الحديث عن «الانسحاب» في ذروة العودة الأميركية للمنطقة!

شورش درويش

لشدّة ما انتقد الرئيس الأميركي جو بايدن، ومن خلفه حزبه الديمقراطي وحتى منافسوه من جمهوريين، سياسة سلفه دونالد ترامب فيما خصّ تعاطيه الاعتباطي مع الملف السوري، ذهبت الترجيحات إلى احتمالية أن تكون سياسة بايدن أشدّ وضوحاً ومبرزةً للمصالح الأميركية وقادرة على استيعاب مصالح حلفائها على الأرض، وقادرة على وقف الاستفزازات التركية والحضور الإيراني المتنامي، إلى جانب وضع إطار جديد لمعالجة مشكلة معتقلي تنظيم داعش ومخيّمات ذوي المقاتلين الأجانب.
بدت سياسة بايدن أقرب لامتداد هادئ للحظة التي عطّل فيها ترامب الانسحاب الكليّ الذي كان ينوي تنفيذه أواخر عام 2019. فهي لم تتجاوز مرحلة التعطيل لناحية عدم معالجتها لجملة المشكلات التي فُهم أنه ينوي معالجتها، لكن إدارة بايدن نجحت في ثني تركيا عن تنفيذ حرب برّية أخرى منذ نهاية عام 2019، ووُفقت كذلك في تحييد سوريا عن مجرى الحرب الروسية في أوكرانيا، والإبقاء على العمل المشترك مع «قسد» في مسار ضمان إلحاق الهزيمة الدائمة بتنظيم داعش، والرد على مصادر النيران الإيرانية التي استهدفت أصولها العسكرية.
وإذا كان ثمة سمة عامة لفترة إدارة بايدن للملف السوري، فقد كانت عدم تطرّقها لمسألة الانسحاب طيلة السنوات الثلاث الماضية، رغم أن انسحاب ترامب الجزئي حفّز النقاشات المتصلة بالحسابات المرتبطة بالانسحاب والتزام واشنطن بنهج خفض عديد قوّاتها في الشرق الأوسط، والذي يمكن عدّه أيضاً تمريناً أوّلياً لتنفيذ الانسحاب الكبير من أفغانستان، لولا أن فترة حكم ترامب لم تمتد لدورة أخرى تسعفه لتنفيذ القرار الذي رسم ملامحه الرئيس الأسبق باراك أوباما.
في الأثناء، أثارت مقالات صحيفة ملتبسة اللغط حول مسألة استعداد واشنطن للانسحاب نقلاً عن شخصيات في الإدارة الأميركية، وهو ما نفاه البيت الأبيض سريعاً. وحاولت المقالات التي قالت إنها «معلومات» طرح أفكار من خارج الصندوق هذه المرة، ومفادها: إمكانية التشبيك بين «قسد» والنظام السوري في مسار محاربة «داعش»، رغم المعرفة المسبقة بأن مثل هكذا «إغراء» أميركي لدمشق لن يساهم في استكمال برنامج محاربة التنظيم نتيجة لضعف النظام دون إسناد إيراني أو روسيّ، فوق أنه لا يمثّل أولوية للنظام قياساً إلى أولوية بقاء قوّاته مرابطة ومتحفّزة على طول خطوط التماس مع مناطق سيطرة مليشيات المعارضة وهيئة تحرير الشام، فضلاً عن أن دمشق ترفض إقامة شراكة واضحة مع «قسد» وتعيش حالة نكران مزمن للتغيّرات التي طرأت على الجغرافية السورية منذ أكثر من عقد.
قد يكون مبعث هذا التجريب الصحافي أو الصادر عن موظّفين مكتبيين غير مؤهّلين لرسم الاستراتيجيات بعيدة المدى، اعتقادهم بإمكانية فصم عرى العلاقة بين دمشق وطهران على طريقة تجريب أسبق حين حاولت دول خليجية احتواء دمشق وسحبها من حضن طهران عبر سياسة «الخطوة مقابل خطوة»، والتي لم تساهم في وقف تزايد عديد المجموعات المرتبطة بإيران في سوريا ولا إلى تخفيض مستوى التدخّل الإيراني. وقتذاك، لم تعارض واشنطن هذه السياسة العربية بقوّة وأرخت الحبل على الغارب، إذ كانت تدرك أن هذه التهويمات السياسية لن تؤدي إلى نتائج ملموسة على الأرض. فالتحالف بين دمشق وطهران غدا أعمق من أن توقفه التدفّقات المالية أو عودة العلاقات الدبلوماسية.
من المبكّر، إن لم نقل من المستحيل، أن ينزاح البيت الأبيض إلى وجهة نظر تؤيد تقوية مركز إيران في سوريا، لاسيما أن محاولات واشنطن لتطويق الانتشار الإيراني سعياً لاحتواء الحرب في غزة هي من العوامل المحفّزة للتمسك بالبقاء في سوريا، وربما في العراق أيضاً. هذا علاوةً على أن مجمل التقارير الأميركية لا تقلل من شأن «داعش» أو اقتراب نهايته، ذلك أن التماس المباشر للقوات الأميركية وقيامها بمهماتٍ أمنية رفقة «قسد» يدلل على أن مخاطر التنظيم ماتزال قائمة ويزيد من خطورتها مسائل تعويل التنظيم على الفوضى وتعاقب أجيال التنظيم «أشبال الخلافة» والتطلّع لإخراج مقاتليه وقياداته من السجون.
لا تجد الولايات المتحدة أيضاً مضايقة جدّية من حليفتها الأطلسية تركيا بعد أن توقّفت سبل ابتزاز الأخيرة مع انضمام السويد لـ«الناتو» وعدم قدرة رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين التوسّع في الشراكات الاستراتيجية على ما كان يشكّله من ثغرة مؤذية لحصن «الناتو»، خاصة بعد أن كشف التورّط الروسيّ في أوكرانيا تعذّر المساعي الروسية لأن تصبح القطب المكافئ للولايات المتحدة، على ما كانت تنتظره دول إقليمية من بينها تركيا. يزاد على ذلك، تعثّر الاقتصاد والتهاوي المضطرد لسعر صرف الليرة التركية وما يحتمله ذلك من إلحاحٍ في طلب العون من البيت الغربي وواشنطن.
عزّزت سياسة الاحتواء المزدوج لإدارة بايدن من فرص الإبقاء على تحالفين متناقضين: واحد مع تركيا وآخر مع «قسد»، وإذا كانت غضت الطرف مراراً عن الانتهاكات التركية وعدوانها على مناطق شمال شرقي سوريا، فإنها نجحت في إبطال أفكار تركيا لتنفيذ اجتياح برّي آخر وتوسيع رقعة احتلالها، وفي مقابل ذلك، كثّفت إدارة بايدن العمل مع «قسد» في مجال مكافحة «داعش» والحؤول دون حدوث اختلال أمنيّ في مناطق سيطرة «قسد» حتى وإن استلزم ذلك إسقاط مسيّرة تركيّة كانت تحلّق بالقرب من قاعدة أميركية في أكتوبر/تشرين الأول 2023. ولعل سابقة إسقاط دولة عضو في «الناتو» لطائرة «حليف» مقدّمة لوضع إطار ناظم للتحرّكات التركية في سماء شمال شرقي سوريا، حين حاولت المسيّرة استكشاف قدرتها على الاقتراب من القواعد المشتركة لـ«قسد» والولايات المتحدة.
يدخل في حسابات الانسحاب مقدار الضرر الذي تتعرّض له القوات الأميركية العاملة في سوريا والعراق جراء الهجمات الإيرانية أو المجموعات التابعة لها، وهي هجمات تجاوزت العشرات وتفاقمت بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، واستخدمت فيها صواريخ ومسيّرات منخفضة التقنية، إلّا أنها لم تلحق ضرراً فعلياً بالأصول الأميركية بقدر ما أمّنت جوّاً دعائياً لإيران ورسائل دورية حول إمكانية رفع التصعيد ليس إلّا. ولعل تكتيك القوات الأميركية المتمثّل بتأمين القواعد وحصر العمل في نطاق القواعد والعمليات المشتركة قلل من فرص استهدافها. جدير بالبيان أن الهجمات المتواصلة لم تؤد لمقتل جنود أميركيين حتى الآن، ولم تكبّد الجهد العسكري الأميركي أية خسائر تذكر، وهذا كله يدخل في حسابات التمسّك الأميركي بخطط البقاء في المدى القريب والمتوسط.
في مجمل الأحوال، سيخضع الحديث عن «الانسحاب» لعدة عوامل من بينها اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية وتباين أجندتي بايدن وخصمه المحتمل ترامب فيما خص سياسة تعزيز التواجد الأميركي في الشرق الأوسط وشكله ونطاقه. إضافة إلى أن موضوع الانسحاب سيبقى خاضعاً لأنماط من التجريب السياسي والاقتراحات الدائمة لموظفين مكتبيين وكتاب صحافيين يسعون لقول شيء جديد حتى وإن كان عديم الجدوى والأثر. ليبقى القول إن الحسابات المنطقية تقول عكس ما تروّجه مقترحات الانسحاب. ففي حمأة التنافس الإقليمي والدولي في الشرق الأوسط، والذي يمثّل السبب المنطقي لتعزيز الوجود الأميركي، يصبح الحديث عن الانسحاب أكثر إثارة وأقل واقعية، لاسيما بعد الحرب بين إسرائيل وحركة حماس الذي كان القطرة التي أفاضت الكأس الأميركية.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد