب هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية الرايخ الثالث.
دروس تركية لألمانيا
قبيل نهاية الحرب العالمية الأولى، كان الجيش العثماني في حالة من التخبط، حيث الهزائم والفرار من الجندية والافتقار للأسلحة الذخيرة. حينذاك رفعت الأقليات المسيحية أعلامها القومية، «وكانت هناك خطط لإقامة دولة أرمينيا المستقلة، ومنح اليونان أجزاء واسعة من غرب الأناضول، أو حتى تأسيس دولة يونانية ثانية، أو دولة بنطية – يونانية- أرمينية على شواطئ البحر الأسود»، وبدت الأحلام اليونانية أقرب للتحقق عندما احتل جيشها سميرنا (إزمير) ومناطقها الداخلية، بإيعاز من الحلفاء (بريطانيا وفرنسا) قبل إبرام معاهدة السلام بباريس واستسلام السلطان وحكومته. بيد أن كل شيء بدأ يتغيّر في مايو/أيار 1919، بحسب السردية التاريخية التركية، حين بدأ مصطفى كمال بإعادة تنظيم القوات العثمانية شرق الأناضول، حيث سيتمكّن القوميون الأتراك بعد صراع مرير من منتصف 1919 وحتى منتصف 1923 من ضمان وطنٍ لهم، تكرّس في معاهدة لوزان 1923 والتعديل على معاهدة سيفر 1920.
كان ما تحقّق أقرب لحلم قومي في نظر الألمان البائسين. الأمر الذي دفع الألمان للبحث عن مثال يمنحهم العزيمة. بذا، أصبح اسم مصطفى كمال على كل لسان. وبطبيعة الحال، «نشأ» النازيون مع تركيا. فطبقاً لشهادة قائد كتيبة العاصفة النازية إرنست روم عام 1922، فإن السياسة العالمية «رهن الكفاح التركي من أجل الاستقلال بقيادة كمال باشا»، فيما حوت الصحف تعليقات من قبل الكتاب النازيين والفولكشيين (نسبة للحركة الشعبية) على الأحداث الجارية.
في البداية، لم يكن هناك دعوات للتعلّم من الدرس التركي، إلّا أن وسائل الإعلام قالت إن هناك ما يمكن تعلّمه. فاستخدم عديد الصحف مصطلح «القدوة»، ونشرت صحيفة «فولشكر بيوباختر» مقالاً بعنوان «تركيا- القدوة». وجادلت الصحف بأن تركيا «قادت المسيرة» نظراً لأنها أعادت النظر في معاهدات باريس (سيفر ولوزان). ففي تلك الأوقات الخالية من الأمل والقادة، مثّلت تركيا الملاذ الوحيد الذي مكّن القارئ الألماني القومي من بلوغ الحالة الأمثل، وبهذا المعنى «كانت تركيا قصة نجاحٍ قومي تكاد لا تصدّق».
في عام 1919، عثرت صحافة البائسين واليائسين على «بطلها». وتم تقديم مصطفى كمال للقارئ الألماني بقلم تيا فون بوتكامر، إذ سبق لها الالتقاء به. واستعرضت تاريخ الرجل منذ «إنقاذ القسطنطنية (إسطنبول)» في معركة غاليبولي خلال الحرب العالمية الأولى. لتحذو صحف أخرى حذوها، إذ نشرت صحف مقالات عنه وتحدثت عن «حركة الاستقلال». وبيّنت الصحافة الألمانية لبقية العالم أنها «تعرف أتاتورك بشكل أفضل من غيرها». وأصبحت صحافة اليمين واليمين المتطرّف «مؤيّدة لمصطفى كمال أتاتورك ومتحدّثة رسمية باسمه»، أو بالأحرى «أصبحت الصحف الألمانية أقرب إلى وكالة علاقات عامة أوروبية كبيرة تعمل لصالح الكماليين»، لدرجة أن تعليقاً نُشر في صحيفة «دويتشه الغماين» قال إن بإمكان المرء أن يقرأ عن تركيا «يومياً ألف مرة» في الصحافة الألمانية.
كان البحث عن التشابه والتماثل بين أحوال تركيا وألمانيا سبباً لاستخدام المفردات والصور المشابهة، كاستخدام كلمة القيصر بدل السلطان، و«الكنيسة التركية» تعبيراً عن الإسلام. زادت إلى ذلك أهمية «الخبراء» في الشأن التركي كالماريشال الألماني في الجيش العثماني ليمان فون ساندرز، والمرتزق الألماني في القوات الكمالية هانز تروبست الذي كتب في الصحف النازية والذي سيتحوّل إلى شخصية رئيسية في مجال الكتابة عن تركيا الجديدة.
واحدة من المشكلات كانت محاولة تفسير التعاون بين الكماليين والبلاشفة، والتي خضعت للكثير من التحري، والخشية المتصلة بطبيعة هذه العلاقة، وهل يميل مصطفى كمال للاتحاد السوفياتي، والكلام تالياً عن «البلشفية القومية». إلّا الكتابات المتحمسة لمصطفى كمال سرعان ما عالجت المسألة بوصفها تكتيكاً أتاتوركياً، فوق أنه لا يمكن جمع القومية بشكلها الأتاتوركي بالبلشفية، إذ يستحيل أن يكون هناك «ثلج ساخن أو حديد خشبيّ» على ما قالته صحيفة نازية. ولتكتب الصحف منذ عام 1921 فصاعداً عن البراغماتية الكمالية «السليمة». ولعل هذا الالتباس حول علاقة مصطفى كمال بالبلشفية حصل نتيجة «غموض برنامج أتاتورك نفسه».
