بوكتشين وأوجلان.. من الماركسية الاختزالية إلى الوعي البيئي – الاجتماعي(1)

جهاد حمي

إثر المقاومة البطولية ضد “تنظيم الدولة الإسلامية” في معركة كوباني، جذبت “ثورة روج آفا” انتباه اليسار على نطاق عالمي. منذ ذلك الحين، وإن لم يكن بدرجة كافية، اكتسب موضوع “ثورة روج آفا” بعض المساحة في البحث الأكاديمي والدوائر غير الأكاديمية.

في هذه النصوص، يميل المؤلفون، بشكل عام، إلى اختزال وربط مسيرة التحول الجذري لدى المفكر السياسي والمؤسس المشارك لحزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، بالفيلسوف السياسي الأمريكي موراي بوكتشين. تزعم الحجة الأساسية في مثل هذه الأدبيات بحدوث قطيعة نوعية في أطروحات أوجلان، حيث كان ثورياً يتغذى من التراث الماركسي- اللينيني، ليصبح اشتراكياً تحررياً( اشتراكياً ليبرتارياً) عقب اطلاعه على أعمال بوكتشين في السجن، وتحديداً من جهة التزاوج بين النزعة الفوضوية( الأناركية) مع الروح الجماعاتية (الكومينالية).

رداً على ذلك، فإن بعض الأكاديميين والناشطين الكرد ذوي النزعة القومية الضيقة يرفضون أو يقللون، بطريقة أو بأخرى، من تأثير بوكتشين على أوجلان. باعتقادنا، لا تفيد أي من المقاربتين في إلقاء الضوء على علاقة أوجلان وبوكتشين، فلسفياً وسياسياً.

من أجل إنارة هذه الإشكالية، ستأخذ فرضيتي، التدرج التاريخي لمسيرة أوجلان الفكرية والسياسية، لتظهر بأنها كانت على التناص( التشابه والتداخل) مسبقاً مع أطروحات بوكتشين. فعندما شرع أوجلان من السجن “البحث عن الحقيقة“(1)- وهو الموضوع الذي كان يشغل تفكيره قبل مرحلة السجن- فإنه وجد في أطروحات موراي بوكتشين معظم الاجوبة التي كان يحاول صياغتها، الأمر الذي ساعده في استقبال تلك الأفكار بسلاسة.   

لذا، ستحاول هذه الورقة متابعة تحول أفكار أوجلان من الماركسية-اللينينية إلى الاشتراكية التحررية قبل التعرف على مؤلفات بوكتشين. ربما قد لا يتفقا كل من بوكتشين وأوجلان على بعض القضايا الفلسفية والنظرية، لكننا نعتقد أنهما يشتركان في نفس الغايات السياسية.

ينبغي الاعتراف أيضاً، بأن هناك العديد من الفلاسفة والمفكرين الآخرين الذين أثروا بشكل كبير على أوجلان. على سبيل المثال لا الحصر: إيمانويل فالرشتاين وفرناند بروديل وأندريه غوندر فرانك وسمير أمين وفريدريك نيتشه وميشيل فوكو وإدوارد سعيد وحنا أرندت والماركسية النسوية وروزا لوكسمبورغ ومدرسة فرانكفورت. في الواقع، تتطلب كل من هذه الأسماء أو المدارس فصولًا منفصلة لتوضيح كيفية مساهمتها في تطوير تفكير أوجلان.

معطوف على ذلك، ثمة قضايا مركزية أخرى لعبت دوراً محورياً في تكوين هوية أوجلان النضالية – ومن بين تلك القضايا تأتي” قضية تحرير المرأة”، غير أننا سنركز بشكل أساسي في الجزء الأول من هذه الورقة على كيفية تحول أفكار أوجلان السياسية والفلسفية بصورة جدلية، بحيث ستغدو لاحقًا وثيقة الصلة بالايكولوجية الاجتماعية(الوعي البيئي- الاجتماعي).

تاريخياً، تبدأ هذه المرحلة منذ منتصف الثمانينيات حتى مطلع 2002، وهي الحقبة التي سبقت إطلاع أوجلان على أعمال بوكشين. بينما سنركز في الجزء الثاني من هذا النص على كيفية دمج أبعاد أفكار أوجلان الفلسفية والسياسية مع قضية البيئة والمجتمع. وهي المرحلة التي تعرف أوجلان على أعمال بوكتشين في السجن.

الوعي البيئي

باشر أوجلان منذ منتصف الثمانينيات بشن هجوماً حاداً ضد المرتكزات الفلسفية للتراث الماركسي- اللينيني قبل سقوط الاتحاد السوفيتي، ورأى محدودية التحليل الطبقي الضيق المدعوم بالتناقض الثنائي الذي أسماه كارل ماركس ” معسكرين كبيرين متنازعين “داخل النظام الرأسمالي: البرجوازية والبروليتاريا.

 فالرأسمالية، حسب ما يشير أوجلان في كتابه المعنون” الإصرار على الاشتراكية إصرار على بناء الإنسان” الذي نشر عام 1999، لا تنتج بطبيعتها التناقض فقط من خلال استغلال الطبقة العاملة المحرومة (البروليتاريا) من قبل الطبقة السائدة المالكة للملكية (البرجوازية)، ولكنها تنتج أيضاً تناقضات اجتماعية أوسع تمتد إلى تدمير الطبيعة، وتبعاً لذلك يشدد أوجلان بأنه:” لم يعد التناقض بين الطبقات الذي أطلقته الرأسمالية موجهاً ضد المجتمع فحسب، بل ضد الطبيعة أيضًا. هذا الوحش (الرأسمالية) لا يعزز الانقسام الطبقي والاستعمار فحسب، بل يدمر الطبيعة أيضًا. لقد اخترق السماء والأرض، مما أدى إلى قلب التوازن البيئي رأساً على عقب ودفع المجتمع إلى حافة الانقراض”(2).

في نفس الكتاب، وعند معرض تفكيره حيال الخطر الكبير الذي ألحقته الرأسمالية بالطبيعة والحياة الاجتماعية، حدد أوجلان بعض القضايا الحتمية والملحة التي تنتجها الرأسمالية، مثل النمو السكاني غير المسبوق، وانتشار الأوبئة، وتغير المناخ، والاحتباس الحراري، والتلوث، والتصحر. واصفاً أزمة البيئة بأنها خطيرة بشكل مريع، وهي تضاهي “خطر الصراع الطبقي بأربعين مرة“(3)، كما استمر في نعت الرأسمالية بوصفها سرطان يجتاح البيئة والحياة الاجتماعية معاً، وهو ما أكده بقوله:”الرأسمالية تلوث البيئة والمحيط الحيوي، وتسبب سرطانًا مزمناً في قلب المجتمع“. (4)

لم يكن أوجلان راضياً عن الحلول الإصلاحية التي اقترحتها الحركات الخضراء للتعامل مع الأزمة البيئية. بدلاً من ذلك، رأى أن ” المقاربات الجذرية لا غنى عنها لتحليل بشكل صحيح العلاقة الإنسانية بالطبيعة“(5). كان أوجلان يؤمن بعمق بأن أي حركة ثورية يجب أن تتغلب على قيود نماذج فكرية للقرن التاسع عشر على غرار دعوة إيمانويل فالرشتاين. ومن الآن فصاعدًا، سيقوم بتوسيع تحليله ليشمل “مكافحة التدمير الرهيب للبيئة والجنون الاستهلاكي“(6). لقد تصور أن النموذج الجديد للاشتراكية يجب أن يشمل البيئة والعلم والأخلاق واليوتوبيا”( الأفق السياسي).

كانت القضايا البيئية من بين الموضوعات المركزية التي تناولها في كتاباته عام 1999. على سبيل المثال، في أول كتاب رئيسي لأوجلان تم تأليفه في السجن، حدد برنامجاً جديداً للحركة الكردية، ركز من خلاله على القضايا البيئية، حيث طالب بأهمية “إدراج القضايا البيئية في البرنامج السياسي، إذا أردنا أن نخطو بداية جديدة حقاً“. ومضى في التشديد على القضايا البيئية عندما برز حجم التناقص القائم، موضحاً:” العداء بين الإنسان والبيئة يمكن أن يكون إشكاليًا مثل القضايا الاجتماعية“(7).

قبل عقود قليلة من قيام أوجلان بصياغة انتقاداته الخاصة، أعرب بوكتشين عن استياء مماثل من اختزالية التحليل الماركسي، والذي من وجهة نظره حصر تناقضات الرأسمالية في المجال الاجتماعي والاقتصادي. بالنسبة لبوكتشين، فإن هذه التناقضات داخل رأسمالية الدولة البيروقراطية لا تتغلغل في جميع الأشكال الاجتماعية الهرمية فحسب، بل تهدد الحياة الطبيعية أيضًا، إذ يقول: “هذا التناقض يستغل تنظيمياً  المجتمع  والعالم الطبيعي – عالم لا يشمل فقط البيئة الطبيعية، ولكن أيضًا طبيعة الإنسان” (8).  كما شدد على أهمية اتباع نهج جذري في معالجة هذه التناقضات: ” التناقض بين التنظيم الاستغلالي للمجتمع والبيئة الطبيعية يتجاوز الاستقطاب، فالغلاف الجوي والممرات المائية والتربة والبيئة كشروط ضرورية من اجل بقاء الإنسان. لا يمكن تعويضها عن طريق الإصلاحات أو التنازلات أو تعديلات السياسة الاستراتيجية ” (9).

التقنية

السؤال الآخر الذي كان يثير تفكير أوجلان تمثل في دور التكنولوجيا. سيما أن هذا الجدل فرض نفسه على سياسة اليسار بعد الحرب العالمية الثانية. ومن أبرز رواد اليسار الذين باشروا في انتقاد التقنية، كان كل من بوكتشين ومارتن هايدغر ومدرسة فرانكفورت (هربرت ماركوزه – ماكس هوركهايمر- وتيودور أدورنو ) وغيرهم. فقد هاجم هؤلاء الفلاسفة التكنولوجيا بوصفها تقوم بتدمير الطبيعة، كما كشفوا مساوئها من جهة التحكم والسيطرة على المجتمعات الصناعية المتقدمة.

وإدراكًا منه للدمار البيئي الذي يديمه النظام الرأسمالي، بدأ أوجلان التفكير في مسألة التكنولوجيا – التي تحتكرها الرأسمالية – وعلاقتها بالسيطرة والعلم والطبيعة. وقد عبر عن ذلك حينما كان يحاضر ذات مرة على مقاتلي حزب العمال الكردستاني، مبيناً :” في الوقت الحاضر، التكنولوجيا وحش يدمر البيئة والمحيط الحيوي”، كما اعتبر دور التكنولوجيا وبنيتها المتأسسة وسيلة لإبعاد الناس عن إرادتهم وتقويض حريتهم الفكرية. (10)

كمفكر جدلي، تصور أوجلان إمكانيتين محتملتين للتكنولوجيا. فمن جانب اعتبر التكنولوجيا كوسيلة للتحرر، عندما تخدم الناس في مجتمع متحرر. ولكن من جانب آخر، تصبح أداة قمعية، عندما تكون محتكرة من قبل الطبقة الاحتكارية، حيث كشف عن هذا التناقض بقوله :” لأول مرة في التاريخ توفر التكنولوجيا إمكانية تحويل المدينة الفاضلة للإنسان إلى حقيقة، ولكن بدلاً من ذلك، يتم استغلالها من قبل أقلية غير مهتمة باحتياجات البشرية الأساسية، مما يحول واقع الإنسان إلى جحيم حيّ”(11). مضيفاً وبطريقة مجازية: ” التكنولوجيا تتحول إلى وحش، وتهدد بالتهام صانعيها”(12). ومن أجل معالجة هذه المشكلة، دعا إلى إضفاء الطابع الديمقراطي على التكنولوجيا، حتى يمكن استخدامها بطريقة عقلانية وصديقة للبيئة.

في الواقع، تتقاطع رؤية أوجلان هذه مع أطروحة هربرت ماركوزه، والتي مستوحاة بدورها من مخطوطة كارل ماركس الشهيرة” الغروندرسية”،  حيث أكد ماركوزه بأن :” التكنولوجيا لديها القدرة على إنتاج الوفرة للجميع، وقد تلعب دوراً محورياً في التغلب على عالم الحاجة والدخول إلى عالم الحرية”. موضحاً في الوقت نفسه:” يمكن للتقنيات في حد ذاتها أن تعزز الاستبداد جنباً إلى جنب بفتح آفاق الحرية، وقد تكرس الندرة وبنفس الوقت قد تؤمن الوفرة، وقد تكثف استغلال الكدح أو تدفع نحو إلغاءه”(13).

 قام زملاء ماركوزه، كل من هوركهايمر وأدورنو، بتجذير قضية الجوانب القمعية والسلبية للتكنولوجيا في العلاقات الانتاجية والسلطة السياسية الرأسمالية(14). مثل هوركهايمر وأدورنو، لم يستنكر أوجلان التكنولوجيا في حد ذاتها، ولكن بالأحرى أدان نمط الإنتاج الرأسمالي، وأشكال السلطة السياسية التي تحتكر التكنولوجيا، مؤكداً: “يجب إلقاء اللوم في هذا الوضع غير العقلاني على نمط الإنتاج القديم، والقوة السياسية التي تقف خلفها ” (15).

وبدوره، كتب بوكتشين أيضاً عن التكنولوجيا، بدءاً من الستينيات، عندما كان لعمله تأثير كبير على الحركات الخضراء المزدهرة في ذلك الحين، حيث تحدث في مقالته “نحو تكنولوجيا تحريرية” عن إمكانية التكنولوجيا في القضاء على الكدح وانعدام الأمن المادي والسيطرة الاقتصادية المركزية. كما شدد على أن التكنولوجيا – في ظل التصنيع والتوسع الحضري والدولة الرأسمالية – أدت إلى تفاقم اغتراب البشرية عن الطبيعة، وكذلك اغتراب البشر فيما بينهم، حيث لخص هذه الرؤية بصورة معبرة: ” تتحول التكنولوجيا إلى قوة فوق الإنسان، وتنظم حياته وفقًا ما تفرضها البيروقراطية الصناعية”(16).

مثل العديد من المفكرين أعلاه، لم يرى بوكتشين أن التكنولوجيا ضارة في حد ذاتها، بل وصف :” النظر إلى  التقدم التكنولوجي على أنه ضار في جوهره … بمثابة قصر النظر والعجرفة”(17). لذلك، شدد بأن :” تجاهل تكنولوجيا، ليس حلاً بكل التأكيد”. نظراً أن التكنولوجيا، في مجتمع متحرر، يمكن أن توسع التكوين البشري والإمكانيات المحلية، وتثري الإبداع، وتؤدي إلى إعادة التناغم بين الطبيعة والمجتمع. وإن استخدام الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية والرياح، سيمكن المجتمع الحر واللامركزي من عقد الوئام بين الأمن الغذائي والطبيعة. إذ يقول بوكتشين في هذا الصدد : “سيكون استحضار عالم التكنولوجيا مع الشمس، والرياح، والأرض، بل وعالم الحياة، بهدف الحفاظ على الجنس البشري، بمثابة تجديدًا ثوريًا لعلاقات الإنسان بالطبيعة، كما كتب عن دور التكنولوجيا البيئية البديلة في ” إيقاظ إحساس الإنسان بالاعتماد على البيئة” (18).

التحول السياسي

في التسعينيات من القرن المنصرم، بدأ أوجلان في طرح أسئلة مهمة تتعلق بالطبيعة البورجوازية المهيمنة في شكل الدولة المفتقرة إلى الديمقراطية، وهذه المفاهيم النقدية ستكون بمثابة حافزاً من أجل معالجة القضية الكردية في تركيا، عبر عرض الفيدرالية اللامركزية والحكم الذاتي في ظل الجمهورية الديمقراطية.

في الحقيقة، لم يكن أوجلان مستعداً فكرياً حتى عام 2002، لتجاوز نقد الدولة بشكل جذري بعيداً عن رواسب التقاليد الماركسية، على الرغم من محاولته الجادة لفهم طبيعة الدولة وجذورها التاريخية (التي أرجعها إلى الحضارة السومرية، متأثراً بأعمال جوردون تشايلد وصموئيل نوح كريمر)، فقد اتخذ دائماً موقفاً متبايناً تجاه آلية الدولة. ففي كتابه ” دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية”، اتخذ أوجلان ايضاً موقفًا مشابهاً من رؤية ماركس حيال مشكلة الدولة، حيث لم يصور ماركس الدولة كجهاز سياسي محايد، بل كجهاز سياسي لتأمين المصالح الطبقة البرجوازية، علماً أنه أعرب أيضًا عن تقدير دور الدولة في تأمين الشؤون الإدارية للمجتمع”.(19)

ما هو حاسم في هذا النهج هو أنه مهد الطريق لأوجلان لبدء العمل بصورة جادة في نقد الدولة، والتفكير في البدائل السياسية بمنأى عن أحادية النزعة الدولتية الصارمة. هذا ما دفعه في عام 2002 إلى تبني نظرية غرامشي للمجتمع المدني “العضوي” كمجال لـ “الاحتمالات الديمقراطية“، وتالياً كان يهدف إلى البحث عن طريقة جديدة لتفادي الحلول الدولتية الاحادية (20). ومع ذلك، وعلى الرغم من جهوده النقدية الوازنة، كان بقايا التقاليد الماركسية بشأن الدولة تظهر خلسة بين سطور أطروحاته.

على غرار انتقادات المفكرة الماركسية روزا لوكسمبورغ للتسلسل الهرمي الصارم الذي كرسه لينين، والميول البيروقراطية شديدة المركزية في الحزب. شنّ أوجلان منذ منتصف الثمانينيات نقدًا شاملاً ضد الاتحاد السوفياتي، وخاصة جهاز الدولة البيروقراطية الهادف لتقويض حرية الفرد وإزالة الحياة الديمقراطية. وهكذا، ومنذ منتصف الثمانينيات، بدأ أوجلان، التفكير في طبيعة الديمقراطية والحزب والقضية الإنسانية. ثم توصل إلى استنتاج مفاده أن الاشتراكية لا يمكن أن تنجز إذا لم تكن ديمقراطية وتأخذ الوجود الإنساني في عين الاعتبار على (غرار أطروحة سارتر). وقد تجسد ذلك في عباراته الشهيرة “ الإصرار على الاشتراكية يعني الإصرار على أن تكون إنسانًا“21، كما أكد في التسعينيات على أن “هدفنا هو تحرير الإنسان الذي دمره النظام الرأسمالي الامبريالي”.(22)

لم يكن هذا النقد مجرد تنظير أكاديمي “للاشتراكية المشيّدة” وجرائم شيوعية الاتحاد السوفيتي، بل كان نقداً ذاتياً لا هوادة فيه ضد ذاته اولاً، ومن ثم ضد الأساس الأيديولوجي للحركة الكردية ثانياً. كان أوجلان يحاول تغيير بنية الحركة الكردية، عبر مواصلة تفكيك ركائز الاشتراكية المشيّدة، بحيث يستخرج من الاشتراكية موقفًا أكثر إنسانيةً وديمقراطيةَ ومتجذراً في المجتمع. وقد تجلت هذه المقاربة في نقد المركزية الحزبية والبيروقراطية ونفوذ الكوادر الطليعية، واعتبر أن هذه الآليات بمثابة أجهزة فوق إرادة المجتمع. ولحل هذه الأزمة، شدد على أهمية الديمقراطية ومشاركة الشعب في صناعة القرار داخل الحركة الكردية. وهو ما عبر عنه بوضوح:

 “نحن نؤيد إفساح المجال [للشعب] [لإدارة ذاته] وحماية هذا [الحق]. ولكن هناك العديد من كوادر الحزب الذين يتخذون القرارات نيابة عن الناس، الذين لا يمنحون [الشعب] حق التحدث … سيتحدث الناس، وسيقرر الناس، وسيختار الناس، وسيقومون بإحداث تغييرات. فهمنا للديمقراطية هو هذا بالضبط؛ لا ينبغي تشويه ذلك“.(23)

لم ينحصر نقد اللينينية ضمن هذا النطاق فقط، بل امتد إلى جوهر أيديولوجية حزب العمال الكردستاني، وخاصة مفهوم التحرير الوطني وحق تقرير المصير. فمنذ سبعينيات القرن الماضي، اعتبر حزب العمال الكردستاني، جغرافية كردستان بمثابة مستعمرة دولية. وهذا يعني أنها بحاجة إلى التحرر من الدولة التركية والقوى الإمبريالية التي تقف وراءها. من المعلوم في ذلك الحين، أن المبدأ اللينيني لتقرير المصير كان سائداً وسط الحركات اليسارية في العالم الثالث، ولم يكن حزب العمال الكردستاني استثناءً.(24 )

بناءً على النقد المذكور أعلاه لاشتراكية الاتحاد السوفياتي، سعى أوجلان في إعادة صياغة مقاربته النقدية لمسألة التحرر الوطني والنهج اللينيني لتقرير المصير. وكانت المفاوضات مع الدولة التركية عام 1993 بمثابة القطيعة النهائية مع هذا النهج، حيث عرض الحكم الذاتي الفيدرالي كشكل من أشكال تقرير المصير داخل الجمهورية الديمقراطية. هذا التحول مشابه جداً للنهج الذي اتخذه اثنان من مؤسسي حركة “ الزنوجة“، وهما المارتينكي إيمي سيزير والسنغالي ليوبولد سيدار سنغور، اللذان تطرقا في بداياتهما، مثل أوجلان، إلى حل القضية الوطنية على أساس إنهاء الاستعمار، وتالياً إعادة التفكير في النموذج التقليدي لتقرير المصير. ومن ثم رفض كلا المفكرين فكرة سيادة الدولة القومية المركزية الضيقة. بدلاً من ذلك، اقترحا الفيدرالية الديمقراطية واللامركزية القائمة على المشاركة الاجتماعية والتعاونيات كبرنامج لتقرير المصير.(25)

بينما كان أوجلان يخوض معركة فكرية عسيرة لبلورة هذه الانتقادات، تطرق بوكشين عام 1993 من خلال مقالة له جاءت بعنوان “القومية والقضية الوطنية “، إلى ذات الموضوعات التي كان أوجلان يناضل من أجلها. كان بوكتشين ينتقد بشدة حركات التحرر الوطني، وأشكال تقرير المصير المستند على أساس الدولتية والقومية الضيقة، قائلاً :”القوميات التي كانت تعمل تحت راية حركات التحرر الوطني قبل حقبة من الآن، أصبحت اليوم بمثابة الكوابيس الاجتماعية والآفات المهلكة للحضارة “(26). وعليه، أكد بوكتشين بوجود التطابق بين مآل ونتائج هذه الحركات مع أدوات الاستبداد التي ثارت عليها في البداية، معتبراً أن هذه الحركات” كان له تأثير في إنشاء دول مستقلة سياسياً، والتي يمكن مع ذلك التلاعب بها من قبل قوى الرأسمالية الدولية، كما كانت الأنظمة الإمبريالية القديمة تفعل عموماً“.(27)

لتفادي هذه العواقب، اقترح بوكتشين أن مثل هذه الحركات والتنظيمات والمؤسسات، ينبغي أن تتأسس وفق معايير الديمقراطية والقيم العمومية المشتركة، ويجب أن تكون، تماماً كما كان أوجلان يحاول تأكيده “كونية في وجهة نظرها الإنسانية، وتعاونية على جميع مستويات الحياة، ومساواتية في فكرتها عن العدالة الاجتماعية”28. وبالمثل، شدد أوجلان:” لن نقع في مستنقع القومية الضيقة. لن نسمح لمسألة الحدود أن تحددنا. لن نناقش مساحة الأرض والتي تعود لمن! إذا أنشأنا حرية الشعوب والأمم، نكون قد أوجدنا أيضاً معايير عمومية مشتركة للجميع“.(28)

المصادر والمراجع

1- القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية: دفاعاً عن الكرد المحصورين بين فكي الإبادة الثقافية- مانفيستو الحضارة الديمقراطية- المجلد الخامس

2- الاصرار على الاشتراكية إصرار على بناء الانسان. عبد الله أوجلان

3- نفس المرجع السابق

4- نفس المرجع السابق

5- نفس المرجع السابق

6-  Özcan, Ali Kemal. 2006. Turkey’s Kurds: A Theoretical Analysis of the PKK and Abdullah Öcalan. London: Routledge

7-  الإصرار على الاشتراكية إصرار على بناء الانسان- عبد الله أوجلان

8-Bookchin, Murray. 2004. Post-Scarcity Anarchism. Oakland: AK Press..

9- موراي بوكتشين، نفس المرجع السابق

10- الاصرار على الاشتراكية إصرار على بناء الإنسان. عبد الله أوجلان

11- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية. عبد الله أوجلان

12- أوجلان- نفس المرجع السابق

13-  Marcuse, Herbert. 1998. Technology, War and Fascism: Collected Papers of Herbert Marcuse. London: Taylor and Francis.

14- جدل التنوير شذرات فلسفية.  تيودور أدورنو، ماكس هوركهايمر

15- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية. عبد الله أوجلان

16- Bookchin, Murray. 2004. Post-Scarcity Anarchism. Oakland: AK Press.

17-  Bookchin, Murray. 1995a. From Urbanization to Cities: Toward a New Politics of Citizenship. New York: Cassell.

18- Bookchin, Murray. 2004. Post-Scarcity Anarchism. Oakland: AK Press.

19- Eagleton, Terry. 2011. Why Marx Was Right. New Haven: Yale University Press.

20- Bar-On, Tamir. 2015. “From Marxism and Nationalism to Radical Democracy: Abdullah Öcalan’s Synthesis for the 21st Century.” In Challenging Capitalist Modernity II: Dissecting Capitalist Modernity – Building Democratic Confederalism, edited by edited Network for an Alternative Quest, 77-88. Neuss: Mezopotamya Publishing House.

21- الاصرار على الاشتراكية إصرار على بناء الانسان. عبد الله أوجلان

22-أوجلان- نفس المرجع السابق

23- Özcan, Ali Kemal. 2006. Turkey’s Kurds: A Theoretical Analysis of the PKK and Abdullah Öcalan. London: Routledge

24- Jongerden, Joost P. 2016. “Colonialism, Self-Determination and Independence: The New PKK Paradigm.” In Kurdish Issues: Essays in Honor of Robert W. Olson, edited by M. Gunter, 106-121. Costa Mesa, CA: Mazda Publishers.

25- Wilder, Gary. 2015. Freedom Time: Negritude, Decolonization, and the Future of the World. Durham, NC: Duke University Press.

26- Bookchin, Murray. 2015. The Next Revolution.Verso Press.

27-موراي بوكتشين- نفس المرجع السابق

28- الإصرار على الاشتراكية إصرار على بناء الإنسان. عبد الله أوجلان