إقليم كردستان تحت مطرقة المحكمة الاتحادية العليا

شورش درويش

أعادت قرارات المحكمة الاتحادية العليا (العراقية) الأخيرة فيما خص الانتخابات البرلمانية في إقليم كردستان وتخفيض عدد مقاعد البرلمان، وتقسيم الدوائر الانتخابية، والقرارات الخاصة برواتب الموظفين، جدلاً يضاف للجدل السابق حول حدود وصلاحيات المحكمة، ففيما أفضت القرارات السابقة للمحكمة إلى تقويض الاستقلال السياسي والنفطي/المالي للإقليم، فإن قراراتها اللاحقة بدأت تأخذ طابعاً لا يخلو من أبعاد سياسية وفق ما يشير إليه مراقبون كرد.
برز اسم المحكمة الاتحادية العليا ودورها كجهة تحكيمية عام 2010 حين رجّحت كفّة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي على منافسه أياد علّاوي، فالأخير حازت كتلته الانتخابية على أعلى الأصوات في السباق البرلمانيّ فيما منحت المحكمة للمالكي الحق في أن يكون تحالفه اللاحق على الانتخابات سبباً في تولّيه رئاسة الوزراة، كان هذا الانزياح في التفسير القانوني بداية اتهام المحكمة التي أسسها التحالف الدولي عقب سقوط نظام صدام حسين عام 2003 ، ومقدّمة للتشكيك في استقلاليتها، والكلام تالياً عن خروجها عن مقاصد تشكيلها الأولى بوصفها جهة قضائية عليا تكمن مهمتها في التحكيم في دستورية القوانين، وفض النزاعات القانونية بين المركز والمحافظات، وبغداد وإقليم كردستان، والمصادقة على نتائج الانتخابات البرلمانية.
تجابه المحكمة الاتحادية سلسلة من الانتقادات لعلّ أهمها أنها لم تخضع لقانون يحدد صلاحياتها وطبيعة عملها وفق ما أقرّته المادة 92 من دستور عام 2005، وبالتالي فإن أعمالها ما تزال قائمة بموجب القانون رقم 30 لذات العام، فوق أن الشبهة الطائفية ما تزال تحوم حول طبيعة تشكيل المحكمة وخضوعها للتوازنات السياسية، على ما يقوله المعترضون على بعض قرارات المحكمة، كما أن ولاية المحكمة في المسائل الخاصة بإقليم كردستان بات يخضع لانتقادات كردية تصفها بالانحياز لبغداد وتخطي الصلاحيات الدستورية الممنوحة للإقليم الكرديّ.

الاتحادية و “استفتاء الاستقلال”

لعل أكبر مواجهة بين بغداد وأربيل حصلت عقب الإعلان عن نتائج الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان في 25 سبتمبر/أيلول عام 2017، فمع التوترات بين بغداد وأربيل وما نجم عنها من سلسلة من المجابهات المسلحة بين البيشمركة والحشد الشعبي والجيش العراقي، ومن تدخلات إيران وتركيا الصارمة لصالح حكومة حيدر العبادي، جاء دور المحكمة التي أصدرت في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2017 حكمها “النهائي والبات” بـعدم دستورية الاستفتاء الذي أجراه إقليم كردستان العراق و”ببطلان نتيجة التصويت”، الأمر الذي فتح الباب أمام الأدوار التحكيمية للمحكمة الاتحادية مجدداً ومدى تعارض الصلاحيات الدستورية الممنوحة للإقليم مع الدستور العراقي، لتبدأ معركة نزع الصلاحيات ابتداءً من إعادة بسط سيطرة بغداد على الموانئ الجوية والمعابر الحدودية وليس انتهاءً بقضايا تخص الانتخابات الداخلية في الإقليم على ما يحدث في هذه الغضون.
مع قرار الاتحادية آنذاك بدأت مرحلة “حرب الورق”، أو مرحلة التدخّل القانونيّ، بين بغداد المستندة إلى محكمة ذات قرارات ملزمة، وبين الإقليم الذي بدأت تتقاسمه الخلافات السياسيّة والتدخّلات الإقليمية الحادّة، فيما لم ينجح الإقليم في صون وحدته السياسيّة/البرلمانية في بغداد نفسها.

تقويض “الاستقلال النفطي”

أدخل “الاستقلال النفطي” للإقليم إلى حلبة المنافسة السياسية بين بغداد وأربيل، ففي شباط/فبراير 2022 أصدرت المحكمة الاتحادية العليا قرارها الملزم بتسليم حكومة الإقليم كامل إنتاج النفط من الحقول النفطية في إقليم كردستان، وإلزام حكومة الإقليم بتمكين وزارة النفط العراقية وديوان الرقابة المالية الاتحادية بمراجعة كافة العقود النفطية المبرمة معها بخصوص تصدير النفط والغاز وبيعه. ورغم مبررات حكومة الإقليم الدستورية وقراءتها المغايرة لقرار المحكمة ورفض قضاء الإقليم للقرار، والإضرار تالياً بالتسوية التي قامت على أساس تعهد الإقليم بتسليم 250 ألف برميل من إنتاجه اليومي الذي يتجاوز 400 ألف برميل للحكومة المركزية عبر وزارة النفط، في مقابل حصتها في الميزانية الاتحادية التي ستستخدم لدفع رواتب الموظّفين ومقاتلي البيشمركة.
انزاحت تركيا في مفارقة عجيبة لصالح بغداد التي انتقدتها لجهة قبولها بتكرير النفط الخام القادم من كردستان، وأوقفت تدفق 450 ألف برميل يومياً من كردستان العراق عبر خط الأنابيب الذي يربط بين الدولتين في مارس/آذار عام 2023، بعدما أصدرت غرفة التجارة الدولية حكما ضد أنقرة في قضية تحكيم.
خفّضت قرارات المحكمة المعطوفة على موقف حكومة بغداد من قدرات الإقليم المالية، وقوّضت بالتالي الاستقلال المالي والنفطي للإقليم، فيما شكّلت الخلافات السياسية العاصفة في الإقليم الطريق الملكي لنفاذ بغداد لداخل قضايا الإقليم والتي ستتجاوز النفط ومسألة الاستفتاء، إلى حيث الطعن بشرعية سلطة الإقليم التشريعية، وإلى تصاعد المطالبات الداخلية في الإقليم نفسه لحل مشكلة توزيع الرواتب لاسيما في السليمانية، والتقليل تالياً من صلاحيات أربيل، الأمر الذي يكشف عن عمق أزمة محلّية باتت فيها الاتحادية جهة تحكيم من خارج الإقليم.

الاتحادية توسّع من صلاحياتها داخل الإقليم

عاودت المحكمة الاتحادية العليا تعقّب الأوضاع الداخلية في الإقليم، فأصدرت في مايو/أيار 2023 قراراً يقضي بعدم دستورية تمديد عمل برلمان كردستان لعام إضافي، بعد أن جدّد لنفسه في العام 2022، معتبرةً أن كل القرارات الصادرة عنه بعد تلك المدة “باطلة”، وهو الأمر الذي دفع رئيس الإقليم، نجرفان بارزاني، للتحذير من أن “شرعية الإقليم باتت على المحك” مشيراً إلى وجوب الذهاب للانتخابات في أقرب وقت، الأمر الذي عنى موافقة بارزاني على منطوق الحكم والاعتقاد بصوابيته، بيد أن الحراك السياسي/الحزبي الكردستاني الداخلي لم ينجح في الإجابة عن سؤال الشرعية التي باتت موضع تدقيق ومساءلة عراقيين.
بيد أن قرار الاتحادية الأخير الصادر في شباط/فبراير الماضي، والقاضي بإدخال تعديلات على القانون الانتخابي في الإقليم، خاصة قرارها القاضي بتخفيض عدد مقاعد برلمان الإقليم من 111 إلى 100، تسبب في موجة انتقادات لمختلف الأحزاب الكردستانية، لاسيما الأحزاب التي تمثّل الأقليات القومية، التركمان والآشورين، إذ إن المقاعد الـ11 المخفّضة كانت من حصة أبناء الأقليات، وهو ما قد ينعكس على واقع تمثيلها وقد يتسبب في مشكلات داخلية ما لم تسارع الأحزاب الكردستانية الكبيرة في استيعاب أبناء الأقليات ومنحهم “كوتا” مناسبة، لكن منطقياً يمكن الحديث عن أن المستفيد من التخفيض قد يكون حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الذي كان يرى بأن الكوتا السابقة تصبّ في صالح الديمقراطي الكردستاني، وذلك أن مقاعد الأقليات كانت تخص محافظتي أربيل ودهوك معقلي الديمقراطي، بالتالي فإن تجريده من هذه المقاعد قد يدخل في صالح منافسيه لاسيما الأطراف التي تسعى لإحلال شيء من التوازن الحزبي والجهوي داخل البرلمان. ورغم أن قرار الاتحادية يقسّم الأحزاب الكردستانية إلى مستفيدة ومتضررة، إلّا أنه قد يفهم من منطوق القرار بأنه محرج للكيانات القومية الكردية ومخلّ بالمشهد التمثيلي للأقليات، إذ ليس هناك مبرر دستوري يقضي بهذا التخفيض والتلاعب بقواعد اللعبة البرلمانية التي ارتضتها الأحزاب الكردستانية وممثلي الأقليات القومية.
وعلاوةً على ذلك، فإن المفوضية العليا المستقلة للانتخابات (العراقية)، قد تَحلّ بدلاً من الهيئة العليا لانتخابات إقليم كردستان، لإدارة انتخاباتها، وتقسيم إقليم كردستان إلى عدّة دوائر على ألا يقل ذلك عن 4 مناطق انتخابية، الأمر الذي قد يمنح البرلمان المقبل حضوراً للمناطق التي حُرمت من التمثيل العادل، ودوراً أكبر للأحزاب المنافسة للديمقراطي الكردستاني.
وفي مقابل ذلك، قد يكون قرار الاتحادية بإرسال رواتب موظفي الإقليم مباشرة للموظفين دون إرسالها لحكومة الإقليم، إغراءً للموظفين الذين يعانون من انقطاع أو تأخير رواتبهم. ورغم ترحيب فئة الموظفين بمثل هذه المبادرة إلّا أنها في جوهرها تعني الانتقاص من صلاحيات الإقليم وهو ما قد يدفع الحكومة الإقليمية لرفض منطق الوصاية الذي تفرضه، وزيادة إمساك بغداد بالأوراق التي كانت في حوزة الإقليم في وقت سابق.

التداعيات

صحيح أن اللحظة التي تلت الاستفتاء على الاستقلال ألهمت بغداد، وحكومة العبادي، بالتواري خلف قرارات المحكمة الاتحادية، إلّا أن هشاشة التفاهم الكردستاني والخلافات الحزبية وعدم الاتفاق في تشكيل جبهة كردستانية في الإقليم وبغداد، مثّل المساحة المناسبة لنفاذ بغداد من شقوق الخلافات الكردستانية وتصاعد أصوات الجماعات الداخلية المستاءة.
إن التآكل التدريجي لصلاحيات الإقليم مع اقتراب موعد الانتخابات المزمع عقدها في حزيران/يونيو المقبل، يحتّم على الطبقة السياسية الوصول إلى شكل أعلى للتفاهم بما يخضع لمبدأ التنازل المتبادل للوصول إلى تنسيق المواقف بالشكل الذي يخفّض من تدخلات دول الجوار وبغداد في شؤون الإقليم الداخلية، ولعل الأهم، في هذه الغضون، هو وقف حدّة تدخلات المحكمة الاتحادية التي باتت مطرقة بغداد المفضّلة لرسم صورة الكيان الكردي شبه المستقل، حتى وإن كان ثمة أطراف مستفيدة من هذه التدخلات، فالأولى هو أن تحلّ مشكلات الإقليم داخلياً، لا أن تحتكم إلى المركز الذي قد يتحوّل اللجوء إليه لطقس سياسيّ دائم يُجهز على ما تبقى من صلاحيات للإقليم الكردي.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد