فورين بوليسي: على الولايات المتحدة الوقوف بوجه بوتين والأسد في شمال شرق سوريا

إيمي أوستن هيلز / ترجمة: المركز الكردي للدراسات

يمكن لواشنطن أن تُقلل من نفوذ موسكو في المنطقة وأن تدعم الحلفاء الأكراد دون وجود كبير للقوات في المنطقة- لأكثر من ثماني سنوات، واصل قادة شمال وشرق سوريا مشروعهم للحكم الذاتي في تحدٍ لنظام الأسد في دمشق. كما صمدت المنطقة التي يقودها الأكراد في وجه تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، والتدخلات التركية المتعددة، والانسحاب الجزئي للولايات المتحدة، ونشر القوات الروسية.

يبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يعتقد أن انسحاب الولايات المتحدة في الخريف الماضي سيجعل من الممكن أخيراً تحقيق هدفه الأول في سوريا، وهو السماح لبشار الأسد باستعادة السيطرة على جميع الأراضي السورية.

فحسب ظن بوتين أن المنطقة شبه المستقلة سوف تسقط بسهولة تحت سيطرة الحكومة المركزية، بالطريقة التي انهارت بها حلب أو حمص التي كان يسيطرعليها المتمردون بمجرد دخول قوات النظام.. إلا أن هذا لم يحدث.وبدلاً من الانهيار، تواصل الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا حكم نحو ربع سوريا من الرقة في الغرب إلى ديريك في الشرق، بل وحتى تدفع رواتب تضاعف رواتب تلك الموجودة في مناطق سيطرة النظام. لقد زرت شمال شرق سوريا لعدة أسابيع في أيلول / سبتمبر وشهدت بنفسي كيف أن جميع مؤسسات الحكم التي أنشأتها الإدارة المستقلة تقريباً تواصل العمل في تحدٍ للأسد.

تستمر المدارس في تدريس منهاج جديد يتميز بتعليم اللغة الكردية والسريانية، بالإضافة إلى اللغة العربية. وبالرغم من ذلك، لا يروج المعلمون لإيديولوجية نظام الأسد البعثية التي تهدف إلى غرس الولاء للأسد الذي لا يزال يُدرَس في الأراضي التي يُسيطر عليها النظام. كما وتستمر المحاكم المحلية في العمل بنظام الفقه الخاص بها، مما يُلغي فعلياً العديد من القوانين التي لا تزال تؤيدها الحكومة المركزية، مثل عقوبة الإعدام.

لا يزال زواج الأطفال مسموحاً به في ظل نظام الأسد، لكن قادة الإدارة الذاتية سنوا قوانين تهدف إلى منعه.بالنسبة لبوتين ربما يكون الأمرمخيِباً للآمال، فقوات سوريا الديمقراطية ( قسد) والمدعومة من الولايات المتحدة حافظت على هيكل قيادتها الموحد، وبدلاً من معاناة الانشقاقات في مواجهة الهجوم التركي وانتشار القوات الروسية وقوات النظام، صمدت قوات سوريا الديمقراطية في موقفها. ولدى قسد الآن ما يُقدَر بنحو (100) ألف مقاتل، بالإضافة إلى أنها تشمل قوات الأمن الداخلي. إنها ثاني أكبر قوة مسلحة في كل سوريا، وتأتي في المرتبة الثانية بعد جيش الأسد.يريد كل من بوتين والأسد أن تستسلم قسد للجيش العربي السوري. هذا هو المفتاح لإعادة تأكيد سيطرة النظام على منطقة الحكم شبه الذاتي.

لكن القائد العام لقسد، الجنرال مظلوم عبدي، ليس لديه أي خطط للقيام بذلك.قال لي مظلوم في مقابلة مطولة وجهاً لوجه: ” نريد أن نكون جزءاً من الجيش السوري المستقبلي – لكن ليس الجيش الحالي”.كما أكدت قسد والإدارة الذاتية مراراً وتكراراً التزامهما بوحدة أراضي سوريا. إنهم يريدون تنفيذ مشروعهم في أجزاء أخرى من سوريا وليس بمعزل عن سوريا، ومع ذلك لا يزال مسؤولو النظام يشيرون إلى الأكراد السوريين كمهاجرين وليس كمواطنين سوريين ويتهمونهم بتبييت أطماع انفصالية. يبدو أن المسؤولين الروس إما يؤمنون بصدق بالدعاية المعادية للأكراد أو يجدون أنها عصا مفيدة لاستخدامها ضدهم.من الجزرات التي استخدمها المسؤولون في موسكو في كثير من الأحيان عرضهم للتوسط في محادثات بين دمشق والإدارة الذاتية. لكن الأسد رفض حتى الآن تقديم تنازل واحد.

سألتُ الجنرال مظلوم لماذا.. هل لأن الروس غير قادرين أو ببساطة غير راغبين في الضغط على الأسد لتقديم تنازلات؟ فقال: ” هذا لأنهم لا يريدون، إنهم يدعمون النظام”، ” لقد استقبلنا الروس ليس لأننا أردنا ذلك، ولكن بسبب الانسحاب الأمريكي”. تفاوضت قسد على الشروط التي يمكن للروس بموجبها العمل في منطقتهم. ” كان أحد الشروط المسبقة لدخول الروس هذه المنطقة أن ينسقوا معنا [قوات سوريا الديمقراطية]، وليس مع النظام. لذلك نحن دائما نواجه الروس إذا لم يلتزموا بالاتفاق ” في الوقت الحالي، يؤكد مظلوم أن قوات سوريا الديمقراطية لا تزال لها اليد العليا: ” الروس ضيوف على قوات سوريا الديمقراطية، ونحن نرافقهم في دورياتهم” لكن الجيش الروسي غالباً ما يختبر الحدود.نظراً لأن الشمال الشرقي رفض الخضوع لسيطرة الحكومة المركزية، فقد تحولت روسيا الآن إلى أشكال جديدة من التحايل.

وتشمل هذه الأشكال المطالبة بقواعد روسية إضافية في الشمال الشرقي، ومحاولة تقسيم قسد عن طريق إثارة التوترات الطائفية بين الأكراد والعرب، وتضخيم آلة الدعاية لنظام الأسد التي تُشير إلى قسد على أنها ” قوات مُنحلَة “، ومزيد من التعدي على القوات الأمريكية في محاولة لإجبارهم على الانسحاب الكامل. لا يزال هناك ما يقدر بنحو (600) جندي أمريكي في سوريا

حتى الآن ثَبُت أن هذه الأساليب غير مُجدية – إلا أنها تسببت في مشاكل.تم وضع الأساس للأوضاع التي وصلنا إليها اليوم قبل عام. بعد مكالمة هاتفية مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 6 أكتوبر / تشرين الأول 2019 ، ولكن دون استشارة مستشاريه للأمن القومي، أمر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب القوات الأمريكية بالانسحاب من شمال شرق سوريا. بعد ثلاثة أيام، اندفعت القوات التركية ووكلائها عبر الحدود، واحتلت مساحة كبيرة من الأراضي الواقعة بين تل أبيض ورأس العين.كما وسع الجيش الروسي وجوده إلى أكثر من 15 قاعدة عسكرية، ووعد بالعمل كضامن ضد المزيد من التوغلات التركية. وقع المسؤولون في موسكو اتفاق وقف إطلاق النار مع أنقرة في 22 أكتوبر 2019 بعد أيام فقط من تفاوض نائب الرئيس مايك بنس على اتفاق مماثل في 17 أكتوبر/ تشرين الأول.

ومع ذلك، لم يمنع الاتفاق الروسي أو الأمريكي تركيا والفصائل المدعومة من تركيا من ارتكاب أكثر من (800) انتهاك لوقف إطلاق النار في العام الماضي.وطالب الجيش الروسي الشهر الماضي بقواعد إضافية في المنطقة، وعندما رفضت قسد، هدد الجيش الروسي بالانسحاب. كان تركيز الخلاف على منطقة تل تمر الحساسة، وهي موطن لطائفة قديمة من الآشوريين الذين يكافحون للدفاع عن وطنهم بعد هجوم تنظيم الدولة الإسلامية عليها في عام 2015. تل تمر الآن على الخطوط الأمامية للمنطقة التي تحتلها تركيا، وتعرضت لهجمات متكررة من قِبل الفصائل المدعومة من تركيا.يثير تهديد روسيا بالانسحاب تساؤلات بشأن التزام الجيش الروسي بحماية المنطقة من المزيد من التوغلات التركية، وربما كان الهدف منه إجبار قسد على تقديم تنازلات. وذكرت وسائل إعلام محلية أن الروس عقدوا اجتماعات في القامشلي والحسكة مع سبع قبائل عربية مختلفة. كان الهدف من الاجتماعات هو إقناعهم بالانشقاق عن قسد وتشكيل ميليشيا منفصلة تحت قيادة روسية.

لا يمكن أن تُعزى قصة نجاح قسد في مواجهة ضغوط موسكو والنظام السوري وتهديدات أردوغان بشن هجوم جديد عبر الحدود إلى رعاية الولايات المتحدة وحدها. فبرنامج سري بمليارات الدولارات لتدريب فصائل الميليشيات الأخرى وتجهيزها، مُنيَ بفشل تام. تستمد قوات سوريا الديمقراطية قوتها من تنوعها المطلق. إنها القوة المسلحة الوحيدة في سوريا التي لا تميز على أساس الجنس أو العرق أو الدين.ساعدت الشمولية غير المسبوقة لقوات سوريا الديمقراطية على التغلب على الطائفية، التي كانت عاملاً رئيسياً في جعل الشمال الشرقي أكثر المناطق استقراراً في سوريا. وسواء كان الدافع وراء ذلك هو زيادة الرواتب، أو زيادة الاستقرار في الشمال الشرقي، أو الالتزام بالنظام السياسي الجديد الجاري إنشاؤه، أو مجرد الرغبة في الهروب من الأسد، فإن العرب من جميع أنحاء سوريا ينضمون إلى قوات سوريا الديمقراطية.

لقد أجريت مقابلات مع عرب من العديد من المدن التي يسيطر عليها النظام والمعارضة، ممن تركوا منازلهم وقطعوا مسافات طويلة وفي خطر كبير، من أجل الانضمام إلى قوات سوريا الديمقراطية.لم تفشل كل الجهود الروسية، ففي الآونة الأخيرة، دعا وزير الخارجية سيرغي لافروف وفداً من مجلس سوريا الديمقراطية – أعلى هيئة سياسية في الإدارة الذاتية – إلى موسكو. ووقع الوفد مذكرة تفاهم مع حزب الإرادة الشعبية بقيادة قدري جميل، تدعو إلى سوريا موحدة ولكن لا مركزية تعترف بكل مكوناتها العرقية والدينية.يعود نجاح بوتين الجزئي في سوريا إلى حد كبير إلى الحقيقة البسيطة المُتمثلة في أن وزارتي الدفاع والخارجية الروسيتين تنسقان سياساتهما تجاه سوريا. أما في الولايات المتحدة فقد كانت الخلافات بين البيت الأبيض والبنتاغون ووزارة الخارجية معروضة في بعض الأحيان بشكل علني، وربما كان الأمر الأكثر دراماتيكية عندما استقال وزير الدفاع السابق جيمس ماتيس احتجاجاً على عدم استعداده لتنفيذ أمر الانسحاب الأولي لترامب في أواخر عام 2018. كما إن عدم وجود التزام أمريكي قوي بشمال شرق سوريا – بخلاف رغبة ترامب المُعلنة في “حماية النفط ” – يصب أيضاً في صالح روسيا.إن التزام أمريكي أقوى بشمال شرق سوريا لا يستلزم بالضرورة نشراً كبيراً أو مفتوحاً للقوات. فقد أظهر العام الماضي أنه حتى مع انخفاض البصمة العسكرية، فإن الولايات المتحدة قادرة على تنفيذ مهام مناهضة للدولة الإسلامية (داعش) عبر مساحات شاسعة من شمال سوريا، بما في ذلك الغارة على إدلب التي أدت إلى مقتل أبو بكر البغدادي. ومع ذلك، فإن الاستقرار والاحتياجات الإنسانية هائلة والوجود الدبلوماسي الأمريكي ضئيل للغاية.

إن الوجود الدبلوماسي المتزايد سيقطع شوطاً طويلاً نحو استعادة الثقة منذ انسحاب ترامب الجزئي الفاشل قبل عام، ومن الضروري أيضاً وجود دبلوماسي أكبر لضمان تنفيذ سياسات أمريكية واسعة النطاق على الأرض. تتراوح هذه السياسات من جهود الاستقرارالهادفة إلى استعادة سبل العيش ومنع عودة تنظيم الدولة الإسلامية، والعقوبات على نظام الأسد، إلى إعادة معتقلي الدولة الإسلامية إلى الوطن، إلى دعم محادثات الوحدة الكردية الجارية.

في محاولة لتجاوز الجمود السياسي، بادر مظلوم لبدء محادثات تقارب بين الأحزاب الكردية المتنافسة. وعلى النقيض من المحادثات التي ترعاها روسيا بين قادة المنطقة ونظام الأسد، والتي لم تسفر عن أي تقدم، فإن محادثات الوحدة الكردية التي ترعاها الولايات المتحدة تحرز تقدماً ببطء.إذا نجحت، يمكن لمحادثات الوحدة الكردية أن تمهد الطريق لمزيد من التعددية السياسية في شمال شرق سوريا، وربما تقلل التوترات مع كل من تركيا وكردستان العراق. قد يكون لهذا تأثير تحويلي على المنطقة الأكبر ويجعل من الممكن للجيش الأمريكي الانسحاب أو تقليص حجمه في نهاية المطاف – دون إلقاء المنطقة في حالة من الفوضى، أو تعريض حياة حوالي أربعة ملايين شخص للخطر، أو خيانة حلفاء الولايات المتحدة.لزيادة احتمالات نجاح محادثات الوحدة، يجب على الولايات المتحدة الالتزام بإدراج الإدارة الذاتية في المحادثات التي ترعاها الأمم المتحدة في جنيف والتي تهدف إلى إيجاد حل سياسي للصراع.

لقد حان الوقت لكي تتوقف واشنطن عن التعامل مع قسد باعتبارها مجرد ” أداة ” لهزيمة الدولة الإسلامية (داعش) ، فقوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية سيطرت أيضاً على الأراضي بعد تحريرها من الخلافة، وجعلت الشمال الشرقي المنطقة الأكثر استقراراً في سوريا – ولأكثر من ثماني سنوات رفضت الاستسلام للأسد. يلوح في الأفق بالفعل بديل لنظام الأسد وتحتاج حكومة الولايات المتحدة فقط إلى الاعتراف بذلك.

*إيمي أوستن هيلز: باحثة زائرة بجامعة هارفارد (2020-2019) وأستاذة مشاركة في علم الاجتماع بالجامعة الأمريكية بالقاهرة

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد