محمد سيد رصاص
تتجمع غيوم الحروب ببطء، وأحياناً بشكل غير منظور، ثم تهطل أمطار نيرانها. من الممكن القول أن حرب إسرائيل وإيران استغرقت 20 شهراً (منذ يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023) لتتجمع غيومها. ولولا انكشاف ضعف إيران العسكري عبر ضربتيها على إسرائيل في الشهرين الرابع والعاشر من العام الماضي، ولولا هزيمة حليفيها في حربي غزة ولبنان ومن بعد ذلك سقوط نظام حليفها في دمشق، ما كان من الممكن أن تنشب هذه الحرب. وما ذكره رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو في خطاب صباح الحرب عن قيام ايران في الأشهر الأخيرة «بخطوات غير مسبوقة لعسكرة اليورانيوم المخصب»، يمكن أن يكون السبب المباشر الذي دفع واشنطن لإعطاء تل أبيب الضوء الأخضر بعد تمنع لأشهر مارسه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وليس السبب العميق لها، الذي يمكن تلمسه من السلوك الأميركي في الحرب والمغاير للإسرائيلي.
كان من الواضح أن ترامب لا يريد إسقاط النظام الإيراني، بخلاف نتانياهو، بل احتوائه عبر الترجمة السياسية من داخل بنية النظام الإيراني للنتائج العسكرية للحرب التي كان واضحاً أنها تميل بقوة لغير صالح طهران. وكان اكتفاء واشنطن بضربة واحدة للمنشآت النووية الثلاث، ومن ثم اتباعها باليوم التالي بموافقة على وقف الحرب فرضت على الإسرائيليين بطريقة علنية، أمر بالغ الدلالة على نية أميركية تفاوضية أو استكشاف لمدى استجابة إيران للوقائع الجديدة على الأرض، وهناك مؤشرات كثيرة تسربت للصحف الإسرائيلية عن أن نتانياهو لم يكن راضياً عن هذا السيناريو الذي مارسه ترامب.
في هذا الصدد، عزا الكثير من المحللين السلوك الأميركي إلى الخوف من تكرار في إيران لفوضى ما بعد سقوط الأنظمة الذي رأيناه في العراق وليبيا واليمن، والخشية من أن تكون الفوضى الإيرانية أكثر تأثيراً على مناطق متعددة، من الشرق الأوسط إلى القفقاس وآسيا الوسطى وصولاً لباكستان وأفغانستان. ولكن يجب تذكر ما قاله السفير الأميركي الأخير في الاتحاد السوفياتي إن «واشنطن تفاجأت بتفكك الاتحاد السوفياتي ولم تكن تسعى إليه»، بل كانت تريد احتواء ميخائيل غورباتشوف الذي كان سخياً في التنازلات، ومنها تراجعه في عام 1990 عن المعارضة السوفياتية منذ أيام جوزيف ستالين للوحدة الألمانية وعدم ربطها بخروج ألمانيا الموحدة من حلف الناتو.
على الأرجح، تلاقى علي خامنئي مع مقولة فريدريك إنجلز، وهو الذي قمع بشدة تمرد الطلاب عام 1999 و«الثورة الخضراء» في 2009، بأن «الخسارة هي مصير أية حكومة تسمح لحركة معادية تسعى إلى إسقاطها بالعمل في إطار القوانين». وهو الآن مضطر لتقديم تنازلات كبرى لترامب في ملفات البرنامج النووي و السلاح الصاروخي والسياسة الإقليمية (وأيضاً الدولية لجهة العلاقة مع الصين وروسيا)، مع بقاء قبضته على الداخل الإيراني، أو هكذا يراهن. فيما تراهن واشنطن على ولادة غورباتشوف إيراني مع وجود خامنئي ضعيف أو بعد موت الأخير (ولد في 1939 ومريض)، وفي مجتمع إيراني يلاحظ الكثير من زواره أن شبابه من الجنسين هم الأقل تديناً بين فئة شباب مجتمعات الشرق الأوسط والأكثر ميلاً نحو النموذج الليبرالي الغربي. ويذكّر ذلك بانطباعات صحافيين غربيين زاروا موسكو في زمن غورباتشوف حيث تلمسوا ميولاً ليبرالية عند التكنوقراط السوفياتي أقوى مما لدى نظرائهم في الغرب.
ومن دون ما سبق، لا يمكن تفسير دعوة ترامب الإيرانيين للتفاوض في يوم انتهاء الحرب. ولا يخفي تهديده استئناف الحرب، ومعه إجراءات ايران التهديدية بالانسحاب من عضوية وكالة الطاقة الذرية أو استئناف التخصيب، أن إمكانات التفاوض هي أكثر من احتمالات العودة للحرب لدى ترامب وخامنئي، فيما يختلف الأمر لدى نتانياهو، الذي أظهرت حرب يونيو/حزيران 2025 له مدى حاجة تل أبيب لواشنطن، وكيف أن ترامب لعب فيها دور حكم كرة القدم الذي أطلق صافرة البدء ثم أنهى المباراة في اللحظة التي حددها هو مع توبيخ الفريقين.
يمكن هنا استخلاص استنتاجات من الحرب، أولها أن الولايات المتحدة التي تخلت بعد هجوم حركة حماس عن سياسة باراك أوباما بترك الشرق الأوسط والتركيز على الشرق الأقصى لمجابهة الصعود الصيني، وهو ما ترافق لدى أوباما حينها بسياسة متساهلة تجاه طهران إقليمياً في ظل سماحه لموسكو بالتواجد في سوريا وليبيا. ويبدو أن الأمر يتجه اليوم نحو بناء شرق أوسط جديد مع «ناتو شرق أوسطي»، وهو أمر لا يمكن أن يتم من دون تحجيم إيران إقليمياً وتقليص نفوذ روسيا في سوريا وليبيا. الاستنتاج الثاني أن شمس إيران الخمينية- الخامنئية، بتيارها الفكري- السياسي، تبدو وكأنها تغرب في المنطقة بعد حرب صيف 2025، كما حصل مع مصر الناصرية بعد حرب صيف 1967 حينما سقط حليف عبدالناصر في اليمن الشمالي عبدالله السلال، وكذلك حليفه العراقي عبد الرحمن عارف، حيث لم يستطع الموالون له في الجنوب اليمني تسلم السلطة بعد انسحاب البريطانيين. ثالث الاستنتاجات، أن هذه الحرب أسقطت مقولات مثل «ضعف القوة الأميركية» و«انبثاق عالم متعدد الأقطاب» التي تم الترويج لها من قبل الروس والصينيين والإيرانيين في فترة ما بين الحرب الأوكرانية وهجوم حركة حماس، التي بنت هجومها على هذه المقولات وأخرى مماثلة من قبيل أن إسرائيل «أوهى من بيت العنكبوت».