صُوّر «النضال ضد الحلفاء» بأنه صراع قومي، وليس كفاحاً ضد الإمبريالية، وهو ما عزز الافتتان بتركيا والهوس بها، فيما كان الأسلوب الذي اتبعته الصحافة مرهوناً بثلاث قناعات: أن الحلفاء إمبرياليون أشرار. وأن الأتراك سيتسببون بمتاعب للحلفاء وسينتصرون في نهاية المطاف. وأن تركيا كشفت ضعف الحلفاء. كان هذا الدرس هو أكثر ما احتاجته الأصوات القومية الألمانية والتي أكّدت عليه الصحف بإلحاح شديد، حيث غدت تركيا داود (المظلومين) في مواجهة جالوت (الحلفاء)، ونبِذ خطاب التحالف الذي وصف مصطفى كمال بـ«لص» أو «زعيم عصابة». قامت الصحف كذلك بإغداق المديح له والترويج لصورة «تركيا الخالدة». وجرى مديح السلاح التركي بشكل مستمر، حيث «أثبت الأتراك بسلاحهم أنهم لن يقبلوا أي سلام يشوبه العار».
تجاوزت حالة الافتتان شخصية مصطفى كمال والسلاح التركي إلى شكل إدارة المفاوضات إبان مناقشات بنود إتفاقية لوزان، إذ بدأ الاحتفاء بمدى «العناد الذي اتسم به الوفد التركي»، مكتشفين بطلاً جديداً هو عصمت إينونو رئيس الوفد التركي و«لاء أنقرة» أو «اللا التي هزّت العالم». وبطبيعة الحال، حملت هذه المسألة إسقاطاً آخر لتقريع النخبة السياسية الألمانية التي رضخت لشروط الحلفاء عند إبرام معاهدة فرساي التي قضت باستسلام ألمانيا على نحو مشين، والتمييز تالياً بين «السياسة الفاعلة والسياسة الخانعة في المقارنة بين تركيا وألمانيا». بذلك، كان الإصرار على «صمود الأتراك» ثيمة رئيسية في تلك الصحف حتى الصغرى منها. لذا، ستبرز استعارة رئيسية حول الاقتداء بالنموذج التركي كما في استعارة «نور من الشرق». وإمعاناً بالمديح، انفردت صحيفة «دويتشه الغماين» بالحديث عن «الجمهورية الأكثر فتوة»، ونفت الادعاء القائل بوجود «جمهوريات جديدة مثل الجمهورية الكردية».
داخل هذا الجوّ المشحون قومياً بدأت الدعوات لـ«أنقرةِ ألمانيا»، أي جعل ألمانيا شبيهة بتركيا الجديدة التي انبثقت عن أنقرة، والبحث تالياً عن «مصطفى ألمانياً»، إلّا أن أصواتاً قليلة كانت تدقق فيما يجري، كصوت ناشط السلام الألماني كارل فون أوسيتزكي. بيد أن هذه الأصوات لم تكن لتلبيّ حاجات الألماني البائس واليائس.
يمنح شتيفان إيريش قارئه ملخّصات في نهاية كل فصل. ففي هذا الفصل، كثّف الحديث عن «حرب الاستقلال» بوصفها حدثاً إعلامياً يمكن من خلالها دراسة «الثيمات المختلفة التي شغلت ألمانيا» عهدئذٍ، وأن بعض التفصيلات شكّلت لحالة من الوعي بالتماثل كما في الإبادة الجماعية للأرمن التي حلّ فيها الأرمن مكان اليهود وفق أسطورة «الطعن في الظهر» على ما كان يقال في شأن اليهود، فيما كان الافتتان المديد بتركيا لمدة أربع سنوات «حلماً قومياً تحريفياً تحقق»، ذلك إنه حلم تحقق بالسيف وبخوض المعارك. لكن الصحف، من خلال تحديد «الدروس التركية»، بنت «ألمانيا موازية» ونشرتها على أنها «الوسيلة الوحيدة لإنقاذ ألمانيا وتحريرها»، وأن «التعلّم من تركيا» هو السبيل الوحيد للخروج من البؤس والتشكيك بالسياسة الألمانية الراهنة وقتها. ولعل مقالة «مصطفى على نهر الراين» كانت قطعة صحافية واضحة تدعو، من بين مقالات أخرى، إلى تعلم الدروس التركية وانتهاج «الطريقة التركية» لمراجعة معاهدة فيرساي.
«أنقرة في ميونخ»
تحدّى اليمين جمهورية فايمار عبر انقلاب هتلر الفاشل الرامي إلى الاستيلاء على السلطة. الانقلاب المستوحى «من مصطفى كمال أتاتورك ومن الأحداث في الأناضول، أكثر بكثير من التأثر بنموذج [الزحف إلى روما] لموسوليني»، رغم أنه كان ينظر إلى موسوليني كقدوة مثالية للنازيين. كتب فرانز ويلينغ أن النازيين كانوا أكثر تأثراً بموسوليني، في حين أن اليمين المحافظ، بما في ذلك الجنرالات البارزين في الرايخسفير (القوات المسلحة الألمانية) تأثروا بمصطفى كمال. بالمثل، أقرّ آخرون بأن «كلاً من موسوليني وأتاتورك ساعدا في تهيئة المناخ للاضطرابات والأزمات التي أنبأت بتغيّرات محتملة في الأوساط القومية، بشكل عابرٍ مجدداً».
حضرت تركيا في الصحافة النازية، لاسيما «هايمات لاند» و«فولكشر بيوباختر». وإن كانت الأخيرة بدأت معادية للأتراك إذ استفظعت «مؤامرة اغتيال السلطان» في يوليو/تموز 1920 وبدت مؤيدة لليونان ووصفت مصطفى كمال بـ«البلشفي الجديد». وكان ذلك آخر تصوير سلبي حتى توقّفها عن الصدور في عام 1945. ففي اليوم الذي تم فيه شراء الصحيفة من قبل الحزب النازي، تم التحول بشكل كامل، فظهرت عناوين «تركيا الباسلة»، و«تركيا القدوة»، وبمضامين مؤيدة ومفتونة بالأتراك والدعوة لانتهاج «الأساليب التركية»، مع الدفاع عن الأتاتوركية بأنها لا يمكن أن تنزاح باتجاه البلشفية.
أما «هايمات لاند»، فكانت ثيمتها المفضلة والمكرّرة تصوير النخبة الحاكمة في جمهورية فايمار بأنهم «المذعنين المخصيين»، فيما تخلّصت تركيا من المخصيين. علاوة على التأكيد على فرادة وعظمة مصطفى كمال بوصفه «المخلّص». ذهبت مقالات أخرى إلى تكهّنات من قبيل «ضم جميع المناطق الناطقة بالتركية، والتي تشمل معظم آسيا الوسطى، تطبيقاً لأحلام أنور باشا». وقد يعكس هذا التكهّن مواظبة على الاهتمام بأنور باشا الذي تلاشى من حاضر تركيا، وقد يستبطن مثل هكذا تكهّن رغبة قومية في ضم المناطق الناطقة بالألمانية.
جاءت المقالات الأبرز مع سلسلة كتابات المرتزق تروبست الذي عمل مع الكماليين وركز على المطابقة بين أوضاع تركيا وألمانيا والحديث عن «نهضة قومية» والإعجاب بالقبضة الحديدية لمصطفى كمال وتعامله مع معارضيه ومحاكمه الخاصة. شدد تروبست على سياسة الحديد والنار التي مورست بحق المعارضة، بما فيها السلمية، «وسحقها في مهدها بلا رحمة». استفاض تروبست بكيل الإعجاب لسياسة التدمير، التي يجب أن تكون حاسمة وعلنية، والمسبوقة بالترهيب. ولم يفته الدعوة للتطهير العرقي الذي يجب أن يكون ملازماً لتشكيل «جبهة موحدة»، مستشهداً بمصاصي الدماء «اليونانيين والأرمن» الذين كان «لابد من استئصالهم وتحييدهم». كما رحب بسياسة التبادل السكاني بين تركيا واليونان وسياسات «الطرد الجماعي».
تبقى دعوة هتلر لتروبست قبل إنقلاب ميونخ إشارة إلى أنه قرأ مقالاته. وسجّل أحد المقرّبين من هتلر كيف أنه سمعه في إحدى سراديب البيرة في ميونخ «يتحدّث عن نموذجي مصطفى كمال وموسوليني»، فيما أشارت صحيفة إلى «خطيب ميونخ» (هتلر) الذي كان يمدح مصطفى كمال. وانتشرت مقالات من قبيل «أعطونا حكومة كتلك التي في أنقرة»، أو لا بد أن يكون «الحل تركياً مع استبدال ميونخ بأنقرة»، بحسب ما دعت إليه صحيفة «هايمات لاند» النازية، حيث تحوّلت كلمة «أنقرة» إلى كلمة أيقونية وطرحت فكرة نقل مركز الثقل من برلين إلى ميونخ.
قبل انقلاب هتلر بخمسة أيام، صدرت سلسلة مقالات متوجهة للألمان جاء في إحداها «كن كمال باشا ثانٍ، وقدنا إلى النصر، كن كمال باشا ثانٍ،وابنِ جرمانيا عظيمة موحّدة وأبية». قد تكون عبارة «كن كمال باشا ثانٍ» إحدى المحفّزات التي أثّرت في هتلر.
جذبت فكرة أنقرة- ميونخ القوميين، إذ حاججت أصوات باستحالة أن يأتي «العلاج إلا من جزء سليم نسبياً من ألمانيا، وكان هذا الجزء هو بافاريا (ميونخ)». وأكدوا كذلك بأنه «لم يسبق في تاريخ العالم أن نهضت أمة بعد غزوها انطلاقاً من عاصمتها المغزوّة»، في إشارة لاسطنبول وبرلين.
يسجّل شتيفان إيريش ملاحظة حول أنه «من اللافت للنظر أن تركيا بدت وكأنها هي المنظور الذي فهم من خلاله النموذج الإيطالي وليس العكس». وفي خطاب لهتلر، حدد الزعيم النازي أن هناك نوعان للانقلابات، الأول «تمرّد الجنرال التركي كمال باشا ضد سيادة القسطنطينية، والذي ذهب إلى حد أنه رفض السلطة المقدّسة لزعيم الديانة المحمدية»، وأن مصطفى كمال يسعى إلى «نيل الحرية لأمته». فيما تناول في النوع الثاني انقلاب موسوليني. يجادل إيريش بوجود تسلسل هرمي في تفكير هتلر يضع فيه مصطفى كمال قبل موسوليني، إذ جرى تبرير خيانة الأول بتمرّده على السلطنة بمجرد نجاحه في «تحرير البلاد».
لضعف ارتباطات النازية المبكّرة بالأتراك، أدى «الألمان العثمانيون»، مثل ليمان فون ساندرز، و«الألمان الأتراك»، مثل تروبست، دورهما على التفكير النازي، إلى جوار آخرين من الألمان العثمانيين الذين شاركوا في انقلاب ميونخ بجميع جوانبه كالجنرال فون لوسّو الذي خدم في الأمبراطورية العثمانية (1911-1918) وتورّط في الإبادة الجماعية للأرمن، إلى جانب هانز هومان الذي ولد في سميرنا وكان الوسيط الرئيسي بين أنور وطلعت باشا في السفارة الألمانية في اسطنبول. ترأس هومان صحيفة «دويتشه الغماين
» وركّز على الملف التركي بشكل مكثّف وكان من المناصرين لتطبيق «الأساليب التركية». وإلى جوار بقية الأسماء، كان أوتو فيلدمان ضابطاً في القيادة العثمانية ومشاركاً بفاعلية في الإبادة الجماعية للأرمن. ربما أراد إيريش من خلال سرد هويّات الألمان العثمانيين القول إن فكرة الإبادة الجماعية لليهود إنما وقعت في المختبر التركي عبر الإبادة الجماعية للأرمن وهو ما سيبيّنه في الفصل الذي يحمل عنوان «تركيا الجديدة».
من اللافت أيضاً أن للقائد المستقبلي لمعسكر أوشفيتز النازي، رودولف هوس، علاقته بالعثمانيين. وكذلك هاينريش هيملر الذي تخيّل نفسه متواجداً في تركيا الأتاتوركية. وفي إحدى مراسلاته مع صديق جامعي تركي، سأله الأخير هل بدأ بالفعل «تطبيق دروسه التركية».
ثمة بعد كماليّ إذاً لأحداث ميونخ عام 1923. أوحت تجربة تركيا بإمكانية نجاح الانقلاب في ميونخ. يفترض إيريش، طبقاً للبيانات التي أوردها، أن هتلر كان «يفكّر بشكل مكثّف في شخصية الفوهرر (القائد) لدى مصطفى كمال أتاتورك لمدة عامين إلى ثلاثة أعوام قبل أن تبدأ الصحف الألمانية في تقديم التقارير عن الفاشيين الإيطاليين وموسوليني» في أعقاب الزحف على روما عام 1922. وعليه، فإن كمال باشا كان له «تأثير أساسي في تطوّر أفكار هتلر حول الفوهرر الحديث، وحول نفسه بوصفه زعيماً سياسياً». ومن اللافت أن موسوليني نفسه بدا معجباً بمصطفى كمال في مقاله «زحف كمال باشا إلى إزمير». فوق أن موسوليني كان يحبذ إطلاق لقب «مصطفى كمال الأنقرةِ الميلانيّة» على نفسه، في إشارة إلى «أنقرة أتاتورك» وميلانو الإيطالية مهد الفاشية. والحال، أن مصطفى كمال شكّل نموذجاً ملهماً للتحريفيين والقوميين والاشتراكيين الوطنيين الألمان، وبالمثل للفاشيين الطليان.
ولئن كان هتلر قارئاً نهماً للصحف، فإنه من «غير الممكن التغاضي عن [تركيا] بوصفها موضوعاً مطروحاً» في الصحافة. لذا «نشأ النازيون مع تركيا»، فكانت حاضرة باستمرار. وبالتالي، فإن النازيين لن ينسوا هذا الجزء من مراهقتهم، على ما تقوله بقيه فصول الكتاب.
نجمة هتلر: «نجمة وسط الظلام»
بهذا الاقتباس: «نجمة وسط الظلام»، الذي وصف به هتلر، مصطفى كمال، يبدأ الفصل الثالث. وفيه، يستعرض شتيفان إيريش العبارة التي ستكرر كثيراً في الإعلام النازي.
خلال «ليلة السكاكين الطويلة»، سيجري قتل إرنست روم أحد قادة النازية البارزين (قائد كتائب العاصفة-SA) في إطار عملية تطهير داخل الحزب النازي. روم كان التقى في صيف 1933 بموسوليني ومصطفى كمال، فأعجب الأخير بروم، حتى أن ثمة وثيقة تشير إلى أن مصطفى كمال رأى أن «هتلر لم يكن بحاجة للتخلّص من روم في عام 1934»، مع أن مصطفى كمال نفسه أعدم العديد من رفاقه السابقين. على الرغم أيضاً من أن ما جعل تركيا قدوة لألمانيا إنما كان هو شكل تعاملها «القاسي والسريع» مع المعارضين.
لطالما أعجب هتلر بأنور باشا، بل إن ألمانيا بحسب قوله «لم تكن تملك أحداً مثل أنور باشا»، إلى جانب إعجابه بـ«المقاومة الفاعلة» لمصطفى كمال. ففي تجمّع بمدينة نورنبرغ في ديسمبر/كانون الأول 1928، تناول هتلر هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى وقارنها بتركيا، مذكّراً بمعاهدة لوزان التي أدت إلى «قيام الأمبراطورية التركية من جديد، وإلى تحول العالم للحديث بأكبر قدر من الاحترام عن هذه الدولة التركية، كما تمكّن (أتاتورك) من تذكير شعبه بتاريخهم العظيم الذي قادهم إلى الأمام»، عازياً هزيمة الألمان لـ«الانهيار الأخلاقي»، ومحذّراً من أنهم «يمكن أن ينحدروا إلى المستوى الذي انتهى إليه الأرمن».
وعلاوة على التأكيد على «المصير المشترك» للألمان والأتراك، حازت مسألة الارتباط الوثيق بين شخصيتي مصطفى كمال وهتلر على اهتمام الصحف الفولكشيه. وكتبت صحيفة «كرويتس» في أحد أعدادها عام 1933 أن «الاشتراكية القومية الألمانية لأدولف هتلر، والكمالية التركية مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً». وبرزت في العام نفسه، حينما استولت النازية على السلطة، العديد من المصطلحات التي تحدّثت عن قرابة إيديولوجية بين الكمالية والنازية. وكتبت صحيفة «فرايبورغر»، شأن غيرها من صحف اليمين، بأن «تشابه الأحداث يذكّرنا بأن مخلّص ألمانيا، أدولف هتلر، بدوره لم يطلق حركته من برلين بل من ميونخ، كما اتخذ خطواته الثورية الأولى من ميونخ». ولعل التأكيد على التطابق بين حالتي أنقرة وميونخ يوضح أهمية فكرة التماثل والتوءمة التي عمّت كتابات الصحف النازية والفولكشيه.
في يوليو/تموز 1933، أجرى رئيس تحرير صحيفة «ملييت» التركية مقابلة مع هتلر. وفيها، يصف الزعيم النازي مصطفى كمال بأنه «أعظم رجل في القرن»، موضحاً أن «الكفاح الناجح الساعي للتحرير الذي قاده الغازي [أتاتورك] في سبيل بناء تركيا، منحه [هتلر] الثقة بأن الحركة الاشتراكية القومية سوف تنجح بالمثل». وفي هذا الصدد، كانت حركة تركيا بمثابة «نجمٍ ساطع بالنسبه له». جرى التأكيد لاحقاً على ما قاله هتلر عن مصطفى كمال بأنه «نجمة وسط الظلام». وسوف يعاد ذكره على هذا النحو مراراً وتكراراً، خاصة عند وفاة مصطفى كمال في 1938، وعند توقيع معاهدة الصداقة التركية الألمانية عام 1941.
كان هتلر لا يدّخر مناسبة ليرسل رسائل تهنئة ودّية لمصطفى كمال، فيما كانت «فولكشر بيوباختر» تعيد نشرها بانتظام. وعند لقائه السفير التركي خسروف غرده، أخبره هتلر بأنه «كان يقلّد أتاتورك». فمثلما نقض اتفاقية سيفر، فهو (هتلر) الآن يدمّر معاهدة فرساي. وفي عيد ميلاد مصطفى كمال، ذكّر هتلر في اجتماع ضمّه إلى وفد من السياسيين والصحافيين الأتراك بالدور «الأساسي والأصيل» الذي لعبه مصطفى كمال بالنسبة له. وقال هتلر للضيوف «كان أتاتورك أول من بيّن أنه من الممكن تعبئة وتجديد الموارد التي فقدها بلد ما، وفي هذا الخصوص، كان أتاتورك معلّماً، وكان موسوليني أوّل تلاميذه، وأنا تلميذه الثاني». ومن بين الأمثلة عن إعجاب هتلر ما جاء في خطابه أمام الرايخستاغ في مايو/أيار 1941 بمناسبة حملته في البلقان، حيث انتقل هتلر دون أي رابط منطقي ضمن خطابه للتذكير بتركيا وأن «المؤسس العبقري العظيم لتركيا الجديدة هو أول من قدم نموذجاً مذهلاً للانتفاضة ضد الحلفاء، ومن ثم تخلى عنه الحظ وابتلاه القدر بشكل فظيع».
التأكيد على صيغة «نور من الشرق» التي وردت في الصحف الألمانية قبل وصول النازية للسلطة بنحو عقد ووصف مصطفى كمال بأنه «نجمة وسط الظلام» كانت الثيمة التي ستكرر إذاً. فأثناء توقيع اتفاقية الصداقة بين البلدين، أُعيدت صياغة استعارة النور، فتحدث المقال الرئيسي لـ«فولكشر بيوباختر» عن أن «الكفاح الكمالي من أجل تقرير المصير ونيل الشرف هو النور المتوهّج» الذي منح الألمان الثقة بساعة التحرير.
اتخذ الافتتان بتركيا طابعاً مشهدياً كذلك. فبمناسبة مرور عشر سنوات على تأسيس الجمهورية التركية، نظّمت «كتيبة العاصفة» النازية احتفالاً أمام السفارة الألمانية، وبحضور السفير التركي الذي ارتدى زيّه العسكري، وعُزفت أغنية «هورست فيسل» وهو النشيد النازي الذي عُزف قبل النشيد الألماني ساعتها. فضلاً عن منح السفير التركي حمدي أرباغ حضوراً مميزاً في حفلة بدار الأوبرا قدّمها أساتذة غناء نورنبرغ لريتشارد فاغنر الذي طالما أُعجب به هتلر. رمزية البروتوكول الدبلوماسي في جلوس أرباغ في المنصة المقابلة لهتلر أعطت الانطباع بأن تركيا الجديدة «كانت جزءاً من العالم الإيديولوجي» للرايخ الثالث.
في ختام هذا الفصل، يكثّف شتيفان إيريش ما استعرضه بالوثائق والكتابات الصحافية والخُطب الرسمية. وعليه، فإن مصطفى كمال وتركيا الجديدة كانا «بمثابة نقاط مرجعية ثابتة للنازيين باعتبارها جزءاً من سيرتهم الذاتية»، وأنهما قدمتما «أفضل الممارسات» المتنوعة للنازيين. لقد كانت تركيا بهذا المعنى «أول من أسس دولة فولكشيه حديثة فعلياً، وأول من طبّق فكرة الفوهرر في ظروف معاصرة». إن ما جادل في كتابته إيريش خلال الفصول السابقة يعكس «الإعجاب الأيديولوجي الحقيقي بأتاتورك وتركيا الجديدة». ولعل إشارة صحيفة «فيينا تسايتونغ» إلى مصطفى كمال بأنه «قدوة باقية» يشي بالأثر الملحوظ لتركيا الأتاتوركية في المخيّلة النازية والقومية المتطرفة الألمانية.
«الفوهرر التركي»
في هذا الفصل الذي يحمل عنواناً فرعياً باسم «الهاغيوغرافيا النازية والتربية القومية»، يجادل مؤلّف الدراسة حول صياغات السيرة التقديسية (الهاغيوغرافيّة) لمصطفى كمال في العالم النازي، إذ لم يُعتبر أتاتورك وتركيا الجديدة زمن الرايخ الثالث مجرّد «واحد منّا»، بل اعتُبر «القيصر التركي» والشخصية «البركانية». كانت المعجزة التركية وفق التصوّر النازي مكونة من جزأين: حرب الاستقلال، والصعود المستمر لتركيا الجديدة المعاصرة الفولكشية. وساهمت آلاف المقال وعشرات الكتب، بما فيها الكتب المدرسية، بإحكام قبضتها على الخيال الألماني، ووظفت قصة مصطفى كمال في ألمانيا لإثبات أن الأفراد هم من صنعوا التاريخ لا الجماهير. ففي فترة الحربين العالميتين، نشر ما لا يقل عن أربع سير ذاتية لمصطفى كمال في ألمانيا، إحداها انتجت بواسطة هربرت ملزيغ الموظّف في وزارة الدعاية التي يرأسها غوبلز.
في عالم الكتابة زمن الرايخ الثالث، غلبت تسميات حاولت إضفاء صورة قدسية على مصطفى كمال متوافقة مع النظرة النازية لنفسها، إذ سيغدو مصطفى كمال «الفوهرر التركي» و«الفوهرر العظيم» و«الفوهرر الخالد»، وأنه «أعظم شخصيات الفوهرر في سنوات ما بعد الحرب»، فاستخدمت اللغة ذاتها في وصف مصطفى كمال وهتلر، فيما اللافت أن الأدبيات التركية كانت تمجّد مصطفى كمال بالطريقة ذاتها، إذ يعدد شكري هاني أوغلو في دراسته عن مصطفى كمال صفات: عبقري، عظيم، مخلّص، منقذ، خلّاق، وهي ذات المفردات التي استخدمها النازيون سواء لوصف مصطفى كمال أم هتلر. خلال الكتابات الأشد تطرفاً، سيستعرض إيريش بعض تلك الرؤى النازية عبر الاقتباسات التي رفعت مصطفى كمال لمستوى الإله الذي «يمشي بين الرجال الفانين» ومقارنته بيسوع المسيح، فيما هو «محاط بقتلة مأجورين وجواسيس وخونة رغبوا في كسب أجر يهوذا».
أبعد من ذلك، جاء في سيرة مصطفى كمال الألمانية بأنه يشعر بروح «الذئب الرمادي»، وبروح «التوركوندم» الخالدة (الهوية التركية الخالدة)، وأن دماءه المختلفة تجعله يشعر بـ«الأعراق الأدنى» (الإغريق والأرمن والشوام) الذين يسيطرون على الإمبراطورية العثمانية. وكان التركيز على «السمات الآرية النقية»، كعينيه الزرقاوين وشعره الأشقر «سبباً منطقياً يدعم زعم جميع الكتاب بأنه لا بد أن يكون آرياً حقاً، وهو نفس زعم هتلر على ما يبدو».
بلغت الرغبة في إيجاد أبعاد أخرى للتماثل بين الرجلين إلى القول بأنهما كانا عسكريين جاءا من مناطق طرفية ويتحدران من خلفية مشابهة. والحال أن قصة مصطفى كمال أدت وظيفتها باعتبارها «نسخة مخصصة للمجتمع الجماهيري»، فكانت رسائل مخصصة للأمة الألمانية فيما خص الطاعة الكاملة والمعاملة القاسية للمعارضة وخوض الحرب القومية الشاملة.
تركيا الجديدة
يتسعرض مؤلّف الدراسة في هذا الفصل الرؤى النازية لدولةٍ فولكشية حديثة، وستبرز في هذا الفصل مسألة الإبادة القومية للأرمن ودور «الكنيسة التركية» أي الدين الإسلامي في الجمهورية الجديدة، وكذلك سياسة «الآوفباو» (التشييد وإعادة البناء). كانت تصوّرات النازية عن تركيا بعيدة للغاية عن «الموضوعية»، ذلك أنها رأت في تركيا ما كانت «ترغب في رؤيته»، وهذا يفسّر أن الصورة التي كوّنتها ألمانيا النازية كانت ثابتة، والأوصاف لا تتبدّل. ومن بين تلك العناصر التي رسمت صورة تركيا الجديدة تلك المرتبطة بتدمير تركيا القديمة بما يتضمّنه من تطهير عرقيّ والقضاء على السلطة الدينية على المجتمع.
في بداية عهد الرايخ الثالث، كانت قضايا الأقليات في الدولة العثمانية حلّت إلى حدّ كبير، إذ لقى معظم أرمن الأناضول حتفهم جراء الإبادة العرقية بحقهم، أو نتيجة لكونهم غادروا البلاد، فيما غادر اليونانيون في أعقاب تراجع الجيش اليوناني وما جرى من تبادل ما تبقّى منهم مع الأتراك بموجب معاهدة لوزان. وتجاوزت الرواية النازية الكرد وهم «أقلية أخرى، كبيرة نسبياً في شرق الأناضول». ويعود سبب تجاهل الكتّاب النازيين لهذه «الجماعة المزعجة» لأن تسليط الضوء عليها سوف «يحطّم الصورة المتجانسة عرقياً لقصة النجاح الفولكشي» التركية.
يرى شتيفان إيريش أن تأثير الإبادة الجماعية على النازيين يتجاوز نطاق هذا الكتاب وهو بحاجة لمعالجة منفصلة. بيد أن ذلك لم يمنع إيريش من التصدي لتأثيرات النهج الإباديّ، إذ ينقل تعجّب هتلر المزعوم «من ذا الذي يتحدّث اليوم عن إبادة الأرمن بعد كل هذا؟!»، وثمة مقولة أخرى له تشير إلى «اجتثاث الأرمن». لا شكّ أن النازيون تأثروا بالإبادة الجماعية للأرمن، إذ نشأوا مع تركيا، أي أنهم نشأوا أيضاً مع الإبادة الأرمنية. ففي سنوات الحرب العالمية الأولى، زعم الحلفاء أن ألمانيا لم تكن على علم بالإبادة فحسب، بل كانت المحرّض الرئيسي عليها.
قلّلت الصحف اليمينية من وقع ما كانت تبثّه الصحف اليسارية عن «إبادة» أو «إهلاك شعب»، مقدّمة مبررات لهذه «الإجراءات التأديبية»، وأن الأرمن «طعنوا الأتراك في ظهورهم» خلال الحرب، وأنهم شعب «ماكر وطفيليّ وجائر وتافه للغاية». جاءت تلك النقاشات الألمانية عقب مقتل طلعت باشا المسؤول عن الإبادة الأرمنية في برلين على يد سوغومون تهليريان. وأعيدت تلك النقاشات عام 1922 عقب اغتيال شخصين آخرين من حركة تركيا الفتاة ببرلين على يد الأرمن واستمرت حتى معاهدة لوزان عام 1923.
قدّمت المعاداة الألمانية الأرمن على أنهم «يهود الشرق». ومن نافل القول هنا التذكير بإعجاب هتلر بمجموعة روايات كارل ماي «المجموعة الشرقية» والتي كانت يزدري فيها ماي الأرمن أخلاقياً. كان اعتبار الأرمن مجرّد «طفيليات» و«وبال» أمراً اعتيادياً في الصحافة المطبوعة حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية، وعزّز التشابه المتصوّر بين يهود أوروبا الوسطى والأرمن العثمانيين اهتمام اليمين المتطرف والنازيين بالإبادة الجماعية للأرمن، فكتب تروبست بأن «ما حدث للأرمن قد يحدث فعلياً لليهود في ألمانيا مستقبلاً» متحدثاً عن اللجوء إلى «الأساليب التركية». وكان هتلر يستخدم الأرمن في خطاباته كمثال على «العرق الأدنى» ويماثل دورهم بدور اليهود في ألمانيا. كذلك رسم في إحدى مقالاته صورة للأمة الألمانية وهي تغرق لمستوى «أمة من العبيد»، واستخدم الأرمن كوحدة قياس على العبودية، وأنهم على قدم المساواة مع اليهود. وبالتالي، فإن أحد مقومات نجاح مصطفى كمال، بحسب ما ذكر في النصوص النازية، هو «إهلاك الأرمن لأنهم جسم غريب غير قابل للاندماج». كتب أحد كتّاب سيرة مصطفى كمال الذاتية، فريتز روسلر، فصلاً بعنوان «تصفية أرمينيا المزعجة»، وأن ما حصل للأرمن لم يكن اضطهاداً للمسيحيين إنما «تحييداً للأجسام الغريبة المهددة للحياة».
إلى جوار الإبادة الأرمنية، ركّزت النصوص النازية على ما كانت تسميه «الكنيسة التركية»، حيث الإسلام هو المعيق الكبير بوصفه «اختراع عربي». ولئن وصف الأرمن بالطفيليات، فإن رجال الدين أيضاً وصفوا بـ«الطفيليات» أيضاً. فأصبحت تركيا «دولة قومية حقاً من خلال نزع ثوبها الإسلامي». إلا أن يوهان فون ليرس قال خلال كتابته سيرة حياة هتلر عام 1932 إن «هتلر لم يكن متطرفاً مثل مصطفى كمال» فيما خص الدين، لكن الوقائع تشير إلى إعجاب هتلر بعزيمة مصطفى كمال في معركته ضد «الكنيسة»، إذ أيّد هتلر في أحاديثه ما قام به مصطفى كمال: «السرعة التي تعامل بها كمال أتاتورك مع كهنته هي واحدة من فصول التاريخ روعةً! ذات مرّة أعدم 39 منهم ببساطة. لقد قضى عليهم تماماً».
ولطالما نُظر إلى «الآفباو» (إعادة البناء والتشييد) التركي بنظرة افتتان نظراً للحيوية وقوة النهضة الفولكشية التي حملتها، لاسيما الإصلاحات اللغوية والدور الجديد للمرأة، والتي حازت على اهتمام الخطاب النازي حول تركيا. عكست التغطية الإعلامية والصور التي جاءت من تركيا الجديدة ما كان تسعى إليه النازية. فـ«الآوفباو» التركي كان انعكاساً لرؤية النازية لحداثتها ولـ«الآوفباو» خاصتها.
يركز مؤلف الدراسة على موضوعي المضائق ومستقبل لواء الاسكندرون. فكلا الموضوعين احتلا الصدارة في تغطية الصحافة الألمانية من عام 1935 وحتى عام 1939. وكانت الغاية من ذلك نشر الأهداف التحريفية للنازية في شكل سعى إلى المطابقة بين أهداف الأمة التركية في استعادة أراضيها وبين أهداف النازية حيث المسعى لضم إقليمي السوديت وميملاند وضم فيينا ومدينة غدانسك (مضيق دانتزيغ) وعسكرة راينلاند. لكن الاتفاق بين فرنسا وتركيا فيما خص لواء الإسكندرون وجد ما يبرره في الصحافة النازية التي ادعت أن هذا التقارب إنما يدمّر «إرث أتاتورك من خلال الدخول في حلف ضد ألمانيا»، وادعت صحيفة النازيين «فولكشر بيوباختر» بأنها «تفهم الكمالية وإرث أتاتورك أفضل من أولئك الذين استلموا السلطة في تركيا منذ وفاة أتاتورك». وعليه، كان موضوعا تركيا (المضائق والسنجق) «جزءان لا يتجزأن من التطبيل الدعائي المصاحب لإعادة عسكرة راينلاند، وضم النمسا»، وهو ما سار عليه هتلر فيما يخص سياسة «آنشلوس».
الحرب العالمية الثانية وتركيا
في هذا الفصل، ينطلق شتيفان إيريش من سؤال «أهي إسبانيا أخرى؟» كعنوانٍ فرعي، ذلك أن الحرب العالمية الثانية عقّدت العلاقات التركية- الألمانية. فتغيرت العلاقات مع تبوّء عصمت إينونو منصب رئاسة تركيا نهاية عام 1938، إذ وقّعت تركيا المعاهدة الأنغلو- تركية عام 1939. في المقابل، وقّعت أنقرة معاهدة صداقة مع ألمانيا عام 1941 ستصفها «فولكشر بيوباختر» بـ«الرفاقية المتجددة» والكفاح المشترك زمن الحرب العالمية الأولى، فيما كانت تركيا سعيدة بالانتصارات الألمانية على الجيش الأحمر الذي سيمنح الأتراك فرصة التمدد شرقاً في الأراضي الواقعة في ما يعرف بالجمهوريات التركية السوفياتية وشبه جزيرة القرم.
في المنحى الاقتصادي، كانت تركيا أكثر تشبيكاً مع ألمانيا طيلة فترة الثلاثينيات. بحلول عام 1936، كان الرايخ الثالث وجهة لـ51% من الصادرات التركية. وبدورها، كانت تركيا وجهة 50% من الصادرات الألمانية. كما منحت ألمانيا قروضاً سخية لتركيا بأوامر من هتلر وتجاوزه لنصائح مستشاريه، فضلاً عن شرائه المنتجات الزراعية التركية بمبالغ مُبالغ في ثمنها.
حصلت مغازلة قصيرة الأمد بين النازيين وتركيا الجديدة وبين الطورانية بين أعوام 1941 و1943/1944، في ظل رؤية الطورانيين في اتحاد يجمع الشعوب التركية في بحر إيجه إلى شمال غرب الصين تحت قيادة تركية، وهي الرؤية التي حفّزت أنور باشا ذات مرّة، مؤدية إلى حصول كارثة ساريقاميش. ولئن كانت الطورانية قُمعت زمن مصطفى كمال، إلّا أن أنها افتتحت نواديها الجديدة في زمن خليفته إينونو، وبمبادرة حكومية. لكن سرعان ما بهت ربيع الطورانية بمجرد أن لاح شبح هزيمة ألمانيا أمام الاتحاد السوفياتي، إذ تخلّت تركيا عن الطورانية، وبعد أن أُجبرت تركيا بضغط من الحلفاء بوقف تصدير منتجاتها لألمانيا. والحال أن المغازلة التركية- الألمانية للطورانية لم تكن سوى شبكة أمان لتركيا في حال فوز ألمانيا.
قبيل هزيمة ألمانيا المبرمة، وجد شتيفان إيريش تقاطعاً أخيراً بين ما قاله هتلر: «إذا خسر الألمان الحرب، فإنهم يستحقون الهلاك» وبين ما نسبته المطبوعات النازية لمصطفى كمال: «من الأفضل لشعب عظيم أن يموت، على أن يحيا حياةً فارغة بلا كرامة».
ثمة جانب يشبه عالم الروايات في نهاية هذا الفصل يعكس تهاوي التطلّعات التركية وتصادمها على نحو إكزوتيكي؛ فعلى بعد شوارع من ملجأ هتلر الأخير، كان جنودٌ ذو أصل تركي من الاتحاد السوفياتي يقاتلون ويموتون على جانبي معركة برلين. كان التتار والتركمان والأوزبكيون والكازاخستانيون والآذريون في الجيش الأحمر المنتصر يقاتلون في كل شارع من شوارع العاصمة ضد التتار والتركمان والأوزبكيين والكازاخستانيين والآذريين في صفوف الوحدات التركية المنضوين في قوات الأمن الخاصة على الجانب الألماني، أي أولئك الذين تم تجنيدهم من خلال الرؤية الطورانية التي مثّلها نوري باشا، شقيق أنور باشا، حين جلبهم معه إلى برلين عام 1941.
الخاتمة: إلى حجرٍ في البداية ومن ثمَّ إلى تراب
في المحصلة النهائية، يركز إيريش على الحصيلة القائلة بتصاعد أدوار مصطفى كمال و«الحمى التركية» التي عصفت بألمانيا، وكيف كان «المعلّم العظيم» لتلميذه الأول موسوليني والتلميذ الثاني هتلر.
قدّمت «قصة النجاح التركية» أمثلة عن أفضل الممارسات الفولكشية فيما يتعلّق بمعاملة الأقليات، خاصة تلك المتعلّقة بالإبادة الجماعية للأرمن، إذ نشأ النازيون مع تركيا الجديدة ومع الإبادة الأرمنية ولم يهملوا تلك التفاصيل. وبذلك، كانت حداثة تركيا جزءاً من رؤية النازيين الخاصة للحداثة والتحوّل السريع والثوري في مختلف مناحي الحياة: البنية التحتية والتنمية الاقتصادية وتشييد المباني والمدن والمصانع الحديثة والأدوار الجديدة للدعاية والرياضة والشباب.
يبيّن الكتاب، الذي يعجّ بالتفاصيل والوثائق والأسماء، بأن ما تمّ استيراده من سياقات خارجية كان لأجل التوظيف في السياقات المحلية. فظلّت النظرة الإيجابية لتركيا سائدة طيلة أربعين عاماً، خاصة صورة مصطفى كمال في المخيّلة النازية. يختم إيريش كتابه بهذه السطور التي تتكثف بالسؤال عن المستقبل، إذ أن الصورة التي بدأت متخيّلة ومؤلّفة لم تكن حقيقية، «إذ لا يوجد [تركيّ خالد]، في قرارة النفس الألمانية أو في التاريخ الألماني، وغالباً ما تغيّرت صورة التركي على مرّ القرون- وحدث ذلك بشكل هائل في القرن العشرين- وسوف تتغيّر مرة أخرى».