الجنرال بكر صدقي و«خريطة كردستان الكبرى»

شورش درويش

حازت مسألة الأصل الإثني للزعامات الوطنيّة اهتماماً بالغاً مذ تشكّل العراق وفق الصيغة الاستعمارية التي وضعت الكرد  والعرب في إهاب كيان سياسيّ ما فتئ أن انكشف على هشاشة تكوينة، لاسيّما في مسألة استخدام مسألة الأصل القومي مطرقةً لتحطيم الخصوم والحؤول دون صعودهم السياسي. ولعل استحضار هذه المسألة والتفتيش في نوايا الفاعلين السياسيين جاء مع صعود الفريق بكر صدقي في العراق وتمكّنه من حكم العراق، وكذلك الأمر في حالة الرئيس السوريّ الانقلابي حسني الزعيم واتهامه بالسعي لإنشاء «جمهورية كردية عسكرية»؛ وإذا كان هذان الكرديّان مِن أوائل من أدخل المنطقة إلى عوالم الانقلابات العسكرية التي تواصلت حتى استتب الأمر لآخر انقلابين بعثيين في سوريا والعراق، فإنّنا أمام ظاهرتين لطالما وصمتا بأنهما حملتا أبعاداً تآمرية على عروبة البلدين، فيما بدت أبعاد الانقلابات مزيجاً من السعي للمجد الشخصيّ وانبهاراً بالصيغة الأتاتوركية في الانقلاب والحكم، خاصة تلك الصيغة الديكتاتورية الرامية إلى فرض التحديث السياسي والاجتماعي من أعلى.

بكر صدقي

كان لبكر صدقي قصب السبق لجهة تدشّنيه أوّل انقلاب شهدته عاصمة عربيّة عام 1936، والذي تلاه انقلاب العقداء الأربعة (المربّع الذهبي) عام 1941. مهّد هذين الانقلابين لظهور ظاهرتين متمايزتين برزتا داخل سلك الضباط ككل، حيث، وتبعاً لحنا بطاطو في مؤلّفه «العراق –الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية»، أصبح التمايز بين «عراقويين وعروبيين» أو ما برز فيما بعد بصيغة الوطنية العراقية و«الجمهورية العراقية الخالدة» التي صاغها عبد الكريم قاسم، في مقابل القوميين والبعثيين و«الأمة العربية الخالدة».

وصدقي، المولود لأبوين كرديين في بلدة عسكر بالقرب من كركوك، نجح في الانقلاب على رئيس الوزراء والشخصية العروبيّة ياسين الهاشمي المعروف عنه تدشينه سياسة التعريب في كركوك، بعد أن سطع نجم صدقي عقب المذابح التي طاولت الآشوريين في سيميل وسواها وبعد أن أخمد بسرعة بالغة وباستخدام الطائرات حركات تمرّد عشائرية عمّت العراق العربيّ.

 وفيما كان صدقي مدفوعاً بحركة التحديث الأتاتوركية ومشدوداً بقوّة إلى صعود النازية التي خاطبت مشاعر كارهي الاستعمار البريطاني، حيكت روايات كانت ترمي إلى النيل من وطنيّته، إذ دارت شائعات تحدّثت عن أنه كان يحمل في حقيبته «خريطة كردستان الكبرى»، وهي واحدة من التهم التي أنذرت بأهمية تقييم النوايا والأهداف تبعاً للأصل الإثني عند تولّي زمام الحكم في بلد ذي غالبية عربية مسكون بالهواجس القومية وقصص التآمر الخارجيّ، فيما عزّز من حضور هذه الاتهامات تبنّي صدقي سياسة «العراق أوّلاً»، مُنطلقاً لفهم التعدّد الإثني والطائفي والديني في البلاد وتقليمه لأظافر الجماعات القومية العربية النشطة والغاضبة ونيله على العكس من ذلك تأييد الاتجاهات القومية الكردية التي تخلّصت من غلو الهاشمي القوميّ.

 أما القطبة المخفية في سيرة نجاح الانقلاب، فتمثّلت في رضا الملك غازي بن فيصل الذي كان سعيداً بالتخلّص من ياسين الهاشمي وحكومته، وفقاً لإفادة مرافق الملك اللواء الكرديّ ومسؤول حمايته فؤاد عارف، وطبقاً لما جاء أيضاً عند بطاطو، حيث أن صدقي أخبر الهاشمي بنفسه يوم سار إلى بغداد أنه يحظى بتأييد الملك غازي، فضلاً عن دعم حظي به من قبل مَن «لا امتيازات لهم» في المملكة ممن تجمّعوا حول صحيفة «الأهالي» وشبكوا أيديهم بأيدي صدقي.

من بين أسباب أخرى، لم تكن جذور الانقلاب قائمة على «مؤامرة كردية» كما أشيع وقتذاك رغم ضلوع ضباط كرد في الانقلاب، بقدر ما كان السبب المباشر هو تسلّط الهاشمي الذي تندّر منه حكمت سليمان بالقول إن الهتاف ينبغي أن يتغير من «يعيش الملك» إلى «يعيش الأنا»، في إشارة إلى تمركز السلطة في يد الهاشميّ وتنامي دوره. وكان سليمان صديقاً لصدقي ورئيس الوزراء الوافد لسدّة الرئاسة عقب الانقلاب والمستشيط غضباً من الهاشمي الذي لم يمنحه  حقيبة وزارية في حكومته الأخيرة.

إن ما تسبّب في تهويل الأصل الكردي لصدقي كانت صداقته مع السفير الألماني في العراق فرتزغروبا، إذ صرّح السفير أن صدقي يخطّط لإنشاء «دولة كردستان كبرى» تشمل كردستان العراق وتركيا وإيران، على أن تكون دولة قوية قادرة على صيانة استقلالها. ولم يكتفِ فرتزغروبا بهذا التصريح المريب، بل قال إن صدقي طلب إليه أن يخصص له ضابط أركان ألمانيّ ليعهد إليه مهمّة حماية كردستان في حال احتل الانكليز بغداد. وبالفعل، تم تعيين الكولونيل هاينز، وهو ضابط متقاعد أعدّ خطّةً لحماية المناطق الشمالية الشرقية من العراق (كردستان). وكان هاينز تنكّر حينها بصفة عالمٍ جيولوجيّ، واستطلع الحدود من رواندوز إلى خانقين وسافر إلى كردستان الإيرانية ووضع تصوّراته العسكرية للاستحكامات ومرابض المدفعية. وبطبيعة الحال، سلّم نسخة عن تلك الخرائط المكتوبة بالألمانية والمترجمة إلى الإنكليزية لصدقي، فيما سلّمت نسخة أخرى لفرتزغروبا، ليشاع بعيد اغتيال صدقي في القاعدة الجوية بنينوى عام 1937 وهو في طريقه إلى تركيا بأن شاكر الوادي، وزير الدفاع العراقي لاحقاً، وضع يده على الخريطة المزعومة التي كانت بحوزة صدقي، لتعزّز من طبيعة التهم التي طاولته كالعنصرية ومعاداة القومية العربية وأنه يسعى لأجل القضايا القومية الكردية واحتضان العناصر القومية الكردية. وكل ذلك رغم أن ضباطاً كرداً اشتركوا في عملية الاغتيال، أمثال محمد خورشيد الدلوي وعبدالعزيز ملكي اللذين كانا عضوين في جمعية «النجوم النارية» ذات الغالبية العربية.

غير أن الانقسام بشأن صدقي تواصل بين من ينفي عنه ميله القومي الكرديّ وبين آخرين وجدوا فيه متآمراً كردياً، رغم أنّ الرجل ساهم في تصفية الجيش من بعض عناصره الكردية وشارك أيضاً في التوقيع على ميثاق سعد آباد الذي وطد العلاقات بين تركيا والعراق وإيران. كما لم تكن له أدنى علاقة مع الجمعيات والمنظّمات الكردية ولم يؤازر ثورتي الشيخ محمود الحفيد البرزنجي (1919-1924) وثورة  بارزان الأولى (1931). لكن في المقابل، ذهبت بعض التحليلات إلى العكس من ذلك، حيث رأت أن صدقي، الذي لم يؤازر بني جلدته، كان رفض أيضاً طلب رئيس الوزراء علي جودت قمع «حركات التمرّد الكردية» عام 1935.

تبقى قصة خريطة كردستان الكبرى إحدى القصص الملغّزة في تاريخ العراق المعاصر وتتبع شأن مسائل أخرى لانحيازات إيديولوجية تجد في نظريات المؤامرة مستقراً لها، أما ما يعزز الشكوك حول سردية الخريطة هو أن معظم المؤرخين لم يعثروا على رابطٍ يدلّهم على التعاون بين صدقي والحركة القومية الكردية النشطة آنذاك. كما لم يعثروا على هذه الخريطة أو على جواب لسؤال: لماذا يحمل رجل «قومي» خريطة ملغومة كهذه وهو وفي طريقه إلى تركيا لحضور مناورة عسكرية؟

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد