سوريا وإيران: علاقة استراتيجية مزمنة رسمت ملامح مابعد عام 2011

شورش درويش

لا يمكن النظر إلى العلاقة الإيرانية السورية في مرآة ما حصل عام 2011 وما تلاها من سنين دون العودة سنوات للوراء لرصد طبيعة هذه العلاقة التي بدأت في وقت أسبق على الثورة الإيرانية 1979، وتعززت بعد أن تمكن روح الله الخميني من إشادة نظام ثيوقراطي يضع الولايات المتحدة وإسرائيل في أعلى سلم أعداء الجمهورية الإسلامية. ورغم أن العلاقة السورية الإيرانية مرّت بمراحل شدّ وجذب، إلّا أنها بقيت استراتيجية لكلا الطرفين وأبعد ما تكون عن علاقة تكتيكية أو مصلحية آنية. من المفيد العودة بضعة عقود للوراء وتعقّب السياق الزمني لرصد طبيعة هذه العلاقة والوشائج التي تجمع نظامين متنافرين من حيث الشكل ومتماثلين في مصالحهما الإقليمية.

البدايات: سوريا تعثر على حليف استراتيجي

مطلع الستينيات، بدأت العلاقة السورية مع المعارضة الإيرانية لحكم الشاه محمد رضا بهلوي، ذلك أن سوريا «التقدّمية» كان في صالحها دعم الحركات والأحزاب التي تعادي الأنظمة الحليفة لإسرائيل والولايات المتحدة. إلّا أن العلاقة تنامت فعلياً مع حكم الرئيس حافظ الأسد الذي كان يكره حكم الشاه الذي وقف إلى جانب إسرائيل وتبعيته للولايات المتحدة، خاصة بعد أن أخفق الأسد في ثني الشاه عقب زيارته لطهران عام 1975 عن تبديل سياسته المؤيّدة لإسرائيل على حساب العرب. شكّلت تلك الزيارة المدخل الذي ستلج منه سوريا إلى عالم دعم المعارضات الإيرانية والاستفادة من تغيير النظام في إيران لمصلحتها.
لم يشفع لدى حافظ الأسد وقوف إيران الشاهنشاهية إلى جوار العرب في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 لما عكسته من رغبة في النفوذ إلى قلب المشهد الإقليمي والتقرّب من سوريا لممارسة الضغط المعاكس على معارضتها المتصاعدة في لبنان بعد بروز الإمام موسى الصدر في المشهد اللبناني وتأمينه ظهيراً جيّداً للحركة الشيعية النشطة في إيران. فالصدر، المولود في قم والذي تلقى تعليمه في النجف والأزهر، سيصبح أحد الشخصيات المحورية في سيرة العلاقة بين سوريا وإيران، وزيارته إلى سوريا على 1972 ثم الفتوى التي أصدرها عام 1973 فيما خص اعتبار العلويين في لبنان شيعةً، انعكس تالياً على علويي سوريا الذين طالما وصفهم الشيعة والسنة على السواء بـ«المهرطقين». وبالتالي، نجح الصدر في إدماج العلويين في العالم الشيعي، بعكس السنة الذين اتخذوا مواقف متصلّبة تجاه هذه الجماعة.
لكن علاقة الأسد لم تقم على جواذب طائفية وفق التصريف السنّي لطبيعة هذه العلاقة، بل جاءت مبنيّة على مصلحة سوريا البعثية في التخلّص من حكم الشاه. لذا، كانت دمشق تمدّ المعارضين الإيرانيين الشيعة واليساريين والكرد بجوازات سفر وتصاريح إقامة وتنقّل. ومع الثورة الإيرانية، أبدت سوريا دعماً وحماسة لتغيير نظام الشاه وكانت أوّل بلد عربي أيد الثورة، لا على مستوى النظام فحسب، بل تغنّى مثقفون سوريون كثر من بينهم أدونيس ونزار قبّاني بالثورة الإيرانية وكالوا لها المديح.
قبل وصول الخميني إلى الحكم، كان بعثا سوريا والعراق ينظران لإيران كعدوّ إيديولوجي يتبع للولايات المتحدة ويقف إلى جانب إسرائيل ويعترف بها، إلّا أن البعثين مضيا في طريقين مختلفين بعد نجاح الثورة الإيرانية لاسيما مع حرب الخليج الأولى 1980- 1988. فإيران، وفق إيديولوجية بعث العراق، مركّب مجوسيّ ورجعيّ يسعى لتصدير ثورته للعراق ويستوجب تحطيمه، فيما وجدت دمشق في طهران الحليف الجديد في معركة تطويق إسرائيل، لذلك اختارت سياسة رفض «الحرب العبثيّة» ومعارضة «عدوانية صدام حسين».

العلاقة الإيرانية السورية تتجاوز الاختبارات الصعبة

رغم الوئام السوري الإيراني، إلّا العلاقة بين البلدين خضعت لاختبارين حقيقيين تمثّل الأول ببروز حزب الله المدعوم إيرانياً وتنامي دوره على حساب حركة أمل حليف دمشق الأثير ما تسبب بارتباك طفيف في العلاقة بين البلدين في الفترة الممتدة من 1986 إلى 1989. لكن لبنان، بوصفه مختبر العلاقة بين الحليفين الجديدين، لم يتحوّل إلى ساحة للتنافس بقدر ما كان ساحة لاختيار حلفاء جدد أكثر موثوقية من الفصائل الفلسطينية التي لا يمكن التحكّم بها طويلاً. كما أن استراتيجية الأسد أظهرت ثقة بحليفه الجديد (إيران) بعد خروج مصر من مدار الحرب العربية الإسرائيلية عقب اتفاقية كامب ديفيد في مارس/آذار 1979.
أما الاختبار الثاني للعلاقة، فكان خلال مشاركة سوريا في المفاوضات العلنية مع إسرائيل بمدريد 1991 برعاية أميركية، وما تبعها من مفاوضات سرية في أوسلو، وكذلك الأمر في الاتصالات والمفاوضات التي جرت لاحقاً في عام 1999 وفي 2000 عندما انطلقت مفاوضات بين الجانبين في مدينة شيبردستاون الأميركية في ولاية فيرجينيا التي أشرف عليها الرئيس الأميركي بيل كلينتون ووزيرة خارجيته مادلين أولبرايت، وقتذاك، لم تؤدي هذه السلسلة من الاتصالات ومحاولات التفاوض إلى تقويض ثقة إيران بنظام الأسد الأب. ولا عندما سعى بشار الأسد لإعادة إحياء المفاوضات عام 2001 وأعلن استعداد دمشق للدخول في مفاوضات مع حكومة آرييل شارون وتجديده مسعاه في عام 2004. وفي كل هذا المسار الطويل من المفاوضات والاتصالات مع إسرائيل، لم تهتز العلاقة الإيرانية السورية. وقد يكون مردّ الأمر ثقة طهران بسياسة «التفاصيل» والمماطلة التي تجيدها دمشق والتي لن تنتج أي عملية سلام فعلية. بل بدت إيران واثقة من صعوبة الوصول لعملية سلام سعت حكومة العدالة والتنمية لأن تكون عرّابتها منذ توليها السلطة في تركيا وتطبيعها العلاقات مع دمشق.

حربا الخليج الأولى والثانية

إبان حرب الخليج الأولى، كانت العلاقة مع إيران مكلفة على سوريا في المحيط العربيّ لا سيما دول الخليج المؤيّدة والداعمة لصدّام حسين بوصفه «حارس البوابة الشرقية»، فيما كانت العلاقة مع سوريا مكلفة أيضاً على إيران التي وقفت ضد جماعة الإخوان المسلمين واتهمتها عام 1986 بخطف السفير السوري بطهران إياد المحمود لعدّة ساعات، وأنها إلى ذلك تتبع نظام صدام حسين. هذا الموقف الحاد لنظام آيات الله «الثيوقراطي» من الجماعة يعكس أهمية نظام دمشق «العلماني» في ميزان العلاقة مقابل الإخوان المسلمين. وكل ذلك تجاوز العلاقة الطيبة بالجماعة وتأثر الشيعية السياسية بأفكار الإخوان المسلمين مع تجربة نواب صفوي مؤسس «فدائيان إسلام» المتأثر بأفكار سيّد قطب، ودخول خامنئي عالم السياسة على يدي صفوي وبوصفه معجباً بقطب ومترجماً لكتابيه «هذا الدين» و«معالم في الطريق» إلى الفارسية.
قبيل حرب الخليج الثانية، تخوّفت كل من طهران ودمشق من الدور المتعاظم لصدام حسين بعد أن نجح في حربه التي أظهرها بأنها حرب بالوكالة عن «الأمة العربية» وسعى للاستثمار في نتائجها. لذلك، ركّز الأسد على عمقه الإقليمي مجدداً عبر زيارة طهران 1990، وهي زيارته الأولى لها منذ الإطاحة بحكم الشاه، والتي ستتبعها سلسلة من اللقاءات الرسمية والاتفاقات الاقتصادية والاستثمارية والعسكرية والأمنية. مع غزو صدام الكويت، بدا أن منطق حافظ الأسد المتخوّف من عدوانية صدام حسين كان صائباً، كما أن «إعلان دمشق» الموقع في مارس/آذار 1991 بشأن التنسيق والتعاون بين الدول العربية الصادر عن مؤتمر وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي ومصر وسوريا، فكّ طوق العزلة النسبية عن دمشق حين أثبتت حماقات صدام حسين صوابية الاتجاه السوري الداعي إلى استيعاب طهران بدل الحرب عليها. ولعل هذا التقارب السوري العربي أعطى للأسد فرصة التقليل من المخاوف تجاه طهران وأعاد القراءة لكتاب آخر عنوانه أن الخطر كامن في نظام صدام. تفهّمت إيران أيضاً مشاركة سوريا في حرب تحرير الكويت إلى جانب واشنطن «الشيطان الأكبر»، ودون أن تلقي باللائمة على حليفها السوري. قد يكون مردّ الأمر أن انضمام سوريا للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة ساهم في قطع الطريق على إسرائيل المتحفّزة لدخول الحرب أو حتى الرد على الاستهدافات العراقية بصواريخ سكود البالستية.

لغة الاقتصاد والدفاع المشترك

لكن ما عزّز من أثر التحالف السوري الإيراني كانت الشراكة الاقتصادية، إذ سيجد الاقتصاد الإيراني المحاصر وضعيف الأثر إقليمياً في سوريا سوقاً متنامية للصناعات التحويلية والكيميائية وتصدير الحافلات والسيارات. وستقوم إيران لاحقاً بإنشاء معمل لصناعة السيارات في سوريا في عهد بشار الأسد. وبدا أن المستقبل واعد أمام التجار والمستثمرين الإيرانيين، فيما صدّرت سوريا المواد الخام لإيران كالفستق الحلبي والحرير والفوسفات، ليتراوح حجم التبادل التجاري منذ مطلع الألفية وحتى قبل عام 2011 لحدود 3 مليار دولار، فيما تراجع الرقم إلى ما دون 2 مليار بعد عام 2011.
خلا الجانب السياسي/الاستراتيجي، كان التعاون العسكري يقف في سلم أولويات الجانبين، إذ ستوقع سوريا سلسلة من الاتفاقيات العسكرية صعوداً منذ عام 2004 واتفاقاً للدفاع المشترك في يونيو/حزيران 2006 واتفاقية إضافية للتعاون العسكري في عام 2007 بعد مرحلة الغزو الأميركي-البريطاني للعراق. ولعل الوجود الأميركي، الجار الطارئ الجديد، في العراق تحوّل إلى مشعر خطر جديد يتهدد جاريها، الأمر الذي استلزم جهوداً أمنيّة وعسكرية إضافية لتطويق الولايات المتحدة عبر إسناد ودعم المعارضة و«المقاومة» العراقية وتمرير الجهاديين لمحاربة القوات الأميركية. كانت صناعة مستنقعٍ عراقيّ واحدةً من المشاغل الرئيسية للنظامين الذين واظبا على فكرة التضييق على الأميركيين ودفعهم للانسحاب بأي ثمن؛ فقد تحسس النظامان رقابهما إثر إعلان جورج بوش الابن عن أن الأنظمة الديكتاتورية ستسقط مثل أحجار الدومينو، وهو التعبير الأثير في السياسة الأميركية عقب زوال القبضة السوفيتية على دول ما سمّي بالمنظومة الاشتراكية (حلف وارسو) في أوروبا.

حزب الله صمغ آخر للعلاقة

لم تساهم حرب تموز 2006 في نقل حزب الله إلى مستوى آخر داخل لبنان فحسب، بل في إعادة إحياء الدور السوري في لبنان بعد أن تعرّضت دمشق لضغوط داخلية لبنانية وأخرى قادتها الولايات المتحدة عبر قانون «محاسبة سوريا واستعادة السيادة اللبنانية» الذي تمت المصادقة عليه في 12 ديسمبر/كانون الأول 2003، وقرار مجلس الأمن رقم 1559 عام 2005 الذي دعا إلى خروج كافة القوات الأجنبية من لبنان واستعادة لبنان استقلاله وسيادته.
خوض حزب الله حربه ضد إسرائيل مكّنها من أن تحفر لنفسها مكانة عميقة داخل المجتمع السوري، حتى المجتمع السنّي المحافظ، وفي أوساط المعارضة على ضآلة حضورها وحجمها وقتذاك. بل حتى أن جماعة الإخوان المسلمين أبدت افتتانها وتأييدها لحرب حزب الله، وسعت في عام 2007، عبر رئيس جبهة العمل الإسلامي في لبنان الداعية فتحي يكن إلى إيجاد صيغة للتفاهم مع النظام وطيّ صفحة الماضي والسماح لأعضاء وقيادة الجماعة بالعودة لسوريا، فيما صرّح يكن أن موقفه «يتماهى مع موقف المرشد العام للإخوان المسلمين مهدي عاكف الرافض للتآمر على النظام السوري، لأنه يقف في وجه إسرائيل وأميركا».
واقعياً، قرّبت أنشطة حزب الله المعادية لإسرائيل ومواقف طهران المعادية «للجار» الأميركي الشيعية السياسية والمسلّحة من الوسط السوري. لذا، كان من الطبيعي أن يلحظ السوريون المكانة التي حظي بها الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله عبر رفع صوره ووضعها إلى جانب صورة بشار الأسد على حافلات النقل العمومي والمركبات. ساهم الأثر الوجداني لحرب تموز في إرساء صورة مغايرة للشيعة داخل سوريا، والتي ستتلاشى بشكل شبه نهائي مع الحرب الأهلية السورية.

خاتمة

ليس من الدقيق إهمال الجانب التاريخي للعلاقات السورية الإيرانية الذي راكمه نظاما البلدين خلال أزيد من ثلاثة عقود واعتبار التدخّل الإيراني في مسار الحرب الأهلية السورية على أنه محض عمل طارئ وارتجال سياسي أو مغامرة غير محسوبة، أو حتى أنه يدخل في سياق «احتلال عاصمة عربية» أخرى على ما تقوله أدبيات المعادين لتنامي النفوذ الإيراني في المنطقة، ذلك أن سوريا، في المخيال الاستراتيجي الإيراني، هي مجال حيوي ومخفرها المتقدّم لحماية النظام الإيراني.
في وقت سابق من عام 2012، كان الرئيس العراقي الأسبق جلال الطالباني وجد أن حركة الاحتجاجات لا يمكنها أن تطيح بحكم الأسد بالنظر إلى طبيعة النظام السوري، والأهم من ذلك، للدور الإيراني في سوريا، إذ اعتبر أن طهران ستقف دون أدنى شك بكامل ثقلها للحؤول دون سقوط نظام الأسد. بهذا المعنى، ستواصل إيران، ومعها حزب الله، وقوفها إلى جانب النظام السوري حتى وإن كانت الخسائر المالية على طهران أكبر من العوائد الاقتصادية التي حققتها في العقود الماضية، وحتى وإن اضطرّت لخسارة موقعها في غزة والقبول بهزيمة حليفها السني الوحيد في المنطقة (حركة حماس)، ذلك أن العلاقة بالحركة تكتيك إيراني يرقى لأن يكون استراتيجياً، فيما يمكن إدراج العلاقة بالنظام السوري بأنها استراتيجية من الأساس، وربما تحدد مصير إيران في المنطقة وعلى ضفاف المتوسط وبالقرب من إسرائيل.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد