محمد سيد رصاص
تأسس الحزب الشيوعي السوري في 28 أكتوبر/تشرين الأول 1924 تحت اسم حزب الشعب، ثم أصبح اسمه الحزب الشيوعي في سورية ولبنان بعد مؤتمره الأول عام 1925. وبين التاريخين، انضم إلى الحزب تنظيم «شبيبة سبارتاك» بعد أن غادر التنظيم «حزب الهنشاك: الحزب الاشتراكي الديمقراطي الأرميني» مع اتجاه هذا التنظيم إلى الشيوعية بعيداً عن الاتجاه الاشتراكي الديمقراطي. وفي سبتمبر/أيلول 1928، أصبح اسمه «الحزب الشيوعي السوري – فرع الانترناسيونال» بعد أن قبلت الأممية الشيوعية – الكومنترن عضوية الحزب، مثبتةً بذلك استقلاله عن الحزب الشيوعي الفلسطيني، وذلك بعد حضور سكرتير الحزب فؤاد الشمالي لمؤتمر الكومنترن السادس. في المؤتمر الثاني للحزب في اليوم الأخير من عام 1943واليومين الأوليين من 1944، تم اتخاذ قرار بفصل الحزب لحزبين سوري ولبناني مع وجود قيادة مركزية لهما، ولكنه لم ينفذ عملياً حتى عام 1964.
لم يكن التأسيس مبنياً على حراكٍ ذاتي مجتمعي مثلما حصل في ألمانيا وأيطاليا وفرنسا بين 1918 و1921 حينما تأسس الحزب الشيوعي في تلك البلدان جرّاء انشقاقٍ حصل عن الاتجاه الاشتراكي الديمقراطي الذي مثّلته في هذه الدول أحزاب ذات قاعدة عمّالية ضخمة. وإنما أتت محركات التأسيس من تجربة مهاجر من بلدة بكفيا اللبنانية في الحركة النقابية المصرية هو فؤاد الشمالي ومن تجربة صحافي كان مطّلعاً على الثقافة الفرنسية ومنها التجربة الشيوعية الفرنسية هو الصحافي البيروتي يوسف إبراهيم يزبك ومن أرمن مهاجرون يقيمون في بيروت كان لهم اطلاعٌ على الماركسية والتجربة الشيوعية في أرمينيا وتركيا. وأضيف عامل رابع هو شيوعيون من المهاجرين اليهود إلى فلسطين هم قياديون في الحزب الشيوعي الفلسطيني كان لهم دور في اجتماع 28 أكتوبر/تشرين الأول 1924 مثل جوزيف بيرغر، وهو بولندي، وإلياهو تيبر من أوكرانيا. ويبدو أن بوادر التوترات بين العرب واليهود في فلسطين دفعت الكومنترن عام 1928 لتثبيت استقلالية الحزب عن الحزب الفلسطيني.
استغرق الصراع ضد نفوذ قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني، التي كانت تطمح لأن تكون القناة الوحيدة بين موسكو وشيوعيي المشرق أربعة أعوام، ثم أتى الصراع ليثبت تعريب الحزب بتوجيهاتٍ من الكومنترن، الأمر الذي قاومه أغلب أعضاء الحزب الأرمن بين عامي 1931و1933.
ولكن ظروف النشأة لم تساعد على استقلال ذاتي قوي كما هو عند الشيوعيين الإيطاليين والسودانيين مثلاً، إذ كانت عوامل النشأة ذاتية خالصة عندهما، فيما ظل الحزب الشيوعي في سورية ولبنان يخضع لتأثيرات الشيوعيين الفرنسيين في فترة الانتداب ولتأثيراتٍ كبيرة من الاتحاد السوفياتي. يمكن في هذا الصدد تلمّس أن أول نشاط للحزب كان في صيف 1925 مع نشوب الثورة السورية ضد الفرنسيين عندما قام بتوزيع منشوراتٍ بالعربية والفرنسية على ثكنات الجيش الفرنسي تدعو الجنود للتمرد وعدم إطلاق النار على الثوار. دفع هذا النشاط، إضافةً إلى نشاطات تعاون فيها الحزب مع الشيوعيين الفرنسيين لحشد التأييد للثورة السورية في الداخل الفرنسي، سلطات الانتداب لاعتقال قادة الحزب في الشهر الأول من 1926 ونفيهم إلى الرقة (فؤاد الشمالي) وأميون (يوسف إبراهيم يزبك) وقلعة القدموس (أرتين مادويان وهيكازون بوياجيان)، وهو ما أدخل الحزب في مرحلة من السرية حتى منتصف 1930.
بالتوازي مع ذلك، ركّز الحزب على النشاط النقابي العمالي، إذ كانت له مساهمة كبرى عام 1925 في تأسيس نقابة عمال منسوجات التريكو ونقابة عمال المطابع. وعندما أصدر الحزب أول وثيقة برنامجية في السابع من يوليو/تموز 1931 بعنوان: «لماذا يناضل الحزب الشيوعي السوري؟… غايته القصوى وشيء من بروغرامه»، كان هناك في النص نفَسٌ يساري طبقي متطرف كانعكاسٍ لتوجهات مؤتمر الكومنترن السادس الذي تبنى شعار «طبقة ضد طبقة»، إذ طرح البرنامج شعار «سلطة العمال والفلاحين» وإقامة نظام اشتراكي، ولكن تمازج هذا مع مطالب وطنية مثل إلغاء الانتداب وانسحاب الجيوش الاستعمارية وإلغاء الحدود التي رسمها الفرنسيون. وعلى الأرجح أن تبني اسم «السوري» للحزب في 1928 وحذف اللبناني جاء تأكيداً على الوحدة السورية ورفضاً للدويلات التي أقامها الفرنسيون ومنها لبنان ودمشق وحلب والعلويين وجبل الدروز. عام 1933، اختفى النفَس اليساري الطبقي وحل محله آخر وطني يساري معتدل مفنح على مكونات حزبية ليبرالية جديدة مثل الكتلة الوطنية التي أتها منها طالب كلية الحقوق الدمشقي خالد بكداش عام 1930 منتسباً للحزب الشيوعي قبل أن يصبح عام 1933 أحد ثلاثة في هيئة السكرتاريا، التي أتت كبديلٍ عن سكرتير الحزب فؤاد الشمالي المبعد بسبب شبهات بارتباطاتٍ أمنية، والتي ضمته إلى جانب ناصر حدة، من يبرود، وأرتين مادويان.
يمكن لتوجيهات موسكو التي توجست عام 1933 من صعود أدولف هتلر للسلطة في ألمانيا أن تكون وراء هذا التغير الذي شمل عموم الأحزاب الشيوعية وهو ما توج في المؤتمر السابع للكومنترن في سبتمبر/أيلول 1935 عبر شعار «الجبهة الوطنية المتحدة» كتكتلٍ ضد الفاشية والنازية يضم تحت خيمته الشيوعيين والاشتراكيين الديمقراطيين والليبراليين. حضر بكداش المؤتمر مندوباً للحزب ثم بعد ثلاثة أعوام من الدراسة الحزبية في موسكو عاد إلى دمشق في فبراير/شباط 1937 ليصبح أميناً عاماً للحزب. بتوجيهاتٍ من موسكو، سافر بكداش إلى باريس صيف 1936 ليمارس دوراً مساعداً بحكم صلاته بالشيوعيين الفرنسيين في المفاوضات التى أجرتها الكتلة الوطنية مع حكومة ليون بلوم التي كانت جبهوية بين الاشتراكيين والشيوعيين الفرنسيين، وهو ما أفضى إلى معاهدة 1936 التي اعترفت فيها باريس باستقلال سوريا ووحدة أراضيها من دون لبنان وحددت مدة زمنية لانهاء الانتداب.
ولكن عندما عقد جوزيف ستالين وهتلر المعاهدة الألمانية-السوفياتية في 1939، عاد بكداش بالحزب إلى سياسة يسارية متطرفة واستحضر شعار فلاديمير لينين عام 1914 «حرب بين إمبرياليات» لتوصيف الحرب العالمية الثانية بين الألمان وبين البريطانيين والفرنسيين التي نشبت في الشهر التالي لتلك المعاهدة، وهو ما دفع السلطات الفرنسية في سوريا ولبنان لشن حملة اعتقالاٍت واسعة بحق كوادر الحزب. ولم يعد بكداش لشعار المؤتمر السابع إلا بعد الهجوم الألماني على الاتحاد السوفياتي في يونيو/حزيران 1941.
في تقريره أمام المؤتمر الثاني للحزب، لخّص بكداش السياسة العامة للحزب بالكلمات التالية: «من يقرأ ميثاقنا الوطني (20بنداً) يجده خالياً من ذكر الاشتراكية. فليس فيه تدبيرٌ واحد أو مطلب واحد ذو صبغة اشتراكية. إنه ميثاق وطني ديمقراطي لا أكثر ولا أقل. وهو برنامجنا في مرحلة التحرر الوطني التي نركز عليها جهودنا ونضالنا الى أن تقطعها بلادنا وتحققها بكاملها». ونصّ البند الأول من الميثاق على «استقلال سورية وسيادتها التامة وتحريرها الوطني الكامل». وفي بنود تالية: «نظام جمهوري ديمقراطي صحيح.. تأمين الحريات الديمقراطية العامة والفردية». وعلى المستوى الاجتماعي الطبقي: «حماية العمال بوضع تشريع للعمل يحفظ حقوقهم ويسوي العلاقات بينهم وبين أصحاب العمل.. تحرير الفلاح السوري من التأخر والبؤس والجهل».
لايمكن تفسير هذا الاعتدال الطبقي إلا من خلال ظرف الحرب العالمية التي كان الاتحاد السوفياتي يخوضها ضد الألمان بالتحالف مع الولايات المتحدة وبريطانيا التي طردت قواتها العسكرية قوات حكومة فيشي الفرنسية الموالية للألمان من سوريا ولبنان عام 1941بالتعاون مع قوات حكومة فرنسا الحرة بقيادة الجنرال شارل ديغول، فضلاً عن عدم رغبة الشيوعيين المحليين، بتوجيهٍ من موسكو، في زعزعة المجهود الحربي للحلفاء وعدم إشعال النار تحت قدمي لندن والديغوليين في دمشق وبيروت. يمكن هنا عزو سياسة الحزب لموجة توجه عامة عند ستالين خلال الحرب، كان أحد تجسيداتها حل الكومنترن في 1943 لتطمين الحلفاء أنه لم يعد هناك شبح الخطر الشيوعي. هنا، يمكن تفسير سياسة الحزب في المؤتمر الثاني من خلال علاقته بموسكو، كما يمكن تفسير التشدد في عامي 1931و1939 بتلك العلاقة، وكذلك اعتدال عام 1936.
مع نشوب الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو عام 1947، عاد التشدد اليساري الطبقي عند ستالين، وزاد بعد خلاف الأخير مع الزعيم اليوغسلافي جوزيف تيتو في 1948 حينما أراد الاستقلال عن موسكو، وهو ما انعكس من خلال موجة من العداء للنزعات الاستقلالية القومية في الأحزاب الشيوعية في أوروبا الشرقية والوسطى، ما قاد إلى موجة إقالات لقادة أحزاب وإعدامات في تلك الدول. انعكس ذلك في الحزب من خلال اتهاماتٍ بـ«التيتوية» للقيادي الدمشقي رشاد عيسى والأديب اللبناني رئيف خوري. قادت تلك الموجة اليسارية الطبقوية عند ستالين إلى موجة مماثلة عند بكداش يمكن تلمّسها في كتيب «حزب العمال والفلاحين»، وهو عنوان تقرير قدّمه بكداش في الشهر الأول عام 1951 أمام اجتماعٍ مشترك للقيادة المركزية للحزبين السوري واللبناني احتوى على تصلبٍ يساري ينحو تجاه أن «القوة الرئيسية للثورة الوطنية الديمقراطية هي الطبقة العاملة، وأن حلفاءها الرئيسيين هم جماهير الفلاحين». كما حمل التقرير هجوماً على أحزاب البورجوازية الوطنية، مثل حزب الشعب والحزب الوطني، مع «فضح الجماعات والأحزاب التي تزعم أنها اشتراكية»، في إشارة لحزبي أكرم الحوراني وكمال جنبلاط.
في نفس الاتجاه وكمنعكسٍ للحرب الباردة، أتى قبول موسكو بقرار تقسيم فلسطين عام 1947 في ضوء مراهنة الكرملين على استقطاب الحركة الصهيونية بفروعها العمالية اليسارية (حزب الماباي)واليمينية القومية (الاتجاه التحريفي) التي كانت تنظيماتها العسكرية مثل «الهاغاناه» و«أرغون» و«شترن» تخوض مواجهاتٍ مسلحة مع البريطانيين منذ عام 1940. كان قبول الحزب الشيوعي في سورية ولبنان قرار التقسيم أول صدامٍ له منذ تأسيسه مع اتجاهٍ معاكس يمثل غالبية اجتماعية، وكان الثاني معارضته الوحدة السورية – المصرية عام 1958. ومن جهة أخرى، أدت معارضة الحزب للحكم العسكري عام 1949، مع حسني الزعيم، ومن ثم أديب الشيشكلي بعد انقلابه الأول في ديسمبر/كانون الأول 1949والثاني في نوفمبر/تشرين الثاني 1951، إلى عودة الحزب لمرحلة النمو العددي التي توقّفت مع قرار التقسيم. وكان الحزب، مع سقوط حكم الشيشكلي في فبراير/شباط 1954، قوي البنية، ما جعله من أهم الأحزاب السورية خلال فترة الحكم بين 1954 و1958.
كتكثيف: ذكر بكداش في المؤتمر الثاني بأن الحزب كان يعد 7000 عضوا. وفي العشرينيات، لم يتجاوز المئات. في الثلاثينيات، دخل في خانة الآلاف. أما في مرحلة 1945 – 1947، تخطى الآلاف الى العشرة الأولى. ويبدو أن دور الاتحاد السوفياتي في دحر النازية انعكس تالياً في موجةٍ شيوعية في المجتمع أكثر من كونها حراكاً ذاتياً اجتماعياً.
كانت العلاقة بموسكو منذ عام 1928مفتاحاً لتفسير سياسة الحزب، وهو ما لا نجده في أحزابٍ شيوعية أخرى في ايطاليا والسودان والصين وفييتنام مثلاً. كان الحزب ضعيفاً في الوسط الفلاحي، ولم يملك قوة مرموقة داخل الطبقة العاملة، بخلاف شيوعيي السودان. وكان حضوره قوياً عند المثقفين وفي الفئات الطلابية الجامعية والمتعلمين وحملة الشهادات الجامعية في النصف الأول من الخمسينيات، فضلاً عن الأقليات الدينية والقومية.
مراجع:
1- نذير جزماتي: “الحزب الشيوعي السوري 1924 – 1958″، مطبعة ابن حيان – دمشق – 1990.
2- أرتين مادويان: “حياة على المتراس”، دار الفارابي – بيروت – 1986.
3- مكسيم رودنسون: “مشكلات الحزبين الشيوعيين في سوريا ومصر”، مقال منشور في فبراير/شباط 1958 في العدد 93 من الدفاتر الأممية التي كان يصدرها الحزب الشيوعي الفرنسي. والمقال موجود في كتاب رودنسون: “الماركسية والعالم الاسلامي”، دار الحقيقة – بيروت – 1982- ص 269-305. بسبب المقال، تم فصل رودنسون من عضوية الحزب الشيوعي الفرنسي.
4- زياد الملا: “صفحات من تاريخ الحزب الشيوعي السوري 1924 – 1954″، دار الأهالي – دمشق – 1994.