«جماعة وظيفية» تشكّل الوطنية السورية!

طارق حمو  
تتصدر على رأس الأولويات الكثيرة التي ترتكز عليها السلطة في دمشق ( المُقادة من هيئة تحرير الشام كما ينبغي التذكير دائماً) سردية «بسط الدولة سيطرتها على كل مناطق البلاد»، بمعنى ضرورة أن يتاح للحكومة/ الدولة، وعبر قوات الأمن والفصائل التي تشكل «الجيش النظامي السوري»، السيطرة على الأطراف وإزالة كافة مظاهر الإدارات الذاتية المحلية لمكونات هذه الأطراف. وتذهب السلطة، مدعمة ومستندة على الإعلام العربي، في تخوين وتجريم كل الأصوات الرافضة لفصائلها من تلك التي تشير إلى ماهية وجوهر هذه الفصائل وتدين الانتهاكات الفظيعة التي ارتكبتها وترتكبها في المناطق التي تمددت فيها. تصف السلطة وإعلامها السوريين الرافضين لحكم فصائلها الظلامية المتشددة بـ«الانفصاليين» وتعتبر سلاحهم الذي دافعوا به عن أنفسهم طيلة سنوات الحرب الأهلية السورية «سلاحا خارج إطار الدولة» التي تختصرها في نفسها فقط: الهيئة وفصائلها ومسلحيها وقادتها الأجانب.
ثمة حاجة لتشريح خطاب سلطة هيئة تحرير الشام وأخذ خزعة من عقلها الغائر الباطن للكشف عن ما تضمره لسوريا الأرض والشعب (ظهر جزء من هذا المضمر في الأشهر الأخيرة) من خطط وبرامج تقوم على إحداث تغييرات وانزياحات هائلة (هدم وردم سكاني) في الجسد السوري تفضي إلى تشكيل دولة جديدة بشخصية وتركيبة جديدة تحدث قطيعة نهائية مع سوريا القديمة التي خبرناها وخبرها العالم طيلة عقود طويلة.
أولاً: تتمسك السلطة بمغالطة اعتبار نفسها هي الدولة والعاصمة والمركز واعتبار الأطراف هي الهوامش. وتصر على رؤية حالة «الديفاكتو» التي تعيش فيها الأطراف بوصفها مؤقتة وطارئة وغير أصيلة، وبالتالي خارجة عن السياق الوطني. بينما تصور نفسها وترى في ذاتها الدولة والسلطة القائمة الدائمة التي تمثل في شخوصها وفكرها وتمظهراتها المسلحة الكل والأساس والأصل السوري. وهنا، تصادر السلطة مفهوم وشعور وميزة «الوطنية السورية» من الآخرين وتجعلها حكرا عليها هي فقط، فتجعل من الفصيل المذهبي القادم من أحد الأطراف هو الدولة لمجرد وثوبه على السلطة اعتماداً على القوة الغاشمة وإزاحته النظام السابق من على كرسي الحكم في العاصمة. إنه توجه شديد المركزية وفكر إقصائي استبعادي غارق في الشمولية والاستبداد.
ثانياً: تمضي السلطة في شطب كل التاريخ السياسي السوري المعارض. ترفض الاعتراف بوجود أحزاب وقوى وشخصيات سياسية وطنية معارضة قارعت النظام السابق ودفعت أكلافاً وأثماناً هائلة وضحت كثيراً عندما اصطدمت بقمع وتنكيل وتخوين من النظام السابق. تريد السلطة الحالية إزالة كل هذا التاريخ وكل هذا التراث النضالي من فكر وعقل وواقع السوريين عبر حظر ومنع الأحزاب السياسية. ترى السلطة في القوى والأحزاب السياسة العابرة للطائفة والقومية والقائمة على الوطنية السورية خطراً عليها ومانعاً لفرض رؤيتها المعادية للوطنية السورية القائمة على الرؤية المذهبية التكفيرية المتشددة. هي لا تريد أي أحزاب وقوى سياسية تجمع كل السوريين على أساس وطني بحت، بل تريد توطيد محاصصة مشوهة مزيفة تقسّم السوريين عبرها وتحولهم إلى أكثرية تربطها بنفسها وأقليات تعمل على تمثيلها عبر منح بعض الشخوص فيها مناصباً هنا أو مهمات وامتيازات هناك.
