شورش درويش
كانت أولى كلمات الشكر التي تفوّهت بها حركة حماس إثر تنفيذها عملية السابع من أكتوبر هو الثناء والشكر للجمهورية الإسلامية الإيرانية. بدا الأمر فجّاً حتى درجة بعيدة، ذلك أن تصرف الحركة هذا لا يعكس فقط العلاقة المشيمية أو المصالح المتبادلة بينها وبين إيران، بقدر ما يعكس رغبتها في أن تهب إيران لنجدتها عبر أذرعها في المنطقة وتخفيف وطأة العقاب الإسرائيلي المتوقّع. لكنّ إيران بدت حذرة حتى درجة التفكير مرّتين قبل الشروع في حرب مفتوحة في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائهما الغربيين. ورغم ما تشهده جبهة حزب الله مع إسرائيل من مناوشات يومية، وعمليات تضطلع بها المليشيات العراقية الولائية من استهداف للقواعد الأميركية في العراق وسوريا واستعدادٍ وإسناد بعيد تبديه حركة أنصار الله في اليمن، فإن كثافة الإشغال الإيراني لا تعني سوى تعديل طفيف على قواعد الاشتباك الإيرانية – الأميركية والإسرائيلية في المنطقة.
التصعيد يرفع الحرج عن طهران
حتى اللحظة، نجحت تحركات إدارة جو بايدن السريعة، عبر التضامن المعنوي والعسكريّ المفتوح مع تل أبيب، في تطويق نسبيّ للحرب التي يراد حصرها في قطاع غزة ووقف امتداداتها الإقليمية. زيارة بايدن العاجلة إلى تل أبيب قدّمت التضامن المعنويّ اللازم لإرساء صورة التعاون والتحالف المتين بين واشنطن وتل أبيب. فالزيارة هي الأولى لرئيس أميركي يدخل منطقة حرب لا يسيطر عليها جيش الولايات المتحدة منذ فترة حكم الرئيس إبراهام لينكولن. كجزء من إجراءات تطويق نطاق الحرب وإظهار الدعم لإسرائيل، سارعت واشنطن إلى تدعيم تواجدها في المتوسط عبر إرسال حاملة الطائرات «يو إس إس أيزنهاور» لتنضم إلى الحاملة «جيرالد فورد» التي سبق وأن تم نشرها في المنطقة في أعقاب هجوم «حماس»، فضلاً عن تزويد الجيش الإسرائيلي بمجموعة من الأسلحة فائقة الدقة. رفعت واشنطن كذلك من جاهزية قواتها المتواجدة برّياً في المنطقة، ودخلت في مرحلة التحوّط والاستعداد لتلقي هجمات صاروخية وعبر المسيّرات على قواعدها في سوريا والعراق.
التصريحات الأميركية التي تدعو لضبط إيراني للنفس، وما يقابلها من إشارات إيرانية تعكس عدم رغبتها في الانخراط في الحرب إلّا في حال تعرّض أمنها للخطر، لا تعكس حقيقة الموقف على الأرض، إذ تبقى مخاوف التصعيد وتوسع نطاق الحرب قائمة. وبالتالي، فإن أي جنوح نحو حرب مفتوحة سيعني إعادة رسم نظام إقليمي جديد لا يمكن التنبؤ بطبيعته أو بالجهة المنتصرة فيه. على أيّ حال، إن ما تقوم به الجماعات المدعومة من إيران في المنطقة لا يرقى إلى مستوى التصعيد المباشر، ويدخل ضمن سياسة الاحتواء التي تجيدها طهران. فالأولوية الإيرانية في هذه الأثناء هي الإيحاء بحرب إقليمية، فيما الغاية الأساسية تكمن في الحفاظ على ما سيتبقّى من حركة حماس. ولأجل ذلك، تقوم طهران باتباع طريقين: دبلوماسي يعبّر عنه النشاط المحموم لوزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان للضغط على واشنطن لتضغط بدورها على تل أبيب لوضع حدّ للخطط المتوقعة بشن حرب برية على قطاع غزة، فيما يتمثل الطريق الثاني المكمّل بشن هجمات إشغال ورسائل عسكرية على القواعد الأمريكية في العراق وسوريا.
ومن بين تلك الرسائل، تعرضت القوات الأميركية في العراق لهجماتٍ على قاعدة عين الأسد غرب الأنبار وقاعدة حرير الجوية بالقرب من هولير/أربيل، فيما اللافت هو إظهار شكلٍ للوحدة التنظيمية للمليشيات العراقية التي كانت تعمل تحت مسميات مختلفة وباتت تحظى على عنوان أكثر شمولاً بمسمى «المقاومة الإسلامية في العراق» والتي ارتبط بعض جهدها باستهداف قاعدة التنف وكونيكو وحقل العمر والقاعدة الأميركية بالقرب من ديريك بسوريا، فضلاً عن انتشار مكثف لمليشيات إيرانية تتبع لحزب الله اللبناني على الحدود مع الجولان. يمكن وصف العمليات التي تقوم بها الأذرع الإيرانية التابعة لـ«فيلق القدس»، فوق أنها رسائل إيرانية تصل للبريد العسكري الأميركي في المنطقة، بأنها معارك متقدّمة للدفاع عن إيران نفسها ونطاق نفوذها في سوريا والعراق وكذلك لبنان.
ويبقى الجنوب اللبناني، الذي يشهد حركة استهدافات ضيقة النطاق لا ترقى إلى مستوى الحرب المفتوحة التي لوّح بها حزب الله عبر شعار «وحدة الساحات»، الساحة الأشد التصاقاً بما يجري في إسرائيل. لكن الحسابات الاستراتيجية الدقيقة لإيران ستحول دون إقحام حزب الله في حرب مفتوحة قد تكون مدمّرة ومنذرة بحرب إقليمية تضعف الحزب الذي يوصف بأنه «درّة تاج» الإمبريالية الإيرانية في المنطقة. وإذا كان سيناريو دخول حزب الله الحرب مؤذياً لإسرائيل بالنظر إلى عوامل الخبرة العسكرية التي تنامت منذ حرب 2006 ومراكمة عشرات آلاف الصواريخ التي يحتكم عليها الحزب، فإن احتمال دخول الولايات المتحدة، وحتى ألمانيا، الحرب وارد. وكل ذلك ضمن بيئة سياسية واجتماعية واقتصادية هشّة ومتآكلة في بلد ضعيف كلبنان لن يؤدي إلّا لخسارة إيران لمزيد من نفوذها على سواحل المتوسط.
الكلفة المحتملة على إيران
مكّنت الحرب في غزة من تعطيل مساعي الولايات المتحدة في إرساء تطبيع بين السعودية وإسرائيل إلى حدٍ بعيد. تطلعات واشنطن في تشكيل محور إقليمي جديد كان من شأنه التصدّي لتمدد إيران في المنطقة والتخفيف تالياً من ثقل الحضور الأميركي في الشرق الأوسط بما يؤمن لها مساحة أوسع لمجابهة الصين والتركيز على ما يجري في أوكرانيا. لكن هذا التعطيل بات مرتبطاً بطول أمد الحرب الإسرائيلية على غزة وردود الفعل العربية على ذلك، فوق أن التطبيع سيبقى معلّقاً على الشرط العربي (السعودي) بإعادة إحياء عملية السلام على قاعدة حل الدولتين، الأمر الذي سيخرج حركة حماس بشكل نهائي عن مدار المفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية حال توفر ظروفها الذاتية والموضوعية.
في المقابل، أدركت إسرائيل أن الحرب في غزة قد تربك مراقبتها الحثيثة لما يجري في سوريا ولبنان. لذا، بادرت إلى قصف متزامن لمطاري حلب ودمشق وإخراجهما عن الخدمة تحوّطاً من نقل أسلحة ومقاتلين عبرهما. لكن درجة انتشار المليشيات التابعة لإيران في سوريا لم يعد بالإمكان ضبطه في ظل هشاشة الحالة الأمنية على الحدود السورية العراقية وتغوّل إيران داخل سوريا وفي مرافقها الحدودية مع العراق ولبنان والمناطق المحاذية للجولان، وهو ما يعني احتمال رفع التصعيد الإسرائيلي داخل الأراضي السورية وزيادة وتيرة القصف الجوي واستهداف أنشطة إيران، ما قد يضعف نظام الأسد إذا لم يتمكّن من إيقاف النفوذ الإيراني عند حدود معيّنة. وربما يؤدّي ذلك إلى تنبّه دمشق إلى كلفة الانخراط في أنشطة طهران وقد يرتبك التحالف بينهما.
ثمة كلفة أخرى ستتكبّدها إيران إذا ما استمرت في دعمها المعلن لـ«حماس». فواشنطن وبروكسل باتتا قاب قوسين من إصدار قرارٍ يفرض عقوبات على الدول والكيانات المموّلة للحركة وتعقّب الأنشطة المالية المرتبطة بها بما في ذلك العملات المشفّرة. فبعيد عملية 7 أكتوبر، جرى توجيه النقد الحاد لسياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو المتساهلة مع التمويلات القطرية والإيرانية للحركة وسياسة غض الطرف عن «حقائب الدولارات» الوافدة لها. فإذا كان من السهل انسحاب المموّل القطري من المشهد، فإن توقّف إيران، كثاني ممول للحركة، يبدو صعباً، لكنه سيخضع لمراقبة غربية وإسرائيلية لصيقة على ما تحويه سياسة التمويل من مغامرة تستوجب عقوبات قاسية لا تنقص الإيرانيين.
من شأن انخراط حزب الله في حرب مفتوحة، غير حرب الرشقات الصاروخية المحدودة الحالية، أن يلحق الأذى الفادح بإسرائيل وينقل دائرة الحرب من حربٍ موضعية إلى إقليمية. لكن إقحام الحزب قد يطوّر مفاهيم أميركية لمجابهته خاصة أن أطرافاً وسطية كفرنسا شدّدت على نأي لبنان الرسمي وحزب الله عن ما يجري في غزة. ففي نهاية المطاف، ستلتزم الدول الغربية بما ستقرره واشنطن من مقاربات لمجابهة حزب الله.
في المجمل، أمام إيران مساحة ضيّقة للمناورة والإشغال والتلويح بالحرب المفتوحة. فهي تقف أمام مفاضلة موجعة مفادها: القبول بانهيار حركة حماس كقطعة من أحجيةٍ تكمل لوحة سيطرتها ونفوذها في المنطقة، أو الدفع باتجاه خسارة المزيد من قطعها المتمّمة على ما تحويه مثل هذه المغامرة من إيذاءٍ متبادل. وبالتالي، فإن بلوغ الحرب الإقليمية سيبدّل من أولويات إيران ومن شعاراتها بحيث تنتقل ظهران من شعار «تحرير فلسطين» إلى «حماية الجمهورية الإسلامية في إيران»، وهو ما يتطلّب ضبطاً واسعاً للنفس والكثير من الحظ لئلا تخرج قواعد الاشتباك عن مسارها.