د. طارق حمو
طالب الأستاذ الجامعي الكردي عباس ولي، في تقييم له للمشهد السياسي العام في تركيا، حكومة حزب العدالة والتنمية، وتالياً الدولة برمتها، بالتعامل بشكل أكثر جدية مع القضية الكردية ومع عملية السلام الجارية حالياً، والتوقف عن ربطها بالتطورات والمتغيرات في منطقة الشرق الأوسط. وفي حديث لوكالة «فرات» للأنباء، أظهر ولي «المعادلة الصفرية» في الصراع المسلح بين الكرد والدولة التركية. ذلك الصراع الذي لم يرجّح كفة طرف على آخر، بل استنزف الجميع وزاد من الأحقاد وخلق مزيداً من الانسداد في آفاق التحول الديمقراطي في تركيا، وبالتالي إبقاء الوضع على ما هو عليه، لكن مع لجوء الدولة إلى مزيد من البطش والقمع مع كل ظرف يستجد وتظن فيه الفرصة المؤاتية السانحة للنيل من الكرد والإجهاز على حضورهم السياسي والعسكري في تركيا وخارجها.
واعتبر ولي مرحلة «السلام والحل الديمقراطي» التي أطلقها زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان في نهاية فبراير/شباط الماضي، ومن ثم مؤتمر حزب العمال الكردستاني الثاني عشر الذي عقد في مايو/أيار الماضي، وقرار إنهاء مرحلة الكفاح المسلح وحل الحزب، تحولاً كبيراً وفرصة لا تعوّض لكسر الجمود السياسي وإحداث تغيير بنيوي في تركيا يحوّل الدولة من مؤسسة أحادية شمولية إلى دولة مواطنة وديمقراطية قادرة على تحقيق الازدهار وتلبية مطالب كل مكوناتها. وذكّر المفكر الكردي وأستاذ الفكر السياسي أنقرة بأنه لا يمكن حل قضية كبيرة ومؤثرة ولها أبعاد إقليمية ودولية مثل القضية الكردية بدون برنامج وطني تشارك فيه كل الفعاليات في البلاد ويتحول، عبر البرلمان، إلى قوانين ومواد دستورية تعترف بهوية وحقوق الكرد، وتغير وجه وبنية الجمهورية، بحيث تخرج مع نهاية المرحلة دولة جديدة لكل أبنائها، ببنية وتوجه جديدين يعكس الهويات والخصوصيات كلها.
تنشغل الدولة التركية عن تنفيذ وعودها بخصوص عملية السلام بأمور أخرى وتطورات في المنطقة تقول إن لها الأولوية في الاهتمام والتركيز. وكان من المفترض، بحسب الاتفاق مع أوجلان، تشكيل لجنة من 100 برلماني من كل الكتل السياسية (من المنتظر الخوض في أسماء أعضاء هذه اللجنة خلال اللقاء المرتقب بين وفد إيمرالي والرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 9 يوليو/تموز الجاري) بغية العمل على وضع قوانين جديدة تجبّ تلك القديمة وترسم معالم الإصلاحات الدستورية. وفي حال إحداث التغييرات المنشودة، مثلما يطالب أوجلان والجانب الكردي، فإن الأبواب ستشرع أمام التعددية والمشاركة السياسية، وسيتم التوقف عن ملاحقة الأفكار والحريات، بالإضافة إلى إزالة «الأسانيد القانونية» التي يتم عبرها سجن الناشطين وحظر الأحزاب وإغلاق المنابر الإعلامية. ثمّة تلكؤ من جانب الدولة التركية، يرتبط طرداً مع الظروف الإقليمية، وما تعتقد تركيا بأنه تهديدات تطال مكانتها أو حتى وحدتها الجغرافية. فعندما تحدث أزمة أو مواجهة في الإقليم، كمثل تلك التي حصلت بين إسرائيل وإيران، ويأتي حديث عن «شرق أوسط جديد» أو تغيير لخرائط المنطقة، يتذكر القائمون على الدولة التركية الملفات الداخلية ويتفكرون في «وحدة الجبهة الداخلية». ومن هنا، يأتي الحديث عن حل مشاكل تركيا وعلى رأسها القضية الكردية. وما أن تهدأ الأمور وتتوقف الطائرات عن القصف والصواريخ والمسيّرات عن اجتياز حدود دول لدك أهدافها المنشودة، حتى يشعر ساسة أنقرة بالارتياح والشعور المتخيّل بالقوة والأهمية، فيعودون إلى المربع الأول بنكران المشاكل والقضايا وإرجاعها إلى أسباب مختلقة، أو ربطها بالخارج وبالأجندة الأجنبية.
ينتظر الرأي العام الاجتماع الذي سيعقده وفد إيمرالي/حزب المساواة وديمقراطية الشعوب مع الرئيس أردوغان في 9 الشهر الجاري، قبل أن يبحر إلى جزيرة إيمرالي للقاء أوجلان ونقل التطورات في ملف عملية السلام إليه. وقد تم الإعلان عن خطوة رمزية جديدة ضمن «الجانب العملي»، وهي لجوء مجموعة مسلحة من حزب العمال الكردستاني إلى إلقاء السلاح في مراسيم تحضرها وسائل الإعلام بالقرب من مدينة السليمانية في إقليم كردستان، قبل أن تعود إلى مواقعها في جبال قنديل.
ولعل هذين التطورين يمثلان تقدماً واضحاً وتحريكاً لملف حل القضية الكردية بعد أسابيع من الجمود الذي ربما يعود في أحد أسبابه إلى انشغال الطاقم التركي بالحرب الإسرائيلية-الإيرانية، وتحرّك أنقرة على مستويات عدة بغية إيقاف الأعمال القتالية، وبالتالي إنقاذ النظام الإيراني من التصدع والسقوط الذي ربما يفتح على أنقرة «أبواب الجحيم»، أو ما يعني في الترجمة الحقيقية: ظهور نظام ديمقراطي في إيران يُنهي مرحلة الاستبداد والقمع ويقبل بصيغة اللامركزية والحكم الذاتي للقوميات الإيرانية. وهو ما يعني، على ضوء الحقيقة الكردية، ظهور إقليم كردستان إيران (شرق كردستان) الذي سيكون أكبر جغرافياً وديمغرافياً من إقليم كردستان العراق (جنوب كردستان) الحالي المعترف به في الدستور العراقي. ولا شك أن تركيا تتخوف من مثل هذا السيناريو الذي سينعكس على الحالة الداخلية التركية، ويستنهض همم الكرد وغيرهم من القوميات والمكونات، فتعيد المطالب بالفيدرالية في تركيا إلى سلّم أولويات أجندة الحركة الكردية.
وكان أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول والمنافس الأقوى للرئيس رجب طيب أردوغان والمسجون حالياً على ذمة قضية فساد في سجن مرمرة، دعا إلى الإسراع في عملية حل القضية الكردية بالاعتماد أساساً على البرلمان ولجنة المئة عضو التي من المزمع تشكيلها من الكتل البرلمانية. وجاءت تصريحات إمام أوغلو خلال زيارة قام بها كل من تولاي حاتم أوغلو وتونجر باكراهان، الرئيسان المشاركان لحزب المساواة وديمقراطية الشعوب، في 19 يونيو/حزيران الماضي. واعتبر إمام أوغلو خطوة حل حزب العمال الكردستاني لنفسه وإعلانه التخلي عن الكفاح المسلح فرصة حقيقية، معتبراً الديمقراطية وإخوة الكرد والترك الأساس لحل القضية الكردية وإحداث انطلاقة جديدة وتجاوز كل تركة الماضي.
يعمل أوجلان على خلق أرضية أوسع لإنجاح عملية حل القضية الكردية عبر تشكيل جبهة ديمقراطية جماهيرية عريضة تضم السياسيين والحقوقيين والمثقفين والنقابات المهنية والاتحادات النسائية ومنظمات المجتمع المدني وكل الفعاليات الاجتماعية الكردية والتركية، لتكون موازية للتحرك الرسمي ومتابعة لما يحدث من نقاش بين الدولة والجانب الكردي، وكذلك لمراقبة آليات التغيير الديمقراطي وإحداث قوانين وإصلاحات دستورية. يركز أوجلان على ضرورة إشراك كل قطاعات الجماهير في العملية والاطلاع على رأيهم وأخذ اقتراحاتهم وملاحظاتهم بعين الاعتبار، لتنهض صيغة حل متفق عليها من القاعدة وليس فقط تمرر عبر القمة، أي من جانب الدولة وممثلي الحركة السياسية الكردية.
يرى أوجلان أن حل القضية الكردية هو الترياق الذي سينقذ تركيا مما يهددها وسيحصّن داخلها، وهو ما يعني فتح آفاق الديمقراطية والازدهار الاقتصادي وتخليص البلاد من التبعية للخارج ومن رهاب التقسيم، وبالتالي كوابيس الانكماش في جغرافية ضيقة في الأناضول. تراجع تركيا وانزواؤها لتكون حبيسة الأناضول، هو ما حذر منه أوجلان القائمين على الحكم في أنقرة، قبل وقت من بدء القصف الإسرائيلي الذي طال إيران وهدد عرش نظامها الشمولي. ذلك القصف الذي خلق في أنقرة رعباً من التعرض لمصير مشابه على يد القوة الفتاكة الأكبر في المنطقة.