*د.محمد نورالدين
منذ الساعات الأولى التي تلت عملية طوفان الأقصى كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يعلن موقفا يوصف بـ “المحايد” بين حركة حماس وإسرائيل.
وأمام 1402 مندوباً أعادوا انتخابه رئيساً لحزب العدالة والتنمية ظهيرة السابع من تشرين الأول / أكتوبر، دعا أردوغان إسرائيل وحماس “الأطراف” إلى الاعتدال” و”الامتناع عن اتخاذ خطوات انفعالية تصعّد من التوتر”. ووصفت وزارة الخارجية التركية في بيان متأخر من اليوم نفسه ما يجري بـ “التوتر والعنف في فلسطين وإسرائيل” معربة عن “القلق” ومُدينةً الخسائر في الأرواح المدنية من الجانبين. وتكررت مفردة “الاعتدال” لدى كل المسؤولين في حزب العدالة والتنمية. وحده احمد داود اوغلو، رئيس حزب المستقبل، وتيميل قره موللا اوغلو، زعيم حزب السعادة، كانا واضحين بالوقوف إلى جانب حركة حماس والفلسطينيين. فيما قال زعيم المعارضة كمال كيليتشدارأوغلو إنه إلى جانب الشعب الفلسطيني ونظم اول لقاء تضامن جماهيري مع فلسطين.
موقف الحياد من جانب أردوغان انسحب على كامل الشبكة الإعلامية لحزب العدالة والتنمية التي كان مختصر موقفها “كما يرفض العالم قتل اسرائيل للمدنيين كذلك يرفض قتل حماس للمدنيين الاسرائيليين”. وتشكل مناخ غير مسبوق لدى التيار الإسلامي لجهة عدم التعاطف مع المقاومة الفلسطينية والنظر إليها ببرود، بل قال القيادي البارز في العدالة والتنمية بولنت أرينتش إنه نصح حماس بالهدوء والتعقل لأن سلاحها مجرد “طنين ذباب”. وذهب البعض إلى التشكيك بالشرعية الأخلاقية للمقاومة بعد قتل حماس للمدنيين. وباستثناء أقلام مستقلة اسلامية او معادية للغرب من يساريين فإن موقف الحياد التركي استمر عشرين يوماً حين بدأ إردوغان بتغيير اللهجة واعتبار حماس تنظيماً غير إرهابي واتهام اسرائيل بارتكاب جرائم حرب مع تنظيم مهرجان يتيم في اسطنبول دعماً لفلسطين في 28 تشرين الأول/أكتوبر.
لماذا وقفت تركيا على الحياد طيلة عشرين يوما؟ ولماذا رفعت تركيا الصوت لاحقاً من دون الذهاب إلى إجراءات عملية؟ وما الذي كان بإمكانها أن تفعل؟
في ذرائع “الحياد” التركي:
1- فاجأت عملية “طوفان الأقصى” أردوغان. فهو منذ ثلاث سنوات وهو يعمل على قدم وساق للتقرب من إسرائيل وتطبيع العلاقات معها انطلاقاً مما يعتقد أن التطبيع مع إسرائيل يجعل المال اليهودي يتدفق على تركيا ما يعزز الوضع الاقتصادي في الداخل التركي وهو ما كان أردوغان بأمس الحاجة إليه عشية الانتخابات الرئاسية في ربيع 2023. وربما رأى أردوغان أن أي موقف تضامني مع فلسطين في غزة وغير غزة بعد عملية طوفان الأقصى سوف ينسف كل ما بناه في السنوات القليلة الماضية. ولا سيما أن حجم التبادل الاقتصادي بين تركيا وإسرائيل يقارب التسعة مليارات دولار؛ خمسة مليارات ونصف المليار دولار منها صادرات تركية إلى اسرائيل.
2- التقى أردوغان للمرة الأولى وجهاً لوجه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في العشرين من الشهر الماضي في نيويورك. وأعلن بعد عودته أن البلدين سيعملان معا للتنقيب عن الغاز في المناطق الاقتصادية الإسرائيلية والتركية ولتصدير الغاز الإسرائيلي عبر أنبوب بحري من إسرائيل إلى تركيا فأوروبا. ورأى أردوغان أن أي موقف تضامني مع فلسطين اليوم قد يفجر هذه الخطط على صعيد الطاقة ويحرم تركيا من فرصة الاضطلاع بدور مهم في سياسات الطاقة العالمية ولا سيما بعد استبعادها من خطة “الممر الهندي”.
3- ساهم التعاون بل التحالف التركي – الاسرائيلي – الأذربيجاني في تحقيق انتصار مهم في 19 أيلول/سبتمبر الماضي على حساب أرمينيا وإيران في القوقاز بعد اقتلاع الأرمن من أراضيهم في قره باغ وتهجيرهم منها. وأردوغان يحتاج إلى مواصلة هذا التحالف المثلث في أكثر من مكان. وبالمناسبة وللتذكير فقط فإن الموقف الأذري الرسمي والإعلامي لا يصف حركة حماس إلا بكونها منظمة إرهابية، منحازاً إلى جانب إسرائيل. ويعتّم الاعلام الأذري بالكامل على كل الهجوم الإسرائيلي العنيف في قطاع غزة.
4- استطراداً، إن الحفاظ على العلاقات الجديدة المميزة مع إسرائيل يدخل في إطار تعزيز التدخل التركي في سوريا واحتلاله لأراضيها ومواصلة أنقرة خططها المعادية لدمشق بالتكافل والتنسيق الكامل مع تل أبيب التي تسهم بضرب سوريا ومطاراتها بإضعاف القدرة السورية لمواجهة مخططات تركيا في سوريا.
5- الرغبة التركية في عدم تخريب علاقاتها من جديد مع الولايات المتحدة بعدما تم تصحيحها في قمة فيلنيوس الأطلسية في 12 تموز/يوليو الماضي وعدم العودة إلى المرحلة السابقة من التوتر والتشنج بين أنقرة وواشنطن.
6- الرغبة التركية في عدم تخريب التطبيع الذي أسسته مع الدول الخليجية التي اتخذت مواقف “حيادية” من العدوان الاسرائيلي على غزة. كذلك الرغبة في استغلال الحرب في غزة لاختراق إيجابي في العلاقات مع مصر ذات الدور المؤثر في أحداث غزة والمنسجم مع مواقف الدول الخليجية وغير البعيد عن المواقف التركية الحيادية.
7- كذلك فإن عدم التجاوب الروسي مع أردوغان لتجديد اتفاقية الحبوب واعتبار موسكو أن أردوغان لم يعد شخصا موثوقاً فيه، ربما أضعف آمال إردوغان في إبقاء روسيا ورقة بيده لمقاومة الضغوط الأميركية عند الضرورة. ولا يريد أردوغان بعد “العين الحمراء” الروسية عليه أن يخسر من جديد الورقة الإسرائيلية.
8- طمح أردوغان بموقفه الحيادي هذا أن يضطلع بدور الوسيط بين حماس وإسرائيل ليجدد التأثير التركي في المعادلات الإقليمية وليكون ذلك استعاضة عن تراجع دورها الوسيط بين أوكرانيا وروسيا. ولذلك تشدد تركيا في مواقفها على صيغة الضمانة لأي اتفاق في غزة وفلسطين وأن تكون تركيا إحدى الدول الضامنة للحل على غرار الوضع في قبرص.
9- لكن السعي لدور وسيط بين إسرائيل والفلسطينيين يخفي أيضاً ليس عجزاً بل رغبة تركية في إضعاف أي احتمال لاستثمار ايران في الظروف المستجدة في المنطقة بعد طوفان الأقصى. فقد نقل عن أردوغان صبيحة تبلغه بالعملية والاطلاع على تفاصيلها قوله إن العملية تخفي أموراً خطيرة. وهو يدرك ان هذه الأمور الخفية ليست سوى الدعم الايراني لها. وكم كانت الفروقات ضخمة بين كلام مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي “بتقبيل جباه المقاومين ودعمهم” وفق ما صرح، وبين مساواة أردوغان بين العدو وحماس في “قتل المدنيين”.
وقد تجلى التباين التركي – الايراني من الحرب على غزة في تأجيل زيارة كان مقرراً ان يقوم بها الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى أنقرة يوم 28 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي.
10- يؤخذ على السلطة الرسمية في تركيا في الوقت نفسه أنها لم تبادر منذ اللحظات الأولى ولا لاحقاً، إلى تنظيم حملات إعلامية وإعلانية متلفزة لجمع التبرعات مثلاً أوالدعوة لتقديم مساعدات انسانية او مولدات كهربائية أو ادوية أو مواد طبية أو الاستعداد لاستقبال جرحى المقاومة في غزة في مستشفيات تركية وما إلى ذلك. وعلى الرغم من إعلان تركيا لاحقاً ارسال مساعدات انسانية بقيت عالقة خارج غزة إلى أن حصلت الهدنة الأولى، غير أن التوقيت في الأيام الأولى ، كان ليكون أكثر أهمية وتأثيراً لجهة رفع معنويات الفلسطينيين.
إن مواقف أردوغان الحالية الداعمة ضمناً لإسرائيل، والحملة المعادية لحماس التي تروج لها بقوة وسائل إعلامه ومسؤوليه قد تؤسس، ولعلها أسست، لنزعة كراهية وعداء تجاه “المقاومة” وفلسطين لدى التيار الاسلامي في تركيا.
ماالذي كان بإمكان تركيا ان تقوم به؟
مع تصاعد التوحش الإسرائيلي ضد سكان غزة ومقاومتها كان الخطاب التركي الرسمي يعلو وصولاً إلى وعد أردوغان العمل على محاسبة اسرائيل في المحافل الدولية. وخرجت الأصوات من أن على تركيا مغادرة دائرة الاكتفاء بالإدانة والانتقال إلى خطوات عملية. كما انتشرت حملات لمقاطعة منتجات شركات أميركية أو غربية يعتبرونها داعمة لإسرائيل ومن ذلك منتجات مثل الكوكاكولا والماكدونالدز والهمبرغر والنيسكافيه. وقد قاطع “المطبخ الداخلي” في البرلمان التركي أيضا هذه المنتجات. لكن هذه الخطوات لم تكن سوى ذر للرماد في العيون، وفق مراقبين، ولا تؤثر في شيء وترمي إلى حرف الأنظار عما يمكن الإقدام عليه من خطوات عملية.
على سبيل المثال:
أولا، قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل أو على الأقل تخفيضها. وعلى امتداد الحرب اكتفت تركيا في وقت متأخر جداً، بعد 27 يوماً من بدء الحرب، باستدعاء سفيرها في إسرائيل للتشاور.
ثانيا، إغلاق القواعد الأميركية التي تستفيد إسرائيل منها مثل إينجيرليك وكوريجيك في تركيا والتي تستخدمها الولايات المتحدة لدعم إسرائيل عسكرياً.
ثالثا، إخراج اسرائيل من آليات حلف شمال الأطلسي بعدما دعم حزب العدالة والتنمية هذه المشاركة قبل سنوات رغم ان إسرائيل ليست عضواً في الحلف.
رابعا، قطع العلاقات التجارية مع إسرائيل وعدم التصدير إليها ولا شراء منتجاتها التي تعني المساهمة بقتل الأطفال الفلسطينيين. ومن أهم الصادرات التركية إلى إسرائيل الحديد والفولاذ التي تستخدم في تصنيع الأسلحة.
خامسا، حظر تصدير النفط والغاز إلى إسرائيل.
لماذا رفع إردوغان الصوت ولو متأخرا؟
لقد كان موقف الحياد التركي بداية ولعشرين يوماً رسالة إلى إسرائيل بأننا لسنا تلقائياً مع حماس. ولكن أردوغان كان عليه أن يواجه أيضا جمهوره الداخلي المؤيد للشعب الفلسطيني. وإذا كان هذا الجمهور قد تم ترويضه في الأسابيع الأولى لكنه مع تمادي الهجوم الإسرائيلي بات على مسافة من موقف قيادته. من هنا كان تغيير اردوغان لهجته وتصعيدها استيعاباً لهذا الجمهور وصولاً إلى وصف رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتنياهو بأن التاريخ سيذكره على أنه “جزار غزة”. لكن من دون الذهاب إلى أي إجراءات عملية سواء تجاه اسرائيل أو تجاه الولايات المتحدة، خصوصاً ان الانتخابات البلدية على الأبواب في نهاية آذار المقبل. لنجد أن العداء التركي لإسرائيل والتصعيد اللفظي في الخطاب يهدف إلى عدم خسارة الناخب الإسلامي، على الأقل في الانتخابات البلدية، قبل أن يكون موقفاً داعماً، نظرياً، لغزة.
على الرغم من المواقف المتذبذبة وغير المستقرة لأردوغان تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة بل ربما بسبب هذا التذبذب، فإن تركيا، حتى الآن، خرجت بخفي حنين من رهاناتها على تطور الأوضاع. فلا هي كسبت رضا إسرائيل، وبالتالي الغرب، ولا وقفت جدياً مع الجانب الفلسطيني.
وما لم تطرأ ظروف تستدعي “مساعدة” تركية فإنه يمكن القول إن الدور التركي في أحداث غزة منذ عملية طوفان الأقصى وحتى الآن كان يعادل صفراً وشكل فشلاً ذريعا للسياسة الخارجية التركية في الشرق الأوسط.
باحث في الشأن التركي