محمد سيد رصاص
منذ القرن الثاني عشر للميلاد بدأ ” تعبير (كردستان) يدخل في التداول “(1) ، وقد شمل حمد الله القزويني 1281-1349،وهو مؤرخ فارسي، تحت “هذا الاسم 16 منطقة وحصناً: دينور وكرمنشاه وشهرزور وغيرها، وهي كانت إما كردية في الأصل وإما تم توطين الكرد فيها. وبناء على قول القزويني أيضاً كانت تلك الأقسام الجبلية “تشمل مناطق بين العراق العربية وخوزستان والعراق العجمية وأذربيجان وديار بكر الحدودية”(2)، و” تذكر المصادر العربية (منذ ثلاثينيات وأربعينيات القرن الثامن الميلادي) الأقوام الكردية في مناطق كردستان الايرانية والعراقية المعاصرتين..وكذلك في بعض المقاطعات الايرانية المجاورة:أذربيجان وفارس وخوزستان، وكذلك كانت بعض مناطق الجزيرة والجبال مسكونة بالأكراد” (3)، ولكن تعبير (كردستان) بدأ تداوله للدلالة على “المناطق المسكونة من قبل الأكراد” (4) فيما طوال “سنوات الحكم العربي في القرون الوسطى لم يكن لـ(كردستان) وجود كوحدة سياسية أواقليمية” (5) إذا اعتبرنا أن الحكم العربي قد انتهى مع حكم البويهيين الفرس في بغداد العباسية 945-1055 والذي أعقبه حكم السلاجقة الأتراك هناك.
أعطى المكان الجغرافي الذي يوجد فيه الكرد، الذين اعتنقوا الإسلام على المذهب السني في القرنين العاشر والحادي عشر، أهمية لهم في الجغرافية – السياسية، حيث كانوا في نقطة مكانية واصلة وفاصلة بين بغداد البويهية وبين بيزنطة، كما كانوا في النقطة الشمالية لبلاد الشام حيث بدأ الفاطميون الذين سيطروا على مصر عام 968 بالامتداد نحو الشام وهم الذين يحملون المذهب الاسماعيلي الداخل في تناقض مع المذهب السني للخلفاء العباسيين ومع المذهب الشيعي الإثناعشري للبويهيين.
هذا التناقض العباسي البويهي مع البيزنطيين أعطى الحمدانيين في شريط حلب- الموصل الأهمية في خمسينيات وستينيات القرن العاشر ثم توارثت هذه الأهمية (الدولة المروانية 983-1085) وهي أول دولة كردية مسلمة امتدت من ديار بكر شمالاً حتى جزيرة ابن عمر وأحياناً كانت مسيطرة على الموصل، ثم زادت هذه الأهمية للدولة المروانية عندما سيطر السلاجقة الترك على بغداد وأنهوا سيطرة الشيعة البويهيين على بغداد في عام 1055 وقاموا بتسنين الدولة العباسية بمواجهة فاطميي القاهرة وبدأؤوا بالصدام مع الدولة البيزنطية، حيث كان هناك دور حاسم للمروانيين، بالمواجهة الكبرى بين السلاجقة والبيزنطيين في معركة منازكرت عام 1071 ، في تمييل موازينها لصالح السلاجقة .
أيضاً، ووفق كارل بروكلمان فإن الزنكي عماد الدين “وهو تركي، وكان أول أمره أتابكاً ،أي مؤدباً للأميرين السلجوقيين ألب أرسلان وفرخشاه”(6) هو الذي جلب عشيرة كردية للعراق بعد سيطرته على الموصل عام 1127 ثم عين ابنه نورالدين، بعد سيطرته على سوريا، من تلك العشيرة أيوب بن شاذي الكردي حاكماً على دمشق وأخيه شيركوه حاكماً على حمص، وشيركوه الذي أرسله نورالدين لمصر في فترة احتضار الدولة الفاطمية وتخبطها أمام الصليبيين استطاع ابن أخيه المرافق له في مصر بعد وفاته، أي صلاح الدين بن أيوب، أن يقضي على الدولة الفاطمية بفترة 1169-1171، ثم أن يكون المنقذ للعالم الاسلامي أمام الزحف الصليبي الذي بدأ عام 1098 على الشرق حتى وضع صلاح الدين بداية النهاية لمده في معركة حطين بعام 1187، وهو ما ترافق مع سيطرته على مصر وبلاد الشام من دون أن يخلع البيعة للخليفة العباسي في بغداد.
كان المروانيون الكرد نقطة التوازن التي يطلبها الجميع، ولكنهم أعطوها للسلاجقة الترك، وكانت هزيمة البيزنطيين أمام السلاجقة الترك في منازكرت عام1071 بداية النهاية للدولة البيزنطية عام1453، وكان الأيوبيون الكرد نقطة التوازن التي أعطيت ضد الفاطميين فأنهتهم وضد الصليبيين 1098-1291 فأعطت بداية النهاية لهم في حطين 1187.
هذا الدور العسكري- السياسي الذي لعبه الكرد في الفترة الفاصلة بين المروانيين والأيوبيين 1171- 1250 كان مترافقاً مع اندماج كردي في الفضاء العام الاجتماعي- الثقافي والذي كانت فيه اللغة العربية هي لغة الأدب والفقه والفكر، وكان الإسلام، كأيديولوجيا ما فوق قومية، هو اللاصق الهوياتي للعربي والتركي والكردي والفارسي، وليس المحدد القومي.
عندما ظهر الصفويون في عام 1501كدولة جديدة في بلاد فارس تحمل محدداً مذهبياً شيعياً اثني عشرياً، وقام الشاه اسماعيل الصفوي بتشييع إرغامي لتلك البلاد حيث كان المذهب السني مازال قوياً حتى أيامه في خراسان وفي أصفهان، فإن هذا التحديد الشيعي للدولة الصفوية كان مترافقاً مع ملامح قومية وثقافية فارسية امتزجتا منذ تلك الأيام في بنية ثالوثية موحدة مع البعد الشيعي. وعندما حصل الصدام في معركة جالديران عام 1514 بين الشاه اسماعيل الصفوي وبين السلطان العثماني سليم الأول، الذي كان يرفع الراية السنية في وجه الشاه الذي كان للتو مع سيطرته على العراق قد أظهر الكثير من العداء للسنة لحد تخريب مقام الإمام أبوحنيفة النعمان في بغداد، فإن الكرد قد لعبوا في جالديران، مثل منازكرت، دوراً حاسماً في انتصار العثمانيين على الصفويين، وهو مايقول عنه عبد الله أوجلان أن “موقف السلطان العثماني ياووز سليم بعقده التحالف الاستراتيجي بين الفريقين اللتين تعتبران متكافئتين لم يتأخر عن إعطاء ثماره التاريخية. والتحالف المبرم كان يعترف للإمارات الكردية بشبه استقلالية واسعة النطاق وبصلاحيات التحول إلى حكومة. وأكثر من كونه تحالفاً فقد كان يشق طريقه صوب امبراطورية تركية – كردية مثلما حال الامبراطورية النمساوية – المجرية”(7).
تثلًث هذا التلاقي التركي- الكردي بعد سنتين من جالديران لما سيطر العثمانيون على بلاد الشام وما أعقب هذا من سيطرتهم على مصر والحجاز عام 1517 ثم العراق عام 1534، حيث كان القبول العربي بالعثمانيين مؤدياً إلى وضع ثالوث تركي- كردي- عربي يحمل المذهب السني بوجه الفرس الصفويين الذين حملوا الراية الشيعية.
في الفضاء العثماني منذ سليم الأول 1512-1520 وحتى عبدالحميد الثاني 1876-1909 كان هناك ثالوث تركي- عربي- كردي ملاطه هو الاسلام السني، وفي فترة دعوة السلطان عبدالحميد إلى (الجامعة الاسلامية)، كأيديولوجيا جامعة، اقترب منه الصوفي العربي أبوالهدى الصيادي وكان مؤثراً كبيراً عليه وكذلك الفقيه الكردي سعيد النورسي الذي اقترح عليه فكرة (أزهر) كجامعة اسلامية للأناضول الشرقي.
قاد سقوط السلطان عبدالحميد عبر قوميين أتراك من جمعية الاتحاد والترقي إلى انفراط الثالوث التركي- العربي- الكردي الذي كانت تجمعه الرابطة الاسلامية عند العثمانيين ، وقومية هؤلاء هي أقرب للفاشية والنازية كما يشير لذلك أوجلان في كتابه المذكور (ص66) والذي يعتبر أن حزب أتاتورك، أي حزب الشعب الجمهوري، “قد تغًير اسماً، ولكنه مضموناً يعد الشكل الجديد الذي اتخذه حزب الاتحاد والترقي لنفسه”(8) .
فالأتاتوركية، وقبلها جمعية الاتحاد والترقي، كانت الفالق للثالوث التركي- العربي- الكردي في الفضاء العثماني، وإذا كان أتاتورك ،وقبله (الاتحاديون)،هم آباء النزعة القومية التركية ، فإن النزعتان القوميتان عند العرب والكرد قد قامتا عملياً كرد فعل على انفراط الرابطة العثمانية التي فرطها الاتحاديون ثم أتاتورك .
في تركيا الأتاتوركية منذ 29 تشرين الأول\أكتوبر1923 التوتر التركي- الكردي هو أعلى بما يقاس مما هو موجود بين العرب والكرد في عراق مابعد عام 1921 وسوريا ما بعد 1946، والتوتر الفارسي- الكردي في ايران، بمرحلتيها البهلوية 1925-1979 ومن ثم الجمهورية الاسلامية ،هو قريب للتركي .
مع عدم امكانية قيام دولة كردية، كما أظهرت عملية فشل الحركة المسلحة للشيخ محمود الحفيد البرزنجي في كردستان العراق بالنصف الأول من العشرينيات، اختار كرد ولاية الموصل ذات الغالبية الكردية (تضم الموصل وأربيل والسليمانية وكركوك) الانضواء تحت الراية العراقية في زمن كان أتاتورك يريق الدم الكردي في تركيا أثناء ثورة الشيخ سعيد بيران عام 1925وهو ينازع حول ملكية ولاية الموصل ويريد ضمها لتركيا. يحصي حنا بطاطو أربع رؤساء وزراء من الكرد من أصل ثلاثة وعشرون بالعهد الملكي بالعراق1921-1958(9)، كماأن عائلة بابان الكردية، وهي من كبار ملاكي الأراضي بالعراق، كان لها الرقم واحد بالتعيينات الوزارية التي نالتها عائلة واحدة بالفترة العراقية المذكورة حيث حصلت على تسع وعشرون تعييناً من أصل خمسمئة وخمس وسبعون تعييناً وزارياً وكان منها رئيس للوزراء هو أحمد مختار بابان (10) . في عشرة اشهر أعقبت الانقلاب العسكري بالعراق في يوم29تشرين الأول\أكتوبر 1936 حكم رئيس الأركان الفريق بكر صدقي العراق لعشرة أشهر من وراء ستارة وزارة حكمت سليمان ،والفريق صدقي هو من أصل كردي وكان ظهيراً له تحالف يضم يساريي “جماعة الأهالي”، مثل كامل الجادرجي، ومؤيدون للألمان مثل حكمت سليمان . وفي تاريخ الحزب الشيوعي العراقي هناك ثلاثة من الكرد احتلوا المركز القيادي الأول في الحزب،هم بهاء الدين نوري وحميد عثمان وعزيز محمد، والثنائي الشيوعي عامر عبد الله وبهاء الدين نوري كان هو القوة المحركة لعبدالكريم القاسم بفترة 1958-1963.
في سوريا هناك ثلاثة رؤساء للدولة من الكرد،هم حسني الزعيم وفوزي سلو وأديب الشيشكلي، وثلاثة رؤساء للوزارة هم حسني البرازي ومحسن البرازي ومحمود الأيوبي، وكان الأمين العام للحزب الشيوعي السوري خالد بكداش من أقطاب السياسة السورية الكبار وكان له نفوذ كبير على الشيوعيين العراقيين واللبنانيين والأردنيين . في الفضاء الديني للإسلام الشامي، يحتل المساحة الكبرى شيخان من الكرد هما الشيخ أحمد كفتارو والشيخ محمد سعيد رمضان البوطي ، هذا غير الحضور التأثيري للشيخ سعيد النورسي بمؤلفاته الفقهية أو في تفسير القرآن، وفي تاريخ الجامع الأموي تعد (الخطبة الشامية) للشيخ النورسي عام 1911 من أشهر الخطب بتاريخ الجامع خلال القرن العشرين. وفي الاقتصاد يحتل أكراد مدينة دمشق مساحة كبيرة من الحياة الاقتصادية والتجارية، وفي المدن السورية، مثل دمشق وحلب واللاذقية ، هناك اندماج كبير اجتماعياً بين العرب والكرد.
التأزم في العلاقات العربية – الكردية حصل في العراق منذ عام 1968 وفي سوريا منذ عام 1963، ولو أنه في سوريا يبقى أخف من العراق . الأزمة العراقية 2003-2024 والأزمة السورية 2011-2024 تحتل (القضية الكردية) جزءاً كبيراً من خريطتهما.
– الهوامش –
1- أرشاك بولاديان: ” الأكراد في حقبة الخلافة العباسية في القرنين 10-11م”،دار الفارابي،بيروت2013، ص 43.
2- “المرجع السابق”، ص43.
3- “المرجع نفسه” ، ص 52.
4- “المرجع نفسه” ، ص43.
5- “المرجع نفسه” ، ص 42.
6- كارل بروكلمان : “تاريخ الشعوب الاسلامية”، دار العلم للملايين،بيروت1968،ص347.
7- عبد الله أوجلان: “خريطة الطريق”،مطبعة آزادي،2013،ص 126.
8- أوجلان: “المرجع السابق”، ص99.
9- حنا بطاطو: “العراق:الكتاب الأول”، مؤسسة البحاث العربية،بيروت1995، ص 219.
10- ” المرجع السابق”، ص 255.