طوت أذربيجان مؤخّراً بدعم مباشر من تركيا ومباركة روسية وغربية ملف إقليم ناغورني كراباخ، أحد أطول الصراعات العالمية، بعد نحو 30 عاماً من إعلان سكّانها الأرمن الاستقلال ضمن حدود «جمهورية أرتساخ» التي لم تحظ باعتراف دولي.
بعد الانتصار الأذربيجاني-التركي في كراباخ، اتّجهت الأنظار إلى العلاقات الروسية-الأرمينية الهشّة، بعد قرنين من التحالف المتين، بالتزامن مع تهديدات أذربيجانية طالت هذه المرة حدود جمهورية أرمينيا، تحت مسمّى «ممر نانكيزور».
تتنامى حاجة روسيا لأذربيجان تحت تداعيات الحرب في أوكرانيا والتي تبدو طويلة الأمد خلافاً للتوقّعات الأولية بالحسم السريع والمباغت. بعد انتصارها في حرب ناغورني كراباخ، ترى أذربيجان الفرصة سانحة لانتزاع المزيد من التنازلات من أرمينيا وفرض مطالبها، مستغلة حرص روسيا على خفض التوترات الجيوسياسية على طول حدودها الجنوبية.
بالإضافة إلى عامل تركيز روسيا على حربها في أوكرانيا وتفاديها الانشغال بأي بقعة أخرى، حالياً على الأقل، فإن باكو تدرك بأن دورها الجيوسياسي المتنامي يشكّل عاملاً حاسماً آخر وراء تغير موقف موسكو من حليف لأرمينيا ضد كل الاستفزازات الأذربيجانية السابقة، إلى وسيط منحاز لها في الحرب الأخيرة، بعد تحوّل باكو لقناة تجارية بالغة الأهمية بالنسبة لروسيا المحاصرة بالعقوبات الغربية، بالإضافة لكونها ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب، الذي يربط روسيا بالصين والهند عبر إيران.
في العمق، فإن العلاقات الروسية-الأذربيجانية تشهد تطوراً ملحوظاً منذ عام 2011. إذ أشار تقرير صادر عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام إلى احتلال أذربيجان المركز الثاني بين أكثر الدول استيراداً للسلاح بين عامي 2010-2015، مبيّنة أن 85 في المئة من السلاح المستورد من قبل باكو كان روسيّاً.
واستمرت اتفاقيات التسليح بالعمل بين الجانبين في عامي 2016-2017، حينما وافقت روسيا على تزويد أذربيجان بدبابات من نوع «تي 90» وصواريخ بعيدة المدى وأنظمة دفاع جوي، وصولاً إلى التوقيع على اتّفاقية التحالف الاستراتيجي بين موسكو وباكو في فبراير/شباط 2022، قبل ساعات من إعلان الحرب على أوكرانيا.
ساهمت أذربيجان، خلال الحرب الأوكرانية إلى جانب حليفتها تركيا، في تخفيف تأثير العقوبات الغربية على روسيا، ما زاد من حرص موسكو على الحفاظ على صداقة باكو من جهة، وعدم تعريض علاقات الرئيس فلاديمير بوتين الشخصية مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للخطر من جهة أخرى.
أما تركياً، فبالإضافة إلى البعد العرقي والقومي الذي يمثله الأذريون، أضيف في عهد الرئيس أردوغان بعد اقتصادي للعلاقة الأذربيجانية-التركية من خلال استحواذ خمس شركات موالية لأردوغان على مشاريع بناء وبنية تحتية ضخمة داخل أذربيجان، ما ساهم بشكل أو بآخر في تمويل حملاته الدعائية والانتخابية وإنقاذه في ظل الضائقة الاقتصادية الداخلية.
كما أن دعم المرشح الرئاسي سنان أوغان له في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، والمعروف بقربه من الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، لعب دوراً في ضمان فوز أردوغان على منافسه.
وباعتبارها بلداً مصدّراً للطاقة، فإن أذربيجان دولة مهمّة بالنسبة للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أيضاً. تولي واشنطن أهمية كبيرة لأذربيجان في معادلة القوقاز، وهي التي تسعى إلى إخراج الثلاثي القوقازي: أذربيجان وأرمينيا وجورجيا من دائرة النفوذ الروسي. ومع استمرار الحرب الروسية في أوكرانيا والعقوبات على موارد الطاقة الروسية، فإن أذربيجان مهمة للاتحاد الأوروبي كمصدر للطاقة الأذربيجانية وحتى الروسية المكررة أو تلك العابرة إلى دول الاتحاد عبر باكو.
تعتبر المشتريات العسكرية الأذربيجانية عاملاً مهمّاً أيضاً، وهي التي طوّرت علاقاتها مع إسرائيل على حساب إثارة غضب إيران، وهي شراكة مهمة للغاية ليس بالنسبة إلى إسرائيل فقط بل ولواشنطن والعديد من الدول الأوربية أيضاً.
أدت طفرة الغاز والنفط في أذربيجان إلى تعزيز نموها الاقتصادي، وتمويل حملة تسلّحها، التي تحتل تل أبيب إلى جانب موسكو وأنقرة ولندن مكانة متقدّمة فيها، كأحد أهم مصدّري التكنولوجيا العسكرية إلى باكو.
إذاً، بما أن طريق الوصول الوحيد لروسيا إلى تركيا وإيران (الشرق الأوسط وآسيا) يمر الآن عبر أذربيجان، بسبب تطوّرات الحرب في أوكرانيا، فإن اعتماد موسكو على أذربيجان سيستمر في التزايد. تدرك أذربيجان هذه الحقيقة، وتحاول الحصول على أكبر قدر من المكاسب في المنطقة والتنازلات من أرمينيا مع ضمان صمت روسيا وعدم التدخّل لصالح حليفتها التقليدية.
وبينما تنأى أرمينيا بنفسها عن روسيا بسبب شكوكها في إمكانية ضمان الأخيرة لأمنها القومي، فإن تركيز موسكو الأساسي في هذه المرحلة ينصب في منع الأطراف الغربية من اختراق القوقاز التي تعتبرها روسيا حديقتها الخلفية ومجال نفوذها الضامن لأمنها القومي.
بعد ثورة شعبية أوصلت نيكول باشينيان إلى السلطة عام 2018، بدأت المظلة الأمنية الروسية لأرمينيا بالتراجع رويداً رويداً. أعتبرت موسكو ما حصل في أرمينيا من وصول شخصية سياسية إلى الحكم من دون مباركة روسية تحوّلاً مشابهاً لما حصل في جورجيا ساكاشفيلي وأوكرانيا زيلينسكي، مشككةً في نوايا باشينيان، الذي بدى مصرّاً على تنويع تحالفات بلاده، وسط مخاوف حملة التسليح الروسية لأذربيجان.
مع ذلك، حرصت يريفان على البقاء في مدار روسيا السياسي، إذ أيّدت كل ما يرضي موسكو في المحافل الدولية وعارضت ما يزعجها. كما أنّها الوحيدة التي قامت بإرسال وحدة عسكرية، وإن كانت بمهام إنسانية لنزع الالغام وتقديم الخدمات الطبّية، إلى سوريا على خلاف حلفاء موسكو الآخرين.
بعد حرب الـ44 يوماً في عام 2020 والخسارة التي مني بها الأرمن والمتمثّلة بفقدان ثلثي أراضي الإقليم بالإضافة إلى آلاف الضحايا والمفقودين من مدنيين وعسكريين، بدأت الأصوات في أرمينيا تتعالى محذّرة من الإفراط في الاعتماد على الضمانات الروسية.
ومع سيطرة أذربيجان على ممر لاتشين الاستراتيجي الذي يعتبر شريان الحياة بين الإقليم وأرمينيا في ديسمبر/كانون الأول 2022، خلافاً لاتّفاق وقف إطلاق النار الموقعّ في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، وعدم تحرّك قوات حفظ السلام الروسية والقيام بالمهمّة الملقاة على عاتقها، بحسب الاتفاق، ترسّخت القناعة لدى باشينيان بخطورة الاعتماد على روسيا وحدها لضمان الأمن القومي الأرميني.
أقدمت يريفان على عدد من الخطوات التي اعتبرتها موسكو مناكفة من قبلها، منها التدريبات المشتركة مع القوات الأميركية على مهام حفظ السلام مقابل رفض المشاركة في مناورات لمعاهدة الأمن الجماعي، واصطحاب زوجة باشينيان مساعدات إنسانية معها في زيارتها إلى أوكرانيا، ما دقّ ناقوس خطر انهيار العلاقات الروسية-الأرمينية، وسط مخاوف أرمينية من رغبة الكرملين في تغيير نظام الحكم باستغلال هزيمة ناغورني كراباخ.
قبل باشينيان، توالى على قيادة أرمينيا أربعة رؤوساء كان جلّهم من مواليد ناغورني كاراباخ أو الفاعلين في النضال السياسي والعسكري لاستعادته، وعرفوا بتبعيّتهم للرئيس الروسي إلى حدٍ كبير.
وعلى الرغم من ملفّات الفساد المتراكمة بحقّهم هم وعائلاتهم وأقربائهم على مدى العقود الثلاثة لاستقلال أرمينيا، إلا أن نجاحهم في الحفاظ على «جمهورية ارتساخ المستقلّة» شكّل أحد أهم أدوات بقائهم في السلطة، إلى حين وصول باشينيان إلى الحكم وإطاحته بالحرس القديم، بالإضافة إلى تغييره نظام الحكم في البلاد من الرئاسي إلى البرلماني.
الآن مع خسارة الإقليم، فإن احتمال وصول رئيس للوزراء في أرمينيا من الرموز القديمة الموالية لموسكو يبدو أكثر ضعفاً من أي وقت مضى، نتيجة سقوط معادلة «الفساد مقابل الاحتفاظ بجمهورية أرتساخ».
مع ذلك، لا يزال على أرمينيا التحرّك بحذر لتجنب توتر علاقاتها مع موسكو. من بين الأوراق المهمّة التي تمتلكها روسيا في وجه أرمينيا، ارتفاع التجارة الثنائية بين البلدين في عام 2022 إلى 5.3 مليار دولار، أي ما يقرب من ضعف ما كانت عليه في 2021 لتشكّل 37.5 في المئة من إجمالي حجم تجارة أرمينيا البالغ 14.1 مليار دولار. كما وأنه حتى وإن لم ترق روسيا إلى مستوى دورها كضامن لأمن أرمينيا منذ حرب 2020 في ناغورني كراباخ، فإن قاعدتها العسكرية في غومري تظل مركزية في عملية الدفاع عن حدود وسيادة أرمينيا.
في المقابل، لدى يريفان أيضاً أوراقاً قد تفيدها في عملية التفاوض الصامت مع موسكو. تمثّل أرمينيا ممراً حيوياً لإعادة تصدير البضائع الروسية الخاضعة لعقوبات الاتحاد الأوروبي. كما أن خسارة أرمينيا تعني بالنسبة إلى موسكو تقلّص نفوذها في جنوب القوقاز على حساب تعاظم النفوذ التركي الآخذ بالاتّساع يوماً بعد يوم.
مع انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا، ينشأ فراغ جيوسياسي في جنوب القوقاز تشغله تركيا بشكلٍ واضح وسط محاولات إيرانية غير مكتملة وأخرى صينية حديثة العهد، إذ وقّعت بكين اتفاقية شراكة استراتيجية مع جورجيا أواخر يوليو/تموز الماضي.
لقد لبّت أرمينيا كل المطالب الروسية طوال السنوات الثلاثين الماضية، بما في ذلك وقف جهودها نحو التكامل الأوروبي في عام 2013 بعد أن أعربت موسكو عن استيائها. في المقابل، عملت روسيا على استمالة أذربيجان مع ابقاء أرمينيا إلى جانبها، وهو ما فشلت في تحقيقه.
يحذّر محللون وأكاديميون أرمن من أن أي صدع بين أرمينيا وروسيا لن يكون في مصلحة الأمن القومي الأرميني، مشددين على ضرورة قيام يريفان بالتنسيق مع الجهات الدولية الأخرى وتعبئة المجتمع الدولي لمواجهة المخاطر التي قد تنشأ نتيجة تزايد الحاجة الروسية لباكو وحليفتها بالتزامن مع استمرار الحرب الأوكرانية.
عاودت أذربيجان المنتشية بانتصارها والضامنة للصمت الروسي الحديث عن حقوقها التاريخية في منطقة سيونيك جنوب أرمينيا المحاذي للحدود الإيرانية عبر المطالبة بفتح «ممر زانكيزور» الذي يربط باكو بإقليم ناخيتشيفان المتمتّع بالحكم الذاتي ومنه إلى تركيا، في إحياء للطريق الطوراني الذي يربط تركيا بالجمهوريات السوفيتية للشعوب المتحدرة من العرق التركي.
وعلى الرغم من عدم معارضة يريفان لفتح الطريق المذكور لمكاسبه الاقتصادية في نقل البضائع والطاقة من أذربيجان إلى أوروبا، إلا أن الخلاف الأساسي بين الطرفين يكمن في اصرار أذربيجان بدعمٍ تركي على إلغاء السيادة الأرمينية على الممر الذي يخترق أراضيها، مقابل تمسّك أرمينيا بحقوقها الشرعية في الإشراف على الطريق مع ضمان انسيابية حركة الأفراد والمواد عبره.
في المقابل، ترى موسكو في الطريق فرصة للتمركز في جنوب القوقاز بعد تراجع نفوذها في المنطقة، خاصةً مع تصاعد احتمالات عدم تجديد مهمة قوّاتها لحفظ السلام في منطقة ناغورني كراباخ، والتي تنتهي عام 2025، لانتفاء سبب وجودها. لذا، فهي تسعى إلى وضع الطريق تحت سيطرتها كحل وسط بين مطالب باكو وموقف يريفان.
أما طهران، فهي الجهة الإقليمية الوحيدة التي تصرّ على رفضها لمشروع «ممر زانكيزور» الذي سيكون بديلاً عن طرق المواصلات بين آسيا وأوربا عبر أذربيجان وتركيا من جهة، ومساراً لشد العصب القومي التركي في تهديد لأمنها الداخلي مع وجود ما يقارب من 25 مليون أذري بين مواطنيها.
في أسوء السيناريوهات تخيّلاً، لا يبدو وجود عوائق حقيقية أمام باكو اليوم في استكمال مسيرتها العسكرية باتجاه إجبار أرمينيا بقبول تسليمها الممر المذكور كأمر واقع، ومن ثم تقاسم الإشراف عليها مع كل من موسكو وأنقرة. وعلى الرغم من التحذيرات الإيرانية المتكررة من المساس بـ«الحدود التاريخية التي تربطها مع أرمينيا»، إلا أن دخول طهران في حرب مع حلفائها الإقليميين في كل من أنقرة وموسكو يبقى احتمالاً أقرب إلى الصفر.
ويبقى الأمل الأرميني الوحيد في الظروف الراهنة، أمام السيناريو المذكور، التعويل على معاهدة الأمن الجماعي التي تقودها موسكو للحفاظ على أمن حدودها وسلامتها من أي خطوة أذربيجانية تصعيدية، تساعدها في ذلك المواقف الإيرانية الثابتة حتى الساعة.
لذا، فإن السيناريو الأكثر رواجاً اليوم هو حفاظ أرمينيا على تحالفها مع روسيا والبقاء قي إطار معاهدة منظمة الأمن الجماعي إلى حين انقضاء التهديدات على وحدة أراضيها وسيادتها على المنطقة الحدودية مع إيران على الأقل، مع تنويع تحالفاتها شرقاً مع إيران والهند، فيما لا يزال طريق الاتّساق مع المحور الغربي طويلاً ومحفوفاً بالمخاطر، خاصةً أنه يمرّ عبر تركيا حصراً.