ثالثاً: تحاول السلطة الجديدة اختصار سوريا المتنوعة في طائفة واحدة وتكبيل هذه الطائفة في نطاق التفسير المتشدد الذي تتبناه وتفرضه. كما تنشغل بـ«تطهير» الحيز الجغرافي من الحضور السوري خارج «طائفة السلطة» و«تطهير» الطائفة نفسها من الفكر/الإرث الشامي المعارض لتفسير السلطة ومنهجها التكفيري المتشدد. والواضح بأن السلطة تراهن على الزمن في توطيد فكرها وتفسيرها للإسلام السني واستبعاد كل تفسير آخر بغية إحكام القبضة على الأكثرية السنيّة السورية، وبالتالي شرعنة ادعاءاتها بتمثيل الأكثرية بعد مصادرتها لهذه الطائفة وتكميم الأصوات المناهضة لها وقمع التيارات التقليدية المتجذرة التي ترفض رؤاها وفكرها والتي تصر على التمسك بهوية وخصوصية الإسلام السنيّ الشامي.
رابعاً: تلجأ السلطة إلى «الفصائل المنفلتة» حينما تريد تأديب خصومها من السوريين المختلفين (طائفياً ومناطقياً وسياسياً)، فتشغّل هذه الفصائل وتوكل لها «المهام القذرة» في ارتكاب المجازر والانتهاكات، كما حصل في الساحل بحق المكون العلوي ومؤخراً في جرمانا وصحنايا والسويداء بحق المكون الدرزي. وتحقق هذه «الفصائل المنفلتة» للسلطة هدف «تأديب» الخصوم من الطوائف غير السنيّة (العلويين والدروز الآن) والمناطق الإدارية في الأطراف (الساحل والسويداء)، ومن ثم التنصل من جرائمها (رغم إشادتها بالنفير العام ضد علويي الساحل) وإخفاء معالم هذه الجرائم عبر «لجان تحقيق» تتولى مهام «كشف الحقائق» تمنح وعوداً بالعدالة وإنصاف الناس، لكنها تؤجل مواعيد نشر تقاريرها شهراً بعد شهر، مراهنة على الزمن وعلى تقادم الجريمة، أي أن تصبح من الماضي وفي طي النسيان.
خامساً: تراهن السلطة على الدهماء من أولئك الذين يتم تجهيلهم وشحنهم بالعنصريات الدينية والمذهبية والقومية بشكل ممنهج لاستخدامهم في عمليات «تطهير» المناطق الداخلية (في التفسير القديم/الجديد: سوريا المفيدة) من كل وجود للمكونات السورية غير السنيّة. فتتم فبركة حادثة شتم رجل دين درزي للنبي محمد لتكون بداية لحملة تطهير مذهبي بحق الدروز، فتهيج الدهماء ويتم الهجوم على الأحياء ذات الغالبية الدرزية في دمشق وقتل عشرات الأبرياء والتنكيل بالطلاب الدروز في جامعات الداخل، وبالتالي إنجاح عملية الفرز/التطهير الطائفي عبر دفع الطلاب الدروز إلى مغادرة جامعات الداخل والتوجه إلى قراهم في محافظة السويداء. كما تهجم الدهماء على المطاعم وأماكن التسلية في العاصمة، فتنكل بالناس هناك وتعتدي على طلاب مسيحيين سوريين بتهمة «الاختلاط بين الجنسين»، ناهيك عن عمليات خطف البنات وتصفية المواطنين في حوادث تقيد «ضد مجهول» وارتكاب انتهاكات يومية بعيدة عن أعين العالم وبدون أن تلقي أي صدى أو اهتمام في الإعلام الرسمي.
سادساً: تحاول السلطة الاستفادة من قبولها في الخارج وفتح الدول العربية والغربية قنوات الاتصال مع قياداتها واستقبال العديد من القادة العرب والغربيين لأحمد الشرع وفرد البساط الأحمر أمامه من أجل تسويق نفسها داخلياً والمضي قدماً في سياساتها القائمة على التنكيل بخصومها وتوطيد «التمكين» في مفاصل الدولة وصنع نظام أحادي يتبع الفصيل. وكل ذلك بالاستناد على «الاعتراف الخارجي» وحاجة العالم للنظام الجديد في العديد من الملفات العالقة. وهنا، تجاهد السلطة في تقديم خدماتها للخارج والاشتغال كجماعة وظيفية تتولى حسم وحل العديد من الملفات التي تهم العرب والغرب مثل: محاربة تنظيم داعش في سوريا والتخلص من المقاتلين الأجانب وحماية الحدود مع إسرائيل وإحداث القطيعة مع إيران والجماعات التابعة لها، أو حتى الانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية والتحول لجزء من محور الاعتدال العربي.
والحال بأن سلطة الشرع ماضية في اللعب على التوازنات والحسابات السياسية عبر عرض خدماتها للمساهمة في حل ملفات ذات وزن دولي وعربي، وكل ذلك مقابل مكاسب تجنيها هي، وفي مقدمتها انتزاع الاعتراف بها وقبولها بوصفها هي الحكومة وهي من تمثل سوريا والتغاضي عن كل أشكال الانتهاكات والجرائم التي تظهر جراء تنفيذها مخطط «التمكين» و«التشكيل» الذي تقوم عليه لتغيير بنية وجوهر الدولة السورية. وحتى لو كان الاعتراف الدولي مشروطاً بسير عملية انتقالية صحيحة أو خلو سجل الحكومة من انتهاكات لحقوق الإنسان، فإن مجرد فتح قنوات اتصال ورمزية الاستقبالات الرئاسية يكفي لمنح السلطة فرصة للالتفاف على المطالب الدولية وكسب الوقت لكي تنجز المرحلة الأولى من مراحل إزاحة خصومها في الداخل ومنح الفصيل برهة لابتلاع مؤسسات الدولة، وبالتالي صنع واقع لا يمكن العودة عنه أبداً.
وتحاول السلطة التخلص من كل خصومها حسب تراتبية وضعتها منذ البداية: الأضعف فالضعيف فالقوي فالأقوى. وكانت الافتتاحية في الهجوم الماحق الذي طال المكون العلوي في حمص وحماة والساحل، ومن ثم في الهجوم بحق المكون الدرزي الذي يبدو أنه أجهض وتوقف بعد التدخل العسكري الإسرائيلي وقصف آلة حرب الدولة العبرية القصر الرئاسي. كما تلجأ السلطة إلى سياسة توزيع الأدوار في إسناد المهام القذرة إلى من تقول عنهم «الفصائل المنفلتة» لكي تتهرب من تحمل مسؤولية الدم المراق بعد أن تكون حققت الغرض من العملية وقضت على هؤلاء الخصوم أو نالت من إرادتهم في المقاومة والرفض للأبد كما تتصور وتتمنى.
ولا تجد السلطة ضيراً من مديح «النفير العام» حينما يتعلق الأمر بتطهير مذهبي يطال عرباً لمجرد اختلافهم بالمذهب ولا من استخدام «فزعة العشائر العربية» حينما يكون الكرد (المسلمون السنّة في غالبيتهم الساحقة) هم الهدف. ولعل تعيين مجرمي حرب موجودين على لوائح الإرهاب الدولية، كحاتم أبو شقرة وقبله محمد الجاسم (أبو عمشة)، ضمن الجيش السوري الجديد يوحي جلياً بنوايا هذه السلطة العدائية للمكون الكردي السوري، ناهيك عن ارتهانها للمطالب والإرادة التركية ولجوئها إلى «البراغماتية» الفصائلية في تمرير أوامر دولة خارجية محتلة طامعة مقابل الحصول على مكاسب لصالح الفصيل الذي يدير هذه السلطة. إنها عقلية الجماعة الوظيفية اللاوطنية التي تطرح السيادة والأرض والشعب كسلع في بازارات مفتوحة مع الخارج ضماناً لبقائها هي وظناً منها بأن ذلك يمنحها قوة أكبر على الاحتفاظ بالحكم إلى الأبد.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد