محمد سيد رصاص
في يوم 19أيلول/سبتمبر الماضي التقى في نيويورك، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، الرئيس التركي رجب أردوغان مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. كان اللقاء ودياً، وبحسب “وكالة الأناضول” التركية فقد طرح أردوغان “التعاون في مجالات الطاقة والأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي”.
جاءت أجواء هذا اللقاء وديةً بعد أن وصل حجم المبادلات التجارية التركية – الإسرائيلية إلى ذروتها بمبلغ 8،91 مليار دولار عام 2022، وفي العام نفسه زار تركيا سبعمائة ألف سائح إسرائيلي، كما أنه في عام 2022 عاد السفيران التركي والإسرائيلي لمقر عملهما وسبقت هذه العودة زيارة للرئيس الإسرائيلي إسحق هيرتزوغ لأنقرة في الشهر التالي لبدء الحرب الأوكرانية (24شباط/فبراير2022)، وخلال اللقاء طُرح موضوع أنبوب غاز يمتد من ساحل إسرائيل إلى ميناء جيهان التركي شرق مرسين ثم يُربط بأنبوب غاز (تاناب) الآتي من أذربيجان عبر الأناضول (23مليار متر مكعب سنوياً بعام2023) ومن هناك إلى القارة الأوروبية، في وقت أيقظ الغزو الروسي لأوكرانيا مخاطر الاعتماد الأوروبية على الطاقة الروسية بفرعيها الغازي والنفطي، وفي وقت تزامن مع انسحاب شركات أميركية من مشروع (إيست ميد) في عام 2022، الموقّع عام 2020، لنقل الغاز من إسرائيل إلى القارة الأوروبية عبر أنابيب تحت بحرية إلى جزيرتي قبرص وكريت وصولاً للساحل اليوناني.
في لقاء نيويورك كان الجو الودي لا يعكس توترات أبرزتها خطابات عنيفة وجهها أردوغان ضد إسرائيل، بدءاً من مجابهته العلنية بمنتدى دافوس عام 2009 مع الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز عقب وقت قليل من حرب غزة الأولى، وهو ما تكرر عام 2010 مع حادثة المجابهة البحرية الإسرائيلية لسفن مساعدات تركية متجهة إلى غزة، وتثلت وتربع تجاه غزة بعامي 2012 و2014، ثم تخمس عام 2018 مع هجومات شنها الرئيس التركي على إسرائيل بمناسبة اعتراف واشنطن بالقدس عاصمة لإسرائيل، ثم تكرر من أردوغان عام 2021 مع توترات (الشيخ جراح والمسجد الأقصى). وفي تلك المجابهات الكلامية التي كان يبادر إليها أردوغان كان يتم طلب تركي بسحب السفير الإسرائيلي وتصرفات إسرائيلية تلفزيونية مهينة للسفير والدبلوماسيين الأتراك في تل أبيب. وقد حصلت مصالحتي 2016 و2022 بين تركيا وإسرائيل، وكان التوتر الأخير هو الذي جرى في حرب غزة الحالية منذ يوم7 أكتوبر/تشرين الأول، حيث أشعل الأجواء فيه تصريح أردوغان (25أوكتوبر):”حماس ليست منظمة إرهابية، بل حركة تحرير وطنية”.
يمكن للأرقام الاقتصادية أن تبرز التناقض بين الكلام والأفعال عند أردوغان في علاقته بإسرائيل ، حيث عند تولي حزب العدالة والتنمية مقاليد السلطة التركية كان حجم التبادل التجاري 1،41مليار دولار فقط، وبعد عقدين من حكم أردوغان وصل التبادل التجاري بين البلدين إلى 8،91 مليار،هذا غير اتفاقات التعاون العسكري والاستخباراتي البادئة منذ عام2007 والتي شملت تحديثات إسرائيلية لدبابات وطائرات وصواريخ للجيش التركي، وصحيح أن هذا التعاون العسكري ، ومنه مناورات جوية مشتركة، كان يوقف كما جرى في خريف 2011 أو تساهم المخابرات التركية في تسريب معلومات للإيرانيين عن نشاطات استخباراتية إسرائيلية تشمل شبكات كما جرى عام 2013، ولكن هذا التعاون العسكري- الاستخباراتي ما زال قائماً حتى الآن، كما أن الجيش الإسرائيلي يجلب الوقود لدباباته ومجنزراته من نفط أنبوب باكو- تبليسي- جيهان، والجنود الإسرائيليون تأتي بدلاتهم الصوفية الداخلية من تركيا وكذلك أحذيتهم الجلدية .
مؤخراً، وفي عالم مابعد (7 أكتوبر)، أطلق أردوغان تصريحاً، في وجه أحزاب المعارضة التركية للتناقض بين الأرقام الاقتصادية وبين كلامه والمظاهرات التي يدعو لها حزبه دعماً لغزة، قال فيه: “لايوجد علاقة بين السياسة والاقتصاد والتجارة”، وهو تصريح بالتأكيد كان سيسخر منه آباء الاقتصاد السياسي، آدم سميث ودافيد ريكاردو وكارل ماركس، وربما يرموه بالأحذية، ولكن إذا تم التنقيب في بنية هذا التصريح فإن الرئيس التركي من المؤكد يعرف أن هناك بنية واحدة متصلة في بناء واحد لطوابق الاقتصاد – التجارة – السياسة، ولكنه يداور أو يهرب من الموضوع، حيث هو في إيديولوجيته الإسلامية الأصولية يشعر بالإخاء مع حركة حماس، والموضوع الفلسطيني جزء من توجه حزبه الفكري- السياسي، وموضوع فلسطين حاضر بقوة عند جمهور (حزب العدالة والتنمية)، وأردوغان لن ينسى أن الانتخابات البلدية في الشهر الثالث من العام القادم وهو غير مستعد لأن يخسر جمهوره؛ إلا أنه في الوقت نفسه يعرف بأن “الدولة العميقة” في تركيا هي مع التوجه الذي تلاقى من خلاله سلفه الإسلامي عدنان مندريس مع رئيس الوزراء الإسرائيلي دافيد بن غوريون بعام 1958 لما طرح الأخير ، مع تنامي المد الناصري العروبي وقيام الوحدة السورية – المصرية، فكرة إقامة حلف إسرائيلي “مع دول المحيط” مع تركيا وإيران وإثيوبيا، وكان لقاء مندريس وبن غوريون يحكمه حضور وقوة عبدالناصر، أما أردوغان فيفكر في تركيا كمعبر لأنابيب الغاز والنفط من القفقاس وشرق المتوسط ومن شبه الجزيرة العربية، وهو عندما عقد اتفاقاً مع حكومة فايز السراج الليبية في طرابلس الغرب عام 2019 لترسيم الحدود البحرية التركية- الليبية، وهو اتفاق يرسم خطاً بحرياً للحدود يمر بين جزيرتي قبرص وكريت، كان يفكر بتفشيل مشروع (إيست ميد)الذي كان آنذاك موضوع تفاوض إسرائيلي- قبرصي- يوناني، وعندما أتى إسحق هرتزوغ لأنقرة طرح أردوغان فكرة أنبوب غاز إسرائيلي- تركي بعد أن سحب الأميركان التمويل عن (إيست ميد) وفي لحظة بدأ فيها الانفطام الأوروبي عن الطاقة الروسية بفرعيها الغازي والنفطي، وعلى الأرجح فإن غضب أردوغان من الإسرائيليين في حرب غزة الحالية ليس أساساً بسبب الفلسطينيين بل بسبب (مشروع الكوريدور الهندي- الشرق الأوسطي- الأوروبي)، الموقع في 10أيلول/سبتمبر الماضي في نيودلهي برعاية أميركية، والذي سيجعل أنابيب الطاقة الشرق أوسطية من شبه الجزيرة العربية تمر من ساحل إسرائيل بخط مباشر تحت البحر إلى الساحل الإيطالي، وبالتالي فإن تركيا ستكون الخاسر الأكبر من هذا المشروع ، هي وروسيا وإيران وربما دول منطقة القفقاس وبحر قزوين، وهو مشروع يبدو أن ضربة 7 أكتوبر قد قادت إلى تركيز الانتباه على إزاحة حركة حماس من قطاع غزة كشرط ضروري لانطلاق وأمان هذا المشروع الذي كان مخططاً أن يمر بين إيلات وعسقلان عبر غلاف غزة قبل الاتجاه شمالاً نحو حيفا، وعلى الأرجح فإن أردوغان لن يقطع شعرة معاوية مع الإسرائيليين على أمل أن يكون (الكوريدور) بين الساحلين الإسرائيلي والتركي، وليس بين الساحلين الإسرائيلي والإيطالي، وأن تمر أنابيب الطاقة للأوروبيين عبر (الكوريدور) من خلال المعبر التركي.