“النقشبندية المقاتِلة” والطابع الإسلامي للقومية الكردية (2–3)

حسين جمو

تمهيد:
شكّلت حركة الإصلاحات العثمانية (خط كلخانة 1839 خط همايون – 1856) حاجة اقتصادية لاستيعاب متطلبات الاندماج في السوق الرأسمالية الصاعدة في أوروبا. تحولت الدولة العثمانية إلى سوق لتوفير المواد الأولية للمصانع الأوروبية، وعلى وجه التحديد البريطانية. احتلت تسع سلع، هي التبغ والقطن والحرير والصوف والقمح والشعير والزبيب والتين والأفيون نحو 60 % من الصادرات العثمانية بين عامي 1850 – 1870. وتحولت الدولة إلى احتياطي زراعي لاقتصاديات الدول الرأسمالية (1). وخلال سنوات معدودة (1844 – 1859)، ارتفعت قيمة الأرض بنسبة 75%، وازداد ارتفاع أسعار الأرض تسارعا مع ازدياد الطلب على المنتجات الزراعية. فتحولت الأرض إلى سلعة مرغوبة تهاف الأقوياء للحصول عليها. وانجرف كبار التجار مع التيار الجديد، بمن فيهم المسيحيون من اليونانيين والأرمن الذين عرفوا بتوجههم نحو أعمال التجارة والنشاط الحرفي (2).
في هذه البيئة الاقتصادية الجديدة، تدهورت حركة التجارة الداخلية التي كان يتولاها تجار محليون مع وسطاء زراعيين وعشائريين، وباتت الدولة مهتمة بالحصول على كامل الانتاج بدون وسطاء لتقليل التكاليف من أجل التصدير، وبضرائب باهظة على الفلاحين في الوقت نفسه.
بتحول الدولة العثمانية إلى سوق للمواد الأولية تغيرت القواعد السياسية في علاقاتها بالمجموعات السكانية. فلم تعد تنتظر ضريبة سنوية من الأمراء الكرد في بدليس وبوطان وهكاري، بل باتت تقوم بتحصيل الضريبة عبر أنظمة جديدة وتحصل على الانتاج أيضا بطريقة تضمن لها تحقيق الربح بشكل مضاعف. تطلبت الرؤية الجديدة إلغاء الإمارات الكردية. بالنسبة للوضع في ولايات كردستان وتصاعد التوتر الديني بين المكونات والطوائف. واختفى، عموما،ً من الساحة شيئا فشيئا السلالات العريقة التي كانت غنية في القرن الثامن عشر. وبدأ معه عهد طبقة جديدة من الأغنياء وملاكي الأراضي الكرد، هي مزيج من بقايا السلالات الأميرية وكبار طبقة شيوخ النقشبندية. لكن هذا المزيج فقد مكانته السياسية رغم الثروة التي يمتلكها أفراده.

صدمة الإصلاحات والتجارة البريطانية


إلى جانب الأمراء الكرد فقدَ مشايخ الطرق الدينية مكانتهم أمام حركة التغييرات الصادمة فيبنية الدولة. وبات المسار الديني للسلطنة موضع شك من جانب مشايخ الطرق. والمسارالسياسي موضع رفضٍ بالنسبة للطبقات الأميرية المهزومة. مع ضرب الدولة للنخب الكردية الإقطاعية. وتصاعد نفوذ الدول الغربية في اسطنبول بات الكرد للمرة الأولى بلا حماية ولا مرجعيات أميرية. والواقع أن حركة المقاومة النقشبندية ضد الدولة العثمانية إنما كانت في إطار “محاولة تصحيح انحراف هذه الدولة وتحيزها للمسيحيين” وليس بغرض البحث عن بديل للدولة. هذه المعادلة لا تنطبق على فترات استثنائية في علاقة النقشبندية بالدولة، وذروة التنافر كان في عام 1913 خلال ثورة بدليس التي كانت خروجا فعليا على السلطنة والخلافة وليس تصحيحا لمسارها.
في المقابل، أدى ضعف إيران وتخلخلها أمام روسيا بعد معاهدة غولستان عام 1813 إلى طمأنة العثمانيين بزوال خطر التمدد الإيراني في ولاياتها الشرقية الكردية خلال القرن التاسع عشر. هذا الضعف الفارسي أدى إلى تراجع مكانة الكرد لدى السلطنة. فالكابوس الذي هدد العثمانيين طيلة ثلاثة قرون استيلاء إيران على كردستان منذ جالديران بات مستبعداً وبضمانات بريطانية. ورداً على ذلك، اتخذت الإمارات الكردية، بوطان وراوندوز وبادينان وهكاري، موقف الحياد في الحرب الروسية العثمانية ) 1828 – 1829 (، وحارب الإيزيديون بقيادة حسن آغا في صفوف الجيوش الروسية (3).
لم يستثمر الروس في التناقض الكردي التركي. وبنوا توسعهم في الأراضي العثمانية بالاعتماد على العنصر الأرمني، الأمر الذي ضيّق من الخيارات الكردية في البحث عن بديل إقليمي، وتعزز بذلك تفويض الأمور للقادة الجدد: شيوخ النقشبندية. كانت النقشبندية الكردستانية خلال حكم كل من محمود الثاني وعبدالمجيد الأول وعبدالعزيز ومراد الخامس (1808 – 1876)، تعيش فترة صدمة سياسية ساهمت في تعزيز تعصبها الديني. وتحولت تدريجيا إلى حركة عسكرية جهادية ضد السلطنة وأبعد ما تكون عن مفاهيم الزهد الاستسلامي التي سلكتها طرق أخرى مثل المولوية والرفاعية.
وفيما تُظهر سير كبار النقشبندية في حلب ودمشق واسطنبول وبغداد، بعد وفاة مولانا خالد النقشبندي، تحولهم إلى الدعاء للسلطان وولاة الأمر، وأداة للنظام ضد بقايا البكتاشية، فإن النقشبندية الكردستانية بقيت ردحا من الزمن قوة معارضة ضد موظفي السلطنة وجيوشها في أنحاء كردستان مع الحرص على إظهار الولاء ولو اسمي ا للسلطان.
إن النزعة الثورية التي جاءت بها النقشبندية كانت في الحقيقة نزعة محافظة، مقاومة للتغييرات السلبية، التي اجترحتها الدولة العثمانية في بنية الدولة وطالت تأثيراتها الكرد وهددت مكانة النخب الصاعدة. أسفرت حركة التغيرات الإدارية والاقتصادية العثمانية عن ظهور قواعد جديدة في العلاقات بين المكونات الدينية. فقد ارتفعت وتيرة التعصب الديني في أنحاء كردستان وأرمينيا، من ممر القوقاز شمالاً وحتى سنجار جنوبا.ً وشهد النصف الأول من القرن التاسع عشر حركة غامضة تعد امتداداً لعقود طويلة سابقة وتمثلت في إزاحة الإيزيديين من أطراف وان وهكاري وبوطان. ويعد التواجد التاريخي للإيزيديين كمكون شكل كثافة سكانية قوية في ولايات كردستانية عديدة صفحة ما زالت مغلقة إلى الآن في التاريخ الكردي. لا توجد روايات تسند تغير الخريطة الدينية في كردستان إلى مشايخ النقشبندية أو غيرهم، إلا أنه من الصعوبة بمكان أن يتم ذلك بشكل انتقائي بدون توفر غطاء ديني وسياسي (4).
يعد النصف الثاني من القرن التاسع عشر بداية فعلية لافتراق النقشبندية الكردستانية عن نقشبندية المدن العثمانية الكبرى. فلم تعد المرجعية الكبيرة في بلدة نهري تقود خلفاء الطريقة في المدن الأخرى حيث انتهت القيادة المركزية مع وفاة مولانا خالد عام 1827 بدمشق. وهذا ما أدى إلى تبلور النقشبندية الكردستانية بشكل أوضح من السابق. وكان لها تأثير في تعزيز الطابع الإسلامي للقومية الكردية حتى مطلع القرن العشرين. خلال مرحلة التوتر مع الدولة برز مجدداً التباين بين النقشبندية والقادرية. فالأولى، المحمّلة بالطموح السياسي، دخلت في صِدام مبكّر مع الدولة في مراكزها الكردستانية، فيما حافظت القادرية في السليمانية على الهدوء، وبقيت تمارس مهمتها الرئيسية في صد موجة التشيّع. ولم تقم القادرية السليمانية بعصيان ضد القضاء على إمارة بابان عام 1850 ، على عكس النقشبندية التي حشدت مريديها للقتال إلى جانب إمارة بوطان عام 1848 .
كان سيد طه النهري الممثل الشرعي للطريقة النقشبندية في بلدة نهري بمنطقة شمزينان (شمدينلي بالتركية)، وهو الذي عيّن الشيخ عبدالرحمن البارزاني أخو الشيخ عبدالسلام الأول، خليفة له في منطقة بارزان، ليقف ضد أطماع آغوات الزيبار. فتتحول بارزان أيضا من القادرية إلى النقشبندية.
وسيد طه هو ابن أخ الشيخ عبدالله النهري الذي رافق مولانا خالد في رحلته إلى الهند، ووالد الشيخ عبيد الله النهري، المعروف بقيادته أكبر ثورة كردية في القرن التاسع عشر عام 1880. وهو إضافة لمكانته الدينية يعد من كبار وجهاء عشائر الهركية الشهيرة بوقائعها الحربية، رغم أنه إثنيا ينحدر من عائلة تصل نسبها إلى البيت الهاشمي. والجدير بالملاحظة أن كل مراجع الطرق الصوفية الكردية انحدروا من عشائر كبرى. كما ذكر سابق ا فخالد النقشبندي من عشيرة الجاف الكبيرة، ومعروف النودهي من العائلة البرزنجية، وسيد طه من الهركية. الأمر الذي يتيح لمشايخ الصوفية إذا أتيحت لهم الفرصة مع الرغبة الجمع بين السلطتين الاقطاعية والروحية.
والواقع أنه لا توجد تفسيرات كافية لانحياز شيخ النقشبندية الكبير في شمال كردستان (تركيا)، سيد طه النهري، إلى “الأمير بدرخان” في المعركة الفاصلة ضد العثمانيين عام 1847 في جزيرة بوطان. إلا أن بعض المعطيات يمكن أن تقود إلى تفسيرات أخرى. فعلى الرغم من مظاهر التسامح التي أبداها الأمير بدرخان مع رعيته من غير المسلمين إلا أنه أظهر قسوة كبيرة خلال إجبار الإيزيديين في مناطق نفوذه بالتحول إلى الإسلام. وفي عام 1843 شن هجوما عبر 70 ألف مقاتل على منطقة قبائل التياري النسطورية.
إنّ كلاً من سيد طه النهري والأمير بدرخان، يمثلان أكبر قوتين في كردستان في تلك الفترة. ولإدراك العثمانيين ذلك فإن والي دياربكر المدعو محمد خير الدين (النقشبندي) أرسل رسائل إلى عدد من مشايخ الطريقة في كردستان، يدعوهم فيها إلى تقديم النصح للأمير بدرخان، ويرغّبهم في مد يد العون للسلطان وأركان دولته العلية، وذلك بدعوة مريدي سيد طه إلى التخلي عن الأمير الكردي وترك صفوفه (5). ولقيت دعوته استجابة من بعض الشيوخ، إلا أن النواة الرئيسية للطريقة بقيت مناهضة للعثمانيين في المعركة.
ويظهر من طبيعة الصياغة التي أرسلها الوالي “النقشبندي” إلى السلطان العثماني عبدالمجيد الأول، أنه كان مندوبا أمنيا في النقشبندية بغرض الاختراق. وهذا الأسلوب سيصبح لاحقا من تقاليد الأمن العثماني وانتقل بعد ذلك إلى الجمهورية التركية عبر استيلاء فتح الله غولن على الطريقة النورسية القادرية بعد وفاة الشيخ سعيد النورسي عام 1960.
في معركة إمارة بوطان، ذكرت أربعة أسماء من مشايخ الطريقة النقشبندية، أبرزهم “صالح أفندي” الذي كان مسموع الكلمة لدى بدرخان، فيما غاب ظهور سيد طه، المرجع الأكبر في تلك الأنحاء، الذي نجا بعد الهزيمة عبر احتمائه بالقائد الاقطاعي موسى بك الشمزيناني. والمرجّح أن غياب سيد طه عن المشهد كان بداعي السلامة. رغم محاولات السلطنة استمالة النقشبندية إلا أن النواة الرئيسية فيها بقيت مخلصة للأمير الكردي الأخير، بدرخان بك، ضد الجيش العثماني. أما سرّ هذا التلاقي بين الأمير والشيخ، فيبدو أن بدرخان قد حقق رغبات سيد طه بالهجوم على المسيحيين لاستمالة جانبه وتوافقهما على مواجهة الخطر المشترك: أرمن اسطنبول الذين مدوا نفوذهم إلى الريف الأرمني. من النادر أن نجد وثيقة تربط بين وقائع بدرخان مع النساطرة الآشوريين والإيزيديين رغم شهرته بالتسامح وبين خطط النقشبندية المقاتلة. لكن هناك رسالة بعثها القنصل البريطاني في الموصل إلى سفارة دولته في بغداد بتاريخ 19 أيلول 1846، قبل المعركة الفاصلة بعام واحد:
“في هذه المرة تحالف كل الأمراء في المنطقة.. ومع أن الأمراء الأكراد وعلى رأسهم بدرخان بك ونور الله بك وعبدالصمد بك يخاصمون بعضهم البعض ولا يتفاهمون فيما بينهم فقد طلب رجلان يعدان بينهم من الأولياء وهما الشيخ محمد الموصلي والشيخ يوسف الزاخوي ترك المنافسة فيما بينهم والاتحاد مع بدرخان بك لتدمير النصارى، وأن لهم الخيار في العودة إلى خلافاتهم بعد الانتهاء من هذه المهمة” (6).
جلب قضاء الدولة العثمانية على الإمارات الكردية، انهياراً في العلاقات الكردية الأرمنية التي كان النظام السياسي لهذه الإمارات الوراثية الضامن الوحيد لتوازن العلاقات. سقطت إمارة بوطان، واختبأ سيد طه في الجبال. لكن لم يسلّم الكرد عموما بالهزيمة، واعتبروها جولة في إطار مؤامرة يقودها أرمن اسطنبول الحلفاء الجدد للدولة. وحتى العقد الأول من القرن العشرين كان الأرمن ما زالوا يرددون الأغاني التي توارثوها احتفالاً بسقوط إمارة بوطان (7). إلا أن هذا السقوط دشّن لمرحلة بائسة في التاريخ الكردي. فقد شكل نمو إمارة بوطان وتوسعها في كردستان مصدراً لتعزيز نزعة الاستقرار الطوعي لكثير من القبائل البدوية.
وقدم الباحث الروسي ديتيل الذي زار كردستان وإيران بين 1842 – 1845 ملاحظة في هذا السياق:
“في وطن بدرخان يسافر الطفل وفي يديه الذهب”. ويضيف في موضع آخر: “بهذا الشكل فإن الرحّل من الجبل يأتون إلى أرض بدرخان بك ويصبحون رعيته ومحاربيه وذلك كله لأن أرض هذا الخان يسودها الأمن والهدوء والنظام” (8).
ساهمت العوامل الاقتصادية المتردية في صعود النقشبندية كملجأ للضعفاء، وكسند للأقوياء المهزومين. وينبغي التركيز عند هذه النقطة على الدور البريطاني الضاغط، ومعها روسيا، لدفع كل من الدولتين العثمانية والإيرانية التوقيع على معاهدة أرضروم عام 1847 . بموجب هذه المعاهدة تم تقسيم منطقة زوهاب الحدودية بين البلدين بحيث بات القسم الأكبر ضمن حدود العثمانيين. وتعهدت إيران بعدم التدخل في شؤون منطقة السليمانية، وتنازلت عن كل حقوقها فيها. وأعطت تركيا تعهداً مماثلاً بالنسبة للمحمرة والشاطئ الأيسر لشط العرب. كما تضمنت المعاهدة وقف حركة القبائل الكردية على الحدود بين البلدين (9). وبالتالي، انقطعت مشاتي هذه القبائل عن مراعيها الصيفية بسبب الحدود.
تسلط رسالة وجهها القنصل الروسي في أرضروم، أوبرميلر، إلى سفير بلاده في اسطنبول، أغناتييف، بتاريخ 28 شباط 1873 ، الضوء على خروج المسألة الكردية من أيدي العثمانيين لصالح بريطانيا:
“إن الدور الأول في المسألة الكردية لا يلعبه الأتراك وإنما الانكليز”، وإن القنصل الانكليزي المحلي “لديه أدق التعليمات حول مهمة القضاء التام وإلى الأبد على المقاومة الكردية”، ولأجل هذا الغرض فإن السفير الانكليزي في اسطنبول، المدعو إيليوت، “يملك قائمة بأسماء الأكراد المتنفذين، وهو بسبيل استصدار أوامر نفيهم من كردستان” (10).
إن اضطراب منطقة كردستان وخرابها تزامن مع توغل بريطانيا في عمق الأناضول. ويتوضح ذلك في مذكرة خاصة أعدها السياسي وعالم الآثار البريطاني، ليارد، واعتمدها السفير البريطاني في اسطنبول، اللورد ستافورد كانينغ. فقد جاء فيها مشروعٍ قَلَبَ عالي كردستان سافلها وأسست لبذرة المركزية التركية. ومن بينها إمكانيات فتح طريق جديد إلى وسط إيران من خلال (أرضروم تبريز بغداد كرمانشاه) وكتب ليارد أن “الخط المستقيم من البحر المتوسط إلى أصفهان يمر من اسكندرون وحلب والموصل وراوندوز، وأن الطريق من اسكندرون إلى الموصل معروفة. والقسم الباقي إلى أصفهان يظل مغلقا.ً ذلك لأنه يمر عبر أقاليم تسكنها القبائل المشاغبة، ولأن السير عليها تعرقله الأطماع القسرية للسلطات المحلية، أكراداً وأتراكا”ً. وشددت المذكرة على أن “الطريق الأقصر إلى فارس هي الخطوة الأولى المهمة لتوسيع تجارتنا” (11).
هكذا وجدت النقشبندية التي ورثت قيادة الكرد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر نفسها وجها لوجه مع بريطانيا وروسيا معا،ً فيما كانت الدولة العثمانية تؤدي وظيفة اقتصادية للسوق البريطانية. أسفر هذا الوضع عن خراب عام، واختفى الثراء في كردستان، وانتشر الإقطاع المرتبط بالدولة، وتفشت المظالم بحق الفلاحين بعد فترة ازدهار قصيرة في ظل إمارة بدرخان بك. وعادت القبائل إلى توسيع غاراتها، فشهدت كردستان حربا أهلية فوضوية أدت إلى توسع البداوة مجدداً وانهيار الحياة المدنية والزراعية.
إن شيوع التعصب الديني مع حركة الإصلاحات العثمانية تجلى أكثر في شمال كردستان، على عكس الجنوب (كردستان العراق حاليا)، حيث تميزت مشيخة بارزان بالتسامح مع المسيحيين واليهود، وكانت محط إعجاب مبعوثي الدول الغربية. وهذا يظهر مرة أخرى اختلاف الأنساق في مسيرة النقشبندية بين منطقة وأخرى.
لا يمكن تحميل مسؤولية التعصب الديني في كردستان إلى النقشبندية بمعزل عن العوامل الطارئة المتمثلة في تطلع بريطانيا تحويل كردستان إلى مرر آمن للبضائع بين تبريز واسطنبول، والقوانين العثمانية الحريصة على تحسين وضع الأرمن وتهميش الكرد. ضمن هذه الصورة الكاملة للعوامل، تبلورت ما يمكن تسميتها ب”النقشبندية القومية”. تتقاطع عدة عوامل في التحول الديني الكردي من التصوف الفردي إلى النقشبندية المقاتلة.
وإضافة إلى الأسباب الاقتصادية والدور البريطاني، هناك أيضا الفوضى التي سببتها البعثات التبشيرية المسيحية  (الأميركية والبريطانية) منذ مطلع القرن التاسع عشر التي كانت واحدة من الجذور المؤسسة لمذابح الأرمن في الحرب العالمية الأولى. كذلك لعب تمدد روسيا إلى حدود كردستان وتوغلها المستمر في مناطق كردية بدءاً من مطلع القرن التاسع عشر دوراً بارز اً في خلخلة “التقاليد” السياسية عبر مساعي تمكين القرويين الأرمن وانخراط قسم من هؤلاء في الحملات الروسية. والعامل الهام الذي لا يحظى بمتابعات بحثية جادة هو هجرة عدد كبير من الشركس والألبان إلى كردستان إثر حرب القرم منتصف القرن التاسع عشر.
أضيف إلى التحدي الأرمني وصول أفواج هائلة من الشركس والألبان وتوطينهم على خط جغرافي فاصل بين الكرد والترك يمتد من سينوب على البحر الأسود حتى منطقة ريحانلي في لواء اسكندرون قرب البحر الأبيض المتوسط (12)، واستوطن اللاظ في طرابزون على البحر الأسود وأزاحوا بشكل سريع السكان الأرمن.
توافقت شهادات عديدة لقناصل ودبلوماسيين روس وأوروبيين في تلك الفترة عن أن “أوضاع الأرمن قد ساءت أكثر بكثير بعد توطين الشركس في شمال كردستان”. وما زاد في التوتر هو صدور قانون الأراضي عام 1858 الذي أشعل النزاع بين الكرد الرحّل والقرويين الأرمن (13).
أدى استيطان الشركس والأبان واللاظ على الحدود بين كردستان والأناضول إلى تهميش أكبر للكرد وذعر للأرمن. فالهجرة الواسعة للشعوب المسلمة من روسيا والبلقان إلى مشارف ديار الكرد أدى إلى اعتماد الأتراك عليهم. “وقد جند العديد منهم في الجيوش التركية، حيث زرع الأتراك في كل مقاطعة من شمال كردستان تقريبا ثكنة عسكرية، كانت تضم غالبا وحدة ألبانية وشركسية منظمة” (14).
من بديهيات أوضاع مشابهة في وفود شعوب جديدة إلى مناطق مسكونة أن يتحالف السكان الأصليون. لكن هذا لم يحدث في الحالة الكردية الأرمنية. وشكل التوتر الديني فرصة للنقشبندية في قيادة الجانب الكردي من الصراع. وهي بذلك نتيجة موضوعية في ظل غياب بدائل أخرى.
ضمن هذه الأوضاع المتوترة بين الكرد والترك والأرمن، وانهيار العلاقات القديمة برّمتها، لو أن إيران كانت في وضع امبراطوري صحي، ومتحررة من الإملاءات البريطانية والروسية، فإن حدود الدولة العثمانية كانت على الأرجح ستنحسر من الشرق وصولاً إلى نهر الفرات. إن هذا الاحتمال كان يقلق البريطانيين، لذلك كانت خريصة للغاية في مفاوضات الحدود عام 1847 على ضمان عدم وصول الفُرس إلى نهر الفرات.
حمل القادة الدينيون الكرد قضية شعبهم ضمن إمكانياتهم وقدراتهم واجتهاداتهم خلال هذه المرحلة. ورغم صدق نوايا وإخلاص شيوخ النقشبندية فإن طبيعة قيادتهم لم تكن تؤهلهم للنجاة بالكرد من الخيارات الضيّقة التي تبنّوها، فضلاً عن تورط مشيخة نهري في تملك الأراضي وممارستها مظالم كبيرة على الفلاحين.
إن مراجعة تفصيلية للأحداث التي شهدتها المناطق الكردية الأرمنية المتداخلة خلال القرن التاسع عشر توضح بشكل جلي أن النقشبندية الكردستانية هي التي أفشلت الإصلاحات العثمانية التي كانت وفق مقدماتها ستفضي في نهاية المطاف إلى تأسيس دولة أرمنية يكون الكرد فيها رعايا. لكن في الوقت نفسه ألحقت الإصلاحات العثمانية تدميراً هائلاً بالبنية الاجتماعية والمدنية في كردستان. تقلصت المدن وسادت الفوضى في الريف وتدهورت الزراعة وتصاعدت البداوة المتمردة على مشروع توطين العشائر الذي قاده في دياربكر الوالي اسماعيل حقي، وهو كردي من بايزيد.

