نظرة كمّية إلى الأزمات

محمد سيد رصاص

يستغرب الكثير من السوريين العمر الزمني للأزمة السورية والذي يروه طويلاً، إذ يقترب من دزينةٍ من الأعوام مع بدئها في شهر مارس/آذار 2011. وعلى الأرجح أن هذا الاستغراب ناتجٌ من الضيق بالأزمة التي ولدت نزوحاً وهجرةً وتدميراً للبنية التحتية ومئات آلاف القتلى وأزمة اقتصادية- معيشية خانقة، وليس ناتجاً عن شيءٍ آخر، إذ أن طول الأزمة السورية الزمني لا يمثل ظاهرةً فريدة، بل هناك أزمات طالت أكثر منها، وبعضها يقارب نصف قرنٍ من الزمن مثل الأزمة القبرصية التي اندلعت في صيف 1974، ولم تحل بعد.

يمكن تقديم أمثلةٍ على مجموعةٍ من الأزمات من حيث أعمارها الزمنية، مثل الأزمة التي قسّمت انكلترا بعد ثورة البرلمان ضد سلطة الملك تشارلز الأول المطلقة واستغرقت سبعة أعوام انطلاقاً من 1642 وتمظهرت على شكل حربٍ أهلية بين قوات أنصار الملك في أوكسفورد وقوات أنصار البرلمان في لندن، ثم انتهت بقطع رأس الملك وانتصار البرلمانيين. أي أنها كانت أزمة نتجت عن ثورة واتخذت شكل الحرب الأهلية. انتهت الأزمة، التي هي استعصاءٌ توازني بين طرفين متصارعين،بتغلب أحد طرفي الصراع على الآخر، فيما كان استمرار الأزمة بالزمن الذي تطلبته ناتجاً عن توازن قوى بين الطرفين منع تغلب أحدهما على الآخر خلال ذلك الزمن. وفي خلاله، لم يميلا لتسوية الأزمة بينهما بل لاستمرار الصراع. وبذلك، تنتهي الأزمات بالغلبة أو التسوية، فيما تستمر باستعصاءٍ توازني بين طرفي الصراع.

هناك أزمات انتهت بانتصار أحد الطرفين، مثل الأزمة الروسية التي اتخذت شكل حربٍ أهلية بين 1917 و1920 بين البلاشفة الحمر وخصومهم البيض عقب ثورة أوكتوبر، وانتهت بانتصار الحمر. وكذلك، بلغت مدة الأزمة الإسبانية ثلاثة أعوام واتخذت شكل حربٍ أهلية بين الجمهوريين والملكيين بين عامي 1936 و1939. لكن الحرب الأهلية هنا لم تنبع من ثورة، كما جرى في انكلترا وروسيا، بل من حركة تمردٍ لقوات عسكرية بقيادة الجنرال فرانكو ضد الحكومة الجمهورية، وانتهت بانتصار الملكيين.
لم تتجاوز هذه الأزمات الثلاث العقد الواحد. لكن هناك أزماتٍ أخذت زمناً متجاوزاً للعشرية الواحدة من الأعوام، مثل لبنان بين 1975 و1990 وأنغولا بين 1976 و1992 وكمبوديا بين 1979 و1993. وانتهت الأزمات الثلاث، التي تمظهرت في شكل حربٍ أهلية والتي هي وفق تعريف تروتسكي تجزئة السلطة بين مركزين أوأكثر، بتسويةٍ بين طرفي الصراع أو أطرافه. في أزمتين مما يسمى الربيع العربي، هناك تجاوز للعشرية الواحدة من الأعوام في ليبيا، منذ ما بين أغسطس/آب وأكتوبر/تشرين الأول 2011 تاريخ سقوط نظام معمر القذافي، واليمن منذ تنحي الرئيس علي عبدالله صالح في فبراير/شباط2012. وتمظهرت الأزمتين أيضاً في حربٍ أهلية بين مركزين متنازعين للسلطة، تبلورا منذ 2014 بالحالتين الليبية واليمنية. ولم تستطع أطراف الأزمتين إنتاج تسويةٍ، ولم يتغلب أي منهما على الآخر.

إن ابتعدنا عن الإحصاء الزمني لعمر الأزمات، يمكننا الاتجاه نحو إحصاء عدد المتدخلين الخارجيين فيها. في انكلترا، دعمت فرنسا الملكيين. ولجأ أبناء الملك تشارلز الأول بعد إعدام والدهم إلى باريس واستقروا فيها حتى استعادت الملكية الحكم في 1660. وفي الحرب الأهلية الروسية، دعمت بريطانيا وفرنسا أعداء البلاشفة. ووقفت ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية إلى جانب الجنرال فرانكو في الحرب الأهلية الإسبانية، فيما دعم الاتحاد السوفييتي إلى جانب الجمهوريين وترددت بريطانيا وفرنسا بالوقوف معهم. فوي لبنان، وقفت منظمة التحرير الفلسطينية إلى جانب اليسار اللبناني الذي تلقى دعماً عراقياً وليبياً وسوفييتياً، وكذلك من سوريا بعد 1978، في حين تدخّلت سوريا عسكرياً في صيف 1976 ضد تحالف منظمة التحرير واليسار اللبناني وإلى جانب اليمين الكتائبي-الشمعوني لتنقلب الأمور بين الطرفين بعد حادثة ثكنة الفياضية في فبراير/شباط 1978 ويتجه اليمين اللبناني إلى إسرائيل. وفي أنغولا، دعمت موسكو وهافانا الحركة الشعبية مقابل تأييد الولايات المتحدة وجنوب افريقيا حركة يونيتا في الجنوب الأنغولي. وفي كمبوديا، دعمت فييتنام والاتحاد السوفياتي الحكومة الكمبودية التي انبثقت عن التدخل العسكري الفييتنامي الذي أسقط حكم الخمير الحمر في يناير/كانون الثاني 1979، فيما دعمت الصين والولايات المتحدة الجبهة المضادة المؤلفة من الخمير الحمر وقوات الملكيين بزعامة الملك نوردوم سيهانوك. وفي ليبيا، هناك متدخّلون خارجيون كثر مثل مصر والإمارات والسعودية وفرنسا وروسيا التي تدعم قوات اللواء خليفة حفتر وحكومة برلمان طبرق في الشرق، في حين تؤيد تركيا والجزائر وايطاليا، وبشكلٍ ما الولايات المتحدة، حكومة طرابلس الغرب. أما في اليمن، يقل عدد المتدخّلين الخارجيين. فبينما تدعم إيران الحوثيين، تقف السعودية والإمارات إلى جانب الحكومة الشرعية، وإن كانت أبوظبي تميل أكثر لتركيز دعمها للجنوبيين. ويمكن القول إن الأزمة اليمنية داخلية- إقليمية من دون أن تملك بُعداً دولياً، إذ أن هناك نأي أميركيٌ وأوروبي وروسي عن الانخراط المباشر في تلك الأزمة. أما الأزمة السورية، فلها ثلاث مسارات: داخلية- إقليمية- دولية، ورابعاً هو المنظمات العابرة للحدود مثل جبهة النصرة، الفرع السوري لتنظيم القاعدة، وتنظيم داعش والمنظمات الشيعية الموالية لإيران من أفغانستان ولبنان والعراق. وتدخّلت دولٌ كثيرة في الأزمة السورية، مثل الولايات المتحدة وروسيا وإيران و تركيا وقطر والسعودية والأردن ، في حين تتدخل إسرائيل لمجابهة ايران وضربها في الأراضي السورية.

باختصار، يمكن للنظرة الكمّية إلى الأزمات أن تفيد في رصد العلاقة بين كثرة المتدخّلين الخارجيين وبين الطول الزمني للأزمة، وهذا يلاحظ في ليبيا وسوريا. إذ أن كثرة المتدخّلين الخارجيين زاد تعقيد الأزمة وحوّلهما إلى ملعبٍ للآخرين، وفق تعبير الإعلامي والدبلوماسي اللبناني غسان تويني عن بلده خلال الحرب الأهلية. طبعاً، لايمثل هذا الأمر قاعدة عامة. ففي الأزمة القبرصية طويلة الأمد، هناك تركيا واليونان فحسب، فضلاً عن الولايات المتحدة من بعيد. وفي اليمن، لا يوجد كذلك أكثر من ثلاث دول متدخّلة. قد يكون عمق الصراع اليوناني-التركي والسعودي-الإيراني أعطى أمداً زمنياً وحِدّةً قوية للأزمتين. وفي الجانب الآخر، كانت هزيمة السوفييت في الحرب الباردة 1947-1989 مفتاحاً للتسويتين الأنغولية والكمبودية، وهذا ما دفع دمشق إلى حدٍ ما للتوافق مع واشنطن بشأن الأزمة اللبنانية في اتفاق الطائف. إن حدة الصراع المصري-التركي في ليبيا يجعل حل أزمتها بعيداً. كما أن دخول واشنطن وموسكو في مواجهةٍ عالمية بعد الحرب الأوكرانية، يجعل حل الأزمة السورية بعيداً ما دام الأميركيون والروس اللاعبون الرئيسيون في سوريا.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد