شورش درويش
ليس هناك مفارقة أشدّ من أن يطلب رئيس دولة أجنبيّة من رئيس دولةٍ يستضيفها على أراضيه بأن يكفّ نظامه عن إيذاء فئاته وجماعاته المستضعفة والهشّة، كما جرى في اللقاء الباريسيّ بين إيمانويل ماكرون وأحمد الشرع. لكن، هل كانت مطالبات الرئيس الفرنسي جوهريّة أم أنه مجرّد كلام لا بدّ من أن يُتلى على الملأ؟ وهل حقّقت زيارة باريس الفصل الأوّل من رحلة التعويم الدولي للشرع على يد ماكرون؟
بعد قليل من تمكّن أحمد الشرع من الحلول في قصر الشعب، قالت المجموعة العربية للاتصال المجتمعة بالعقبة بوجوب احترام حقوق الإنسان والنساء والأقليات. وبالمثل، ألقت مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط باربرا ليف تلك الوصفة التي من شأنها وقف الحرب الأهلية وتخليص الشرع ومن حوله من ماضيهم الإلغائيّ والدمويّ والموصوم بالإرهاب. كما أن ذات المبادئ الأوليّة المتصلة بإدارة التنوّع تكررت على لسان دبلوماسيين غربيين زاروا دمشق، وتكثّفت إثر زيارة وزيري خارجية ألمانيا وفرنسا لدمشق وتسطيرهما لخطة عمل بخصوص سوريا الجديدة.
خلال اللقاء الذي جمع الشرع بماكرون في باريس، أظهر الرئيس الفرنسي التزامه بسوريا وبقضاياها الراهنة لاسيما الوقوف المتواصل إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية في مهمّة مكافحة إرهاب تنظيم داعش، ووقف المجازر بحق العلويين والدروز وإيجاد حل لمعضلة الجهاديين الأجانب، ووجوب الالتزام بعدم الإفلات من العقاب لمرتكبي الجرائم. لا يمكن بأي حال ربط هذا الالتزام برغبة باريس في استعادة شيء من الماضي الاستعماري على ما قاله البعض، أو فرض وصاية فرنسية على سوريا، أو الحلول مكان الدول المتنفّذة في سوريا. ولئن كان صحيحاً أن لباريس مصالح اقتصادية على ضفاف المتوسط وفي سوريا، فإن تلك المصالح الاقتصادية ليست كل ما يرسم سياساتها السورية والشرق أوسطية، إذ ثمة دورٌ قياديّ لفرنسا في رسم ملامح السياسة الأوروبية تجاه سوريا والمنطقة لاسيما قضايا الإرهاب والفقر والفوضى والهجرة.
يمكن وضع تصوّر عريض فيما خص حضور فرنسا في السياسة الشرق أوسطية، إذ يتمثّل حضورها بأدوار الوساطة أو اتباع الخط الثاني داخل المحور الغربي، وتركيزها تالياً على اتخاذ خط وسطي بين القوى المعادية للأنظمة التسلطيّة والحليفة لها. فباريس التي ما قطعت علاقاتها بطهران الخميني في ذروة الخلافات الأميركية الإيرانية، وكذا علاقاتها بنظامي صدام حسين وحافظ الأسد في حمأة الخلافات الأميركية والغربية مع تلك الأنظمة، وقفت أيضاً مع المعارضات لتلك الأنظمة في أوقات لاحقة. وهو ما يمكن تسميته بالواقعية الفرنسية، أي التعامل مع الأنظمة الموجود بما هي عليه لا بما ينبغي أن تكون عليه، وهو ما يفسّر الكثير من مذهب السياسة الخارجية الفرنسية، يمينها ويسارها، رغم احتفاظ المجتمع الفرنسي المناوئ للأنظمة التسلطية والديكتاتورية بوزنه الفعلي في عملية ترسيم تخوم العلاقة مع تلك الأنظمة والحدّ من جموح احتضانها أو رعايتها. وفي السياق ذاته، يأتي لقاء ماكرون والشرع بشكل لا يشذّ كثيراً عن السياسة التقليدية الفرنسية التي تعلي من شأن الوعظ وإسداء النصائح، في مقابل إبداء أشكال من الانفتاح السياسي والاقتصادي، بما في ذلك المساهمة في ملف رفع العقوبات عن دمشق.
بشكل مخاتل، أراد الشرع القول بأن العقوبات الغربية لم يعد لها ما يبرّرها بعد سقوط نظام الأسد، مُغفلاً أن شقّاً من العقوبات مرتبط ببنية النظام الحالي، إذ ماتزال العديد من قياداته العسكرية والمدنية، بمن فيهم الشرع، على قوائم العقوبات الغربية والأميركية، وأن سفر الرئيس السوري المؤقت ما زال يخضع لموافقات مجلس الأمن. بكلمات أخرى: إن إصرار الشرع على رفع العقوبات إنما ينطوي على رفع تلك العقوبات التي تطاوله وتطاول عديد الرؤوس في حكومته وجيشه.
تعيد مسألة رفع العقوبات شريط الأحداث بضعة سنوات إلى الوراء حين كادت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأولى أن ترفع قسطاً من عقوبات قيصر عن سوريا شريطة أن يقوم النظام السوري بتغيير سلوكه. كان تغيير السلوك لا النظام هو التعبير الأوضح غربياً، والذي نجده مرّة أخرى يتكرّر إزاء الحكم السوري الجديد الذي ينبغي أن يغيّر سلوكه العنفيّ والإقصائي والمتسم بالتذاكي. وجدير بالملاحظة أن إبداء المرونة والتغيير الشكليّ في سلوك سلطة دمشق قد يؤدّي إلى رفع كلي أو جزئي للعقوبات، لكنه لا يعني استحالة فرضها مجدداً حال نكوص دمشق عن مبدأ تغيير السلوك ووقف الاستجابة لمتطلّبات التغيير.
لا يمكن النظر إلى زيارة باريس بأنها قليلة الأثر أو التقليل من شأنها وفق هوى شخصيّ. فهي إن لم تكن مفيدة للفرنسيين بصورة مباشرة، فهي مفيدة على الإطلاق للشرع وإدارته (رغم ما بدا أنه تقريع فرنسيّ لنهج الإدارة السورية الحالي تجاه قضايا حقوق الإنسان). فمن وجهة نظر واقعية، يمكن النظر إلى الزيارة بأنها مقدّمة المَهمّة التي تسعى إليها قطر لتعويم إدارة الشرع أوروبياً، فيما ستتولى دول خليجية أخرى تعويمه أميريكاً وتصديره تالياً كرئيس يتجاوز وصفه بالمؤقت إلى محض رئيس يجاري رؤساء وملوك العالم ويمتلك سلطة إبرام الاتفاقيات بما في ذلك اتفاقية سلام محتملة مع إسرائيل.
جلّ ما يطلبه الشرع في هذه الأثناء هما مسألتين مبنيتين على التعويم الخارجي: الوقت والمال. يساهم طلب الوقت في تشييد الشرع نظامه الخاص الذي سيدمج من خلاله الجهاديين الأجانب بالمحليين، ويخلُص إلى وصفة جديدة للحد من سياسة «النفير العام» البربرية والعنف العاري والمفضوح بحق الأقليات الطائفية من خلال تخفيض مستواه جهد المستطاع وإعادته إلى سيرته الأولى بُعيد سقوط نظام الأسد، أي تصويره كحالات فرديّة يمكن التعامل معها وشجبها أمام الرأي العام العالمي والتنصّل منها. فضلاً عن أن منحه الوقت يساهم في تسوية الخلافات بين جماعته الحاكمة والكُتل السنّية السورية المختلفة، الأمر الذي يحتاج إلى وقت لا يقل عن الوقت الذي تتطلّبه مهمة ترتيب فوضى المجازر بحق العلويين والدروز. علاوة على ذلك، فإن اتفاقية 10 مارس/آذار بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية أعطت للشرع الوقت الكافي لتثبيت أقدامه في بقيّة سوريا، لا لأن الجنرال مظلوم عبدي ساعده في ذلك، بل لأن عدم دخوله في صدام مسلّح مع «قسد» والكرد خفّف من الإشارات الدولية السلبية حول جوهر حكمه. كما كانت الحرب على «قسد» ستضع قرار الشرع في يد الأتراك بالنظر إلى القدرات الضعيفة للقوات المؤتلفة في مظلة وزارة الدفاع وحاجتها إلى الدعم والمساعدة التركية المباشرة وغير المباشرة. وإذا كانت الاتفاقية هي النقطة المضيئة الوحيدة بحسب ما يمكن أن يستشفه واحدنا من كلام الرئيس الفرنسي، فإن دعم ماكرون لها يعكس رغبة في أن تكون مثل هذه الاتفاقية منطلقاً لاتفاقيات مع الدروز، وربما مع العلويين، في وقت لاحق.
ثمة أيضاً حاجة ملحّة للأموال اللازمة لتعزيز قدرات الشرع في الجهاز البيروقراطي الناشئ للدولة السورية. وهذه المسألة أيضاً بدأت تسير إلى جانب التعويم الدولي، إذ تولّت قطر، بعد موافقة أميركية، مهمّة دفع مستحقات الموظفين العموميين. وقد تصبح العكازة القطرية هذه منطلقاً لإدخال أموال إضافية بمسميات أخرى حتى وإن لم تُرفع العقوبات عن دمشق.
وعليه، يمكن القول أن الزيارة الباريسية هي الطريق الملكي الذي قدّمته فرنسا للشرع وإدخاله في نادي الرؤساء الشرعيين، خاصة أن باريس تتولّى مهمّة إدارة السياسة الأوروبية إلى جوار برلين. وبإمكانها، إلى جوار الدول العربية المؤيّدة للشرع، إعادة صياغة العلاقة مع دمشق وفق نهج براغماتي يتسم بالتغاضي عن الانتهاكات وغض الطرف عن بنية الحكم الفئوي الجديد وإقامة شراكات اقتصادية جديدة مع سوريا، والأهم تدعيم شراكات فرنسا الاقتصادية مع الدول العربية الداعمة للشرع. وبطبيعة الحال أيضاً، لن تلتزم دمشق بالرسائل الفرنسية المباشرة مثلما لم تلتزم في وقت أسبق بالرسائل التي حملتها بربارا ليف ووزيري خارجية فرنسا وألمانيا، وهو ما تعرفه باريس جيّداً، لكنه كلام «وعظي» لا بدّ أن يقال أمام الرأي العام العالمي والفرنسي وللسوريين الخائفين ليغطي على السياسة الفعلية التي ستظهر مفاعليها لاحقاً.