عبدالحميد الثاني: الإصلاح المرتبك


حاول السلطان عبدالحميد الثاني الانقلاب على إرث السلاطين الأربعة الذين سبقوه بتعطيل الإصلاحات وإيقاف العمل بالدستور وسحب المزايا الممنوحة للأرمن. إلا أن الخراب الذي ورثه الكرد خلال السنوات السابقة كان أكبر من عقد تحالف بلا حساب مع السلطان الناقم على الأرمن. مع ذلك، في الحرب الروسية العثمانية سنة 1877 – 1878 ، شارك الكرد بفعالية فيها ضد روسيا. وأرسل دعاة القادرية في السليمانية، والنقشبندية في نهري، آلاف الرجال للقتال ضد الروس ومحاولة إعادة مكانة الكرد التي ضاعت في الإصلاحات وسوء حسابات روسيا القيصرية معهم (15).
لحقت هزيمة كبيرة بالعثمانيين في هذه الحرب. وفرضت شروط مذلة على السلطان. وازداد صعود الأرمن برعاية القنصليات الغربية. فكانت ثورة الشيخ عبيد الله النهري النقشبندي عام 1880 بمثابة رد على هذه الهزيمة التي هددت الوجود الكردي أمام الأرمن وتراخي الدولة العثمانية في القيام بوظائفها. غير أن ولداه اللذان قادا هذه الثورة، سيد عبدالقادر ومحمد صدّيق، انساقا وراء مشاعر دينية وتم تكفير الشيعة خلال هجوم أتباعه على القوات الإيرانية في سنه ومهاباد وظهرت دعوات الجهاد في المساجد ضد “الروافض” في مياندواب حيث وقعت مجزرة بحق السكان. فانحرفت ثورته في وقت مبكر. كما ان من أسباب هجومه على إيران مطالبته بمستحقات مالية للشيخ امتنعت إيران عن دفعها. لكنه في النهاية استطاع صياغة رؤية جمعت بين فكرة كردستان واستعادة مكاسب رعيّته.
الواقع أن ثورة الشيخ عبيدالله أسهمت إلى حد كبير في بلورة صيغة بدائية للقومية الكردية شكلت أساسا في الثورات اللاحقة. وفي تقرير للقنصل البريطاني ف تبريز، وليم آبوت، خلال مجريات الثورة، كتب في برقية: “قد يكون الشيخ بسبيل بسط سلطته على رقعة أوسع من مجرد إمارة كما يؤهله له نفوذه الروحي، لكن ليس من المحتمل أن ترحب به القبائل التي تميل إلى القادرية” (16).
جاءت ردة فعل الفرس عنيفة وأحرق الجيش الإيراني نحو 200 قرية كردية وأعدم الآلاف. وبلغ عدد الكرد الذين فروا إلى الحماية العثمانية من أورميه بعد فشل الثورة نحو 70 ألفا )17(.انعكست نتائج ثورة الشيخ عبيدالله سلبا على الكثافة السكانية الكردية في إيران وأدى إلى هجرة واسعة للكرد. لكن الالتباس التاريخي في هذه الحركة يكمن في أنها لم تكن موجهة ضد العثمانيين، وهو ما يثير شكوكا قوية تؤيدها بعض برقيات القنصليات الأجنبية في ذلك الحين، أن تحرك الشيخ جاء بموافقة وربما إيعاز من السلطان عبدالحميد الثاني الذي كان يبجّل النهري. والهدف على الأرجح خوف السلطان استغلال الإيرانيين الهزيمة العثمانية أمام روسيا والزحف باتجاه الفرات.
وحين حاول عبيدالله النهري التقرب من الأرمن، بعد هزيمته، وجد نفسه ملاحقا من جنود السلطان، فاختار المنفى في الموصل ثم مكة، حيث توفي عام 1883 وخلّفه ابناه، عبدالقادر ومحمد صدّيق، في قيادة الطريقة النقشبندية في كردستان.

لتحميل الدراسة كاملة اضغط هنا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد