محمد سيد رصاص
مع تأسيس كورش للدولة الأخمينية في عام 550 قبل الميلاد، انكسر مثلث قوة في المنطقة كان مؤلفاً، ولحوالي الألفي عام، من وادي النيل ومنطقة الرافدين وهضبة الأناضول. خلال قرنين من الزمن، أصبحت السيطرة الإيرانية أحادية في المنطقة بما يشمل أضلاع المثلث المذكور. كسر الاسكندر المقدوني (356-322 ق.م) الأحادية الفارسية ومحاها، مستبدلاً إياها بسيطرته، قبل أن يتوزع خلفاؤه بالشرق في مناطق سيطرته ويتنازعوها، وهو ما أتاح مجالاً لبروز القوة الإيرانية من جديد مع الدولة الساسانية (منذ عام 229 ميلادية) والتي تنازعت مع الرومان، ثم البيزنطيين، على السيطرة على الهلال الخصيب، قبل أن تنهيها الدولة الإسلامية الجديدة عملياً في معركة نهاوند عام 642. ومنذ تلك المعركة وحتى نشوء الدولة الصفوية في عام 1501، والتي مع اعتمادها للمذهب الشيعي الإمامي الإثنا عشري أنشأت مركزاً إسلامياً منافساً للإسلام السني وهو ما لم يتجرأ البويهيون الشيعة (الديلم) على فعله أثناء سيطرتهم على بغداد العباسية بين عامي 945 و1055، غابت بلاد إيران (التي عرفت في التدوينات الإسلامية العربية باسم بلاد فارس) عن تشكيل القوة الدولتية المنافسة كما كانت في عهدي الدولتين الأخمينية والساسانية. ولكن مع ذلك، شكّلت الشعوةب الإيرانية (الخراسانيون والفرس) قوة اجتماعية حاسمة في إسقاط الدولة الأموية وصعود العباسيين وفي حسم صراع الأمين والمأمون، وهو ما ترجم لاحقاً بسيطرة البويهيين الذين حكموا من خلف ستار الخليفة العباسي، قبل أن يأتي السلاجقة للسيطرة على الدولة العباسية. والسلاجقة هم من بدو السهوب الترك الذين بدأت حركة غزوهم للشرق الأوسط من آسيا الوسطى مروراً ببلاد إيران في القرن العاشر.
في معركة جالديران عام 1514 بين السلطان العثماني سليم الأول ومؤسس الدولة الصفوية الشاه إسماعيل، تكرس انقسام العالم الإسلامي بين مركزين سياسيين دينيين، سني وشيعي. وتحددت حدود السيطرة الجغرافية لهذين المركزين مع بقاء مناطق مواجهة في العراق وأذربيجان. ويبدو أن السد الغربي العثماني هو الذي جعل حكام فارس يفكرون بالتوسع في آسيا الوسطى وفي القفقاس، خلافاً للاتجاه التقليدي للحكام الفرس نحو التمدد غرباً. وكانت قوة روسيا المتنامية منذ عهد بطرس الأكبر في القرن الثامن عشر وامتدادها جنوباً سبباً رئيسياً في ضعف إيران، ومركزها فارس، في عهد الدولة القاجارية 1789-1925. وفي النهاية، كانت ضمن تنازع النفوذ بين بريطانيا وروسيا.
ولكن من يراقب تطورات الشرق الأوسط، منذ بداية القرن الماضي، يلاحظ أن ايران (وهو اسمها الرسمي المعتمد منذ عام 1935) لطالما استهلت المراحل التي تمر في المنطقة، ويمكن لما يلي أن يوضح هذا الأمر:
1- النظام الدستوري كمؤشر على تقوض الدول القديمة: بلاد فارس 1906، الدولة العثمانية 1908، الدستور المصري عام 1923.
2- الانقلابات العسكرية: بلاد فارس 1921، العراق 1936، سوريا 1949، مصر 1952.
3- المد الشيوعي: حزب توده منذ خريف 1941، الحزب الشيوعي العراقي بين 1945-1959، الحزب الشيوعي السوري في 1957.
4- تأميم الشركات الأجنبية: تأميم الشركة الإنكليزية- الفارسية للنفط عام 1951، تأميم شركة قناة السويس في 1956.
5- دخول الولايات المتحدة للمنطقة على حساب البريطانيين: انقلاب 1953 الذي أطاح بحكومة محمد مصدق المدعومة من حزب توده، مشروع أيزنهاور لسد الفراغ عام 1957بعد حرب السويس، حرب 1967.
6- بداية المد الإسلامي في عموم المنطقة مع مجيء الخميني للسلطة عام 1979: نمو قوة الإسلاميين في الجزائر بين 1989-1992، مصر 2005-2012.
7- مآزق وفشل التجربة الإسلامية مع ظهور مآزق حكمي خميني وخامنئي (1988-2009): هزيمة إسلاميي الجزائر 1992-1997، إزاحة حسن الترابي عام 1999من السلطة السودانية وانفراد عمر البشير بالسلطة، سقوط حكم الإسلاميين في مصر عام 2013.
8- بدء التحركات من الشارع ضد الأنظمة القائمة: طهران 2009، تونس 2011، القاهرة 2011.
هنا، كان شاه إيران محمد رضا بهلوي يفكر بالتمدد غرباً، وكانت خصوماته في الستينات مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر تنبع من ذلك، وهو الأمر الذي كان يولد احتكاكات إيرانية مع حكام بغداد البعثيين، ويولد مخاوف لدى الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود. تابع خميني وخامنئي هذا التفكير الفارسي القديم بالتمدد غرباً. وليس بعيداً عن مطابقة الوقائع ما قاله الجنرال رحيم صفوي عام 2013، وهو القائد السابق للحرس الثوري ثم أصبح مستشاراً عسكرياً لخامنئي، عن أن إيران هي القوة الإقليمية العظمى، وهي قوة كانت تعتمد على قوى سياسية تابعة لها أيديولوجياً (حزب الدعوة في العراق، حزب الله في لبنان، الحوثيين في اليمن، حزب الوحدة الإسلامية في أفغانستان) وأنظمة تحت الهيمنة الإيرانية (نظام بشار الأسد على الأقل بعد 2011) وحركات إسلامية حليفة (حركتي حماس والجهاد في الأراضي الفلسطينية).
لم يستطع الشاه أن يكون نموذجاً كما كان مصطفى كمال وعبدالناصر. ولكن خميني وخامنئي تفوقا على مصطفى كمال وعبدالناصر في الامتدادات الاجتماعية للنموذج الذي قدماه، وإن كانت القوة الأساسية لإيران ما بعد 1979 موجودة عند الشيعة العرب، من دون نسيان العلاقة العميقة، الفكرية والسياسية، بين إيران خميني- خامنئي وجماعة الإخوان المسلمون. واستطاعت طهران من خلال حركة حماس أن تدمّر مسار التسوية الفلسطينية- الإسرائيلية الذي انطلق مع اتفاقية أوسلو عام 1993.
كتكثيف، كما تم ضرب تجربة محمد علي باشا في حرب عام 1840 بعد أن تمدد في المنطقة وتم حصره في مصر إثر تلك الحرب التي قادتها بريطانيا، وكذلك تم ضرب تجربة عبدالناصر في حرب 1967 بموافقة أميركية وتنفيذ إسرائيلي بعد أن تمدد نفوذه في المنطقة، يبدو أن حرب ما بعد 13 يونيو/حزيران 2025 هي في سياق إيراني مشابه. يجب هنا البحث عن أسباب تغيّر نظرة واشنطن لطهران بعد تسليمها بغداد في 2003 وبيروت في 2008 ومن بعد ذلك اتفاق 2015 النووي، وكذلك في بداية عهد الرئيس السابق جو بايدن، خلف جورج بوش الابن وباراك أوباما، لتتحول إلى مواجه في عهد دونالد ترامب. فهل يتعلق الأمر بما حدث في يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أم بتثليث طهران لثنائي بكين- موسكو في فترة ما بعد الحرب الأوكرانية؟