“داعش” يعتاش على غياب الحل القانوني في شمال شرق سوريا

فرهاد حمي

تفاعلت غالبية مؤسسات الإعلام الغربي مع حادثة هجوم تنظيم داعش على سجن الصناعة في محافظة الحسكة من منطق قدرة التنظيم في إعادة تنشيط نفسه رغم اندحار خلافته المزعمة قبل ثلاث سنوات، الأمر الذي قد يحمل معه مخاطر أمنية مروعة على البيئة الاجتماعية المستهدفة. حيث افردت كبريات الصحف الغربية سلة من التقارير والتحليلات تؤكد على إمكانية عودة داعش مجدداً في ظل سلسلة من الهجمات المتتالية نفذته التنظيم مؤخراً في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط، وهو مؤشراً على هشاشة الحل الأمني في المقام الأول.     

وقد شكلت حادثة هجوم تنظيم داعش على سجن الصناعة في الحسكة حسب ما أوردتها صحيفة وول ستريت جورنال بأنه دليل على مساعي تنظيم داعش إلى ترتيب صفوفه والمحاولة لاستعادة خلافته المزعومة في كل من العراق وسوريا، كما نقلت الصحيفة على لسان شهود عيان في شمال شرق سوريا بأنه شوهدت رايات سوداء تعود لتنظيم داعش في عدة مناطق بشمال وشرق سوريا، فضلاً على أن عناصر من التنظيم قاموا بابتزاز أصحاب المتاجر وسائقي الشاحنات خلال الفترات السابقة. وفي غضون العام الماضي قتل المتطرفون عشرات الأشخاص عبر تصفيتهم أو من خلال تفجيرات انتحارية. جميع هذه الأعمال الدموية لم يتم أخذها على محمل الجد.

عدم أخذ المخاطر على محمل الجد من قبل الدول المعنية، تطابق مع تقرير نشرته أيضاً صحيفة وورلد بوليتكس ريفيو، عندما أشارت بأن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ودول الساحل الخمسة التي تضمّ بوركينا فاسو ومالي والنيجر وموريتانيا وتشاد، اجتمعت الأسبوع الماضي لمناقشة المخاوف الأمنية في منطقة الساحل، بما في ذلك مالي وبوركينا فاسو، لكنها لم يتم التطرق إلى هروب عناصر تنظيم داعش في سوريا. وحثت الصحيفة بأنه حان الوقت لإدراك ترابط التطورات المحلية أو الإقليمية بالأنماط العالمية. ومن دون تبني هذا المفهوم أو الرؤية، ستكون أي خطة لمحاربة عودة ظهور تنظيم داعش غير مكتملة ومنقوصة.

وبالعودة إلى حيثيات هجوم داعش على سجن الصناعة في الحسكة، فقد شن نحو ٢٠٠ عنصر من تنظيم داعش الأسبوع الماضي بينهم انتحاريين هجوماً على سجن يضم الآلاف من أعضاء التنظيم في سوريا. حيث سعى التنظيم الذي كان بعض من عناصره يتمركزون في الأحياء السكنية بمحيط السجن لتحرير عناصره وتأمين ممر آمن عبر هذه الأحياء. ولتكتمل الخطة المدبرة، قام السجناء باستعصاء داخل السجن وتمكنوا من السيطرة على السجن.

مما لا شك فيه، بأن هجوم التنظيم الأخير على السجن المذكور، يكشف على قدرته المتنامية وأنه لا يزال يشكل مصدر تهديد في العراق وسوريا، فضلاً عما يشكله من خطر على نحو 900 جندي أمريكي منتشرين في المنطقة. كما يظهر هذا الهجوم حسب صحيفة وول ستريت جورنال قدرة داعش على التكيف والاستمرار، خاصة بعد أن تم القضاء على خلافته في سوريا والعراق والتي تُقدّر مساحتها بحجم بريطانيا. فبعد توقف عمليات تنظيم داعش أواخر العام الماضي، توقعت وكالة الإستخبارات الأمريكية أن التنظيم سيزداد نشاطه ويشن عمليات عنيفة بعد فترة من « التعافي وترتيب الصفوف» وهو ما أكدته أيضاً مصادر قريبة من قوات سوريا الديمقراطية. وقد علق غريغوري ووترز، محلل أبحاث في معهد مشروع مكافحة التطرف على هذه الحادثة بأنه:« لم يتم القضاء على تنظيم داعش بل إزداد قوة عما كان عليه سابقاً ».

وفقاً لمسؤولين أمنيين محليين وغربيين، فإن عودة التنظيم إلى سابق عهده وقوته شبه مستحيلة خاصة في ظل تطور قدرة قوات الأمن الإقليمية منذ عام 2014 ، لكن هذه المقاربة الأمنية تغفل في حقيقة الأمر معطيات أخرى. فمنذ انتهاء المعارك العسكرية في بلدة الباغوز، والتي كانت آخر معاقل تنظيم “الدولة الإسلامية” في شمال شرق سوريا، تحولت استراتيجية مكافحة الإرهاب من قبل التحالف الدولي وقوات سوريا الديمقراطية إلى تعزيز الحلِّ الأمني بغرض استئصال الخلايا النائمة. مؤكداً، ثمّة تناقضٌ ما بين آلية الحلّ الأمني في تعقيب الخلايا النائمة، والظهور المفاجئ، بالتوازي مع مشكلة معالجة المحتجزين في المخيمات والسجون وفق أرضيةٍ قانونيةٍ موازية. إذ إنّ غياب الحلّ القانوني إلى هذه اللحظة يفتح ثغرةً قاتلةً في مسار استراتيجية مكافحة الإرهاب، وتالياً، إمكانية إعادة تعويم هذا الخطر العالمي ذاته، سيكون خياراً قائماً وبقوة، وهو ما تجلى في الأحداث الأخيرة في الحسكة.

تشدد الاستخباراتية الغربية في عملية مطاردة الإرهاب، بوجوب وضع الخطط الأمنية وتحسين قدرات الوحدات الأمنية والتقنيات العسكرية المطلوبة على المستوى المحلي. ومن شأن ذلك وفق هذه الرؤية، احتواء ما يسمى “الخلايا النائمة” في شمال شرق سوريا. فضلاً عن أنّ العقل المخابراتي يحصر دائرة نشاطه غالباً في جمع المعلومات والمراقبة والرصد والمطاردة والمواجهات المباغتة، ومن ثم التحييد وإحالة المتهمين إلى السجون والمخيمات، وهنا تنتهي مساحة الحلّ الأمني في العُرف السائد، وتبدأ مساحة البُعد القانوني.

ونظراً أنّ تنفيذ القانون يحتاج إلى الشرعية الدولية المتعارف عليها بهدف رسم مشروعية تنفيذ تلك القوانين على نطاقٍ جغرافيٍ ما، فإن غياب هذا العنصر الحيوي في شمال شرق سوريا، يعقّد مهمة معالجة ملف داعش، وهنا يظهر حجم الفراغ والمأزق المستعصي، بغية إزالة خطر الإرهاب بصورةٍ جوهريةٍ وفق رؤية قوات سوريا الديمقراطية.

يقدّم التحالف الدولي صيغته الأمنية في شمال شرق سوريا بغرض مواجهة ظاهرة “داعش” وآثارها المتبقية على حوامل الحلّ الأمني المؤقت، والذي يتعامل مع هذه الظاهرة العالمية الخطرة في النطاق المباشر والضيق، ومن ثم تتوقف مساحاته داخل نطاق السيطرة والخضوع تلك الجماعات وتحويلهم إلى السجون والمخيمات دون التوسيع من نطاق مسؤولياتهم الأخلاقية والقانونية والمادية التي تتبع هذه الخطوة، وهذه المقاربة في حقيقة الأمر لا تنطوي على الاستدامة والحلول الثابتة لمعالجة هذا الملف الذي يتوقف في نهاية المطاف على الحلّ القانوني، لا سيما قضية المقاتلين الأجانب وأُسرِهم في المخيمات.

بدورها، اقترحت إدارة شمال شرق سوريا العديد من النماذج القانونية لحلّ معضلة المقاتلين الأجانب وعوائلهم أمام الجهات الدولية المعنية، من بينها ضرورة تشكيل محكمةٍ دوليةٍ في شمال شرق سوريا، تكون تحت إشراف الرقابة القانونية الدولية على غرار محاكمة نورنبرغ ضدّ النازية، وفي حال لم يلقَ هذا المقترح ترحيباً من قبل المجتمع الدولي، فإن الإدارة طالبت بوجوب تعامل كل دولةٍ على حدة مع مواطنيها وفق قوانينها المحلية. وبالتوازي، ناشدت الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية بضرورة توفير بنية شرعية قانونية متماسكة لهذه المنطقة من أجل معالجة ملف “داعش” من خلال إحداث القوانين المحلية بغرض احتواء هذا الملف الشائك، غير أنّ تنصّل الدول الأوروبية من تحمل مسؤوليتها القانونية في هذا الشأن إلى هذه اللحظة، قد تسبب بأضرارٍ بالغةٍ في استراتيجية الحرب على الإرهاب في شمال شرق سوريا، وهذا التردد السائد من قبل الدول الأوروبية، قد يقدم مساحاتٍ زمنيةً لإعادة تنشيط تنظيم الإرهاب ذاته بصورة جديدة وبتكتيكات متنوّعة، وتنشط آمال النظام السوري والايراني والتركي في خلق الفوضى المستدامة في المنطقة، الأمر الذي عكس مؤخراً في الهجوم على سجن الصناعة في حي غويران بمحافظة الحسكة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد