بوكتشين وأوجلان.. جدلية الوعي البيئي وسياسته (2)

جهاد حمي

استخدم موراي بوكتشين في عام 1964 مصطلح “الوعي البيئي الاجتماعي” (الايكولوجية الاجتماعية) لأول مرة في مقالته الأولى بعنوان “الوعي البيئي والفكر الثوري”، والذي أكد فيها أن فكرة السيطرة على الطبيعة ترجع أصولها إلى سيطرة البشر على البشر. هذا يعني أنه لحل الأزمة البيئية، ينبغي حل جميع أشكال المؤسسات الهرمية المتوغلة داخل الجسم الاجتماعي، واستبدالها بمؤسسات غير هرمية، وحرة، وعقلانية. ومن أجل ذلك، أعطى بوكتشين أهمية كبرى لمفهوم البيئة، التي تتطلب تحولاً سياسياً بعيد المدى، مع انعطافة ثورية حادة. ففي وقت كان بوكتشين يقدم نظرة ثورية إلى علم البيئة، كان اليسار، في غالبيته، غافلاً عن القضايا البيئية بذريعة أنها انحرافاً “برجوازياً صغيراً” عن النضال ضد الرأسمالية.

بدوره، أوصى أوجلان في بداية عام 2002، جميع أنحاء كردستان شمال” كردستان تركيا” من خلال رؤساء البلديات والمسؤولين المحليين في المدن والبلدات التي تقع تحت نفوذ الأحزاب السياسية الموالية لرؤية أوجلان، وكذلك حزب العمال الكردستاني، بضرورة قراءة مؤلفات موراي بوكتشين، وخاصة: “من التمدن إلى المدن“، و”إيكولوجيا الحرية“. ومنذ عام 2003، بدأ حضور مصطلح” الإيكولوجية” (علم الوعي البيئي- الاجتماعي) يظهر في كتابات أوجلان بجوار مصطلحات أخرى مثل: المجتمع الديمقراطي- والبيئي، والكومونات، والمجالس، والهيئات. من هذه النقطة، كما سأوضح، سيقوم أوجلان بتكييف جسم” الإيكولوجيا الاجتماعية” بشكل أو بآخر في عمله الخاص، كما سأناقش بعمق تأثير الأبعاد الفلسفية والسياسية للإيكولوجيا الاجتماعية على كتابات أوجلان.

فلسفة الوعي البيئي- الاجتماعي

مثلما ناقشنا في مقالتنا السابقة، التي شملت مرحلة (الثمانينيات حتى أوائل عام 2002)، كان أوجلان بالفعل مدركاً تماماً لقضية البيئة التي أحدثتها الرأسمالية في المجتمع. ومع ذلك، تم تعميق هذا الوعي من حيث بلورة المفاهيم وتعزيزه فلسفياً وسياسياً، عندما بدأ أوجلان التعاطي مع أعمال بوكتشين. فقد نظر إلى أزمة البيئة بوصفها قضية مركزية، ورأى أنها نتاج الانهيار الاجتماعي الناجم عن الهرمية والسيطرة والاستغلال والعبودية، مبيناً: “عندما بدأ الإنسان في استعباد أخيه، بدأ أيضاً في استعباد الطبيعة“، بحكم أن “هذه القضايا البيئية غير المسبوقة نابعة أساساً من مجتمع محطم“. يمكن للمرء أن يرى بوضوح أنه عندما صاغ أوجلان هذه الجملة، كان المبدأ المركزي لفلسفة الوعي البيئي في ذهنه، مفاده يكمن في “ فكرة هيمنة الإنسان على الطبيعة تنبع من الهيمنة الإنسان على الإنسان أولاً“.

ولحل معضلتنا البيئية، عالمياً ومحلياً، وخلق مجتمع قائم على الوعي البيئي، اقترح أوجلان برنامجاً سياسياً بحيث “لا يستنسخ النظام الهرمي القديم أو النظام التقليدي القائم على الدولة، ولا نظام يتخذ من العبودية أساساً له، حيث يتم قمع المجتمع واستغلاله“، بل قام بتطوير نظام غير هرمي وأخلاقي قائم على علاقة جدلية مع الطبيعة والديمقراطية المباشرة:

سنبني نظاماً قائماً على الأخلاق يتضمن علاقات جدلية مستدامة مع الطبيعة، ونظاماً لا يعتمد على هياكل السلطة الداخلية، إنما نظاماً يتم فيه تحقيق الرفاهية المشتركة من خلال الديمقراطية المباشرة“.

 وبوصفه مفكراً ثورياً لتعاطي مع الوعي البيئي الاجتماعي، يرفض أوجلان التعامل مع الأزمة البيئية بإجراءات مجزأة، بل يدعو إلى تغييرات شاملة تعزز إعادة الانسجام مع الطبيعة بطريقة جذرية، مما يعني إنشاء مجتمع ديمقراطي تشاركي:

” إن الوعي بالبيئة والطبيعة والاهتمام بهما لا يستلزم فقط الاهتمام بالهواء النقي والمياه النقية. إنما يعني أن نعيش بالكامل مع الطبيعة، وأن نعود من اختزاليتنا الحالية (تقسيم الطبيعة إلى أجزاء صغيرة)، إلى نظرة شاملة للطبيعة. هذه المقاربة تعني بناء مجتمع ديمقراطي وتشاركي أيضاً“.

مثل بوكتشين، كان أوجلان محبطاً من اختزالية وحدة التحليل الماركسي المستندة على “الطبقة”. حيث أخذ بوكتشين حجته ضمن التقليد الآناركي، داعياً إلى اتخاذ “الهرمية والهيمنة” كوحدة تحليل لفهم جذر جميع المشاكل الاجتماعية والبيئية. إذ أن الهرمية وفق بوكتشين عبارة عن “أنظمة ثقافية وتقليدية ونفسية لنظرية السيد والعبد، وليست مجرد أنظمة اقتصادية وسياسية فحسب“. ويمضي بوكتشين في تحديد أشكال الهيمنة على أنها “خضوع الشباب لهيمنة كبار السن، واستعباد النساء من قبل الرجال، وسيطرة مجموعة عرقية على مجموعة أخرى، والتحكم بــ” الجماهير “من قبل البيروقراطيين الذين يزعمون أنهم يتحدثون عن” مصالحهم الاجتماعية العليا“، والقضاء على الريف عبر التمدن، من الناحية النفسية، يخضع الجسد إلى سلطة العقل، ويهرس الروح تحت وطأة العقلانية المتطرفة، وتقوض الطبيعة من خلال المجتمع والتكنولوجيا”. ورغم ذلك، لم يتخلى بوكتشين عن الطبقة كوحدة تحليل على نحو كامل. في الواقع، قام بدمج “الطبقة والاستغلال” عبر وحدة تحليلية شاملة تحت يافطة “الهرمية والهيمنة“. الأمر الذي ساعد أوجلان بتجاوز التحليل الطبقي الضيق، الذي كان ينتقده منذ تسعينيات القرن الماضي.

عقب قراءة أوجلان، لمؤلف بوكتشين الأكثر شهرة “إيكولوجيا الحرية“، عاد إلى تناول “التاريخ الطويل” بهدف الكشف عن جذور الهرمية والهيمنة في سراديب فجر الحضارة. كان يسعى إلى فهم أصول الهرمية ومن ثم تفكيك أسطورتها، كما أشار هو بنفسه: “عند البحث عن جذور الأزمة البيئية، التي تتفاقم بالتوازي مع أزمة النظام، يبدو من المنطقي أن نبدأ البحث في بداية الحضارة “.

عزز مؤلف “إيكولوجيا الحرية” من الأدوات الأنثروبولوجية لدى أوجلان، وتحديداً من جهة فهم العصر الحجري الحديث “النيولوتيك” وصعود الهرمية والهيمنة بطريقة أكثر تفصيلاً وتطوراً. من المعلوم، إن بوكتشين شدد دائماً على أنه حتى في المجتمعات اللادولتية واللاطبقية، يمكن للمرء أن يجد أشكالاً من الهرمية والهيمنة، في حين كتب أوجلان بصيغة مختلفة:” إن تطور السلطة والهرمية حتى قبل ظهور المجتمع الطبقي يمثل نقطة تحول مهمة في التاريخ“، فضلاً على أن الدولة تعتبر بمثابة “ممثل للهياكل الهرمية المؤسساتية بشكل دائم”.

ناقش كلا المفكرين أيضاً الحقبة التي سبقت صعود الهرمية. أطلق بوكتشين على تلك الحقبة تسمية “المجتمع العضوي“، في حين وصفها أوجلان بــ” المجتمع الطبيعي“، كلاهما اعتبرا أن هذا المجتمع يحمل بصمات حضور المرأة، ومنظم وفق علاقات اجتماعية غير هرمية وسلمية وتعاونية وقائمة على التضامن. ومع ذلك، ومن داخل هذا “المجتمع العضوي” تحديداً، شقت الهرمية طريقها إلى مسرح التاريخ.

منذ ذلك الحين، تداخل جدلياً صراع الحرية والهيمنة تاريخياً. حسب أوجلان، كان الشكل الأولي للهرمية تمثل في التحالف الذكوري (الشامان، والشيخ، والرجل القوي) ضد المرأة، موضحاً: ” كان النظام الأمومي الأقدم، الذي اعتمد على السلطة الطبيعية، الضحية الأولى للمجتمع الهرمي. والمرأة هي الطبقة الأولى تعرضت إلى الاستعباد”. وبهذه المقاربة، اتخذ أوجلان نفس موقف المؤرخة والناشطة النسوية جيردا ليرنر في كتابها “نشأة النظام الأبوي“، حيث جادل أوجلان بأن “جميع أشكال العبودية نشأت نتيجة استعباد المرأة”.  عموماً، أطلق بوكتشين على مرحلة صعود حكم الهرمية بأنه حكم ” كبار السن“، في حين نعت أوجلان هذا الحكم بــ” المجتمع الأبوي“.

ولتأسيس علم البيئي- الاجتماعي (الايكولوجيا) داخل جسم فلسفي صلب ومتماسك، أعرب بوكتشين أيضاً عن انتقادات مماثلة للدوغمائية المتأصلة في المثالية الهيغلية والمادية الماركسية الفجة، سواء في بعدها التاريخي أو الجدلي. ربما كان بوكتشين، الفيلسوف الوحيد، بعد هيغل وماركس، أعاد تفسير وتطوير الديالكتيك (الجدل) لشرح العلاقة بين الطبيعة والمجتمع، وقد وجد في مصطلح “الجدل الطبيعي” منفذاً لتجاوز المثالية والمادية الفجة معاً.

هذا المصطلح وفق بوكتشين يتطلب إعادة تفسيره، إذ يُعرف الجدل الطبيعي بأنه عبارة عن تفكير عضوي ينعكس على العلاقات التكافلية بين “الطبيعة الأولى” (البيولوجية) و “الطبيعة الثانية” (الحياة الاجتماعية البشرية). معتبراً أن الطبيعة الثانية نشأت من رحم الطبيعة الأولى، مع احتفاظ الطبيعة الأولى بتكوينها دون فقدان خصوصيتها وسلامتها. لذا، يشكل صعود الهرمية والهيمنة في الطبيعة الثانية تشريعاً لترسيخ عملية اغتراب البشر عن أنفسهم أولاً، ومن ثم عن الطبيعة ثانياً.

لكن بوكتشين يعتقد أن اللحظة الجدلية تواصل طريقها من أجل تقويض سطوة الهرمية والهيمنة في الطبيعة الثانية، وبذلك تملك هذه العملية في بنيتها إمكانية تحويل البشرية نحو الطبيعة الثالثة (الطبيعة الحرة) وهي: إعادة مصالحة الطبيعة الأولى مع الثانية، ولكن بشكل أكثر ثراءً وحريةً وعقلانيةً. ففي الطبيعة الثالثة كما يعبر بوكتشين “ تصبح الطبيعة الثانية نفسها عبارة عن الطبيعة الأولى وذلك من خلال الانعكاس الذاتي، فهي طبيعة مفكرة تدرك ذاتها وتوجه مسار تطورها “.

هذه العملية الجدلية تحتوي إمكانياتها في بذرتها كما قلنا، وهي دائماً تتحدى التجريد القائم في “النظام الاجتماعي التاريخي والرأسمالي المعاصر” وتسعى نحو ما ينبغي أن يكون (مجتمع حر وبيئي) وفق المنطق الوجودي والأخلاقي الذي يصاحب التطور الطبيعي والاجتماعي من خلال: الانعكاسية الذاتية، والعقل، والحرية.

أنتقد أوجلان بدوره، النهج “التقدمي الخطي” للماركسية المادية والجدلية التاريخية، قبل قراءة أعمال بوكتشين. ورغم ذلك، لم يستطع إيجاد مسارات بديلة لنقده. ومع التعرف على مصطلح “الجدل الطبيعي” فتحت له آفاق، ساعدته لنبذ التفسيرات الجدلية لدى المثالية الهيغلية والماركسية بحكم “عواقبها المدمرة“. وكلمة السر في هذه الاساءة التفسيرية وفق أوجلان وبوكتشين معاً، تكمن في المفهوم الأساسي لدى هيغل (Aufhebung) ” النفي والاحتواء والسمو“، فهذا المفهوم لا يعني الاقصاء والتصفية كما جرى تفسيره، بل يعزز التطور دون أن يقضي على المرحلة السابقة، بحيث يحتفظ بها في شكل جديد، ويُحتمل أن يكون أكثر ثراءً وغنىً.

من هذا المصطلح الهيغلي المحوري، استخدم بوكتشين مصطلح “تراكمي” لوصف العلاقة بين الطبيعة والمجتمع، وبدوره، استخدم أوجلان “جدلية بنائية وتطورية” من أجل تموقع مكان الإنسان في الطبيعة والكون. يشدد أوجلان أن أتباع هيغل وماركس أساؤوا تفسير الديالكتيك، موضحاً “سيكون من الأصح البحث عن الأخطاء التي ارتكبها أولئك الذين أساءوا تفسير هذا الجدل في النقاط الرئيسية، وليس في ماركس أو هيغل“.  ففي المجلدين الأخيرين من سلسلة “مانفيستو الحضارة الديمقراطية”، يمكن للمرء أن يشعر بأن أوجلان لديه ميل قوي مع أعمال هيغل. ففي وقت يدعم أطروحة بوكتشين مفهوم الجدل الطبيعي استناداً إلى ميراث الفلسفة الغربية، يقر أوجلان بدوره بالمساهمات المهمة لليونان وأوروبا القديمة وعصر التنوير، لكنه يسعى في الوقت عينه، إلى إنهاء الارث الاستعماري وإزالة المركزية الأوروبية عن الجدل، حينما يشير بقوله: “التفسيرات الديالكتيكية وفيرة في حكمة الشرق أيضاً “.

كان بوكتشين على الدوام معارضاً شرساً لـمذهب “الإيكولوجيا العميقة” والميول البيئية الشاذة، مثل “ كراهية البشر” (احتقار البشر مقابل تعظيم شأن الطبيعة)، ومركزية الإنسان (سيادة الإنسان مقابل دونية الطبيعة) ومذهب الاحيائية. وجه أوجلان أيضاً انتقادات مماثلة. وذلك بتطبيق الديالكتيك الطبيعي على العلاقة بين الطبيعة والمجتمع وكنقد لمذهب الاحيائية، يؤكد أوجلان أنه “بطريقة ما، المجتمع، كطبيعة ثانية، هو مستوى متطور أعلى، لكنه منعكس في الطبيعة الأولى“. عموماً، سهل مصطلح “الديالكتيك الطبيعي” مقدرة تحليلية وفلسفية لدى أوجلان بهدف تجاوز الثنائية التي تضع ذات المجتمع في مواجهة موضوع الطبيعة، حيث وصف أوجلان أن الطبيعة تظهر إمكانياتها من خلال عملية تطورية تراكمية، بحيث تتطور من أبسط أشكال الحياة إلى أكثرها تعقيداً واختلافاً وتنوعاً وذاتيةً وحراً واختياراً.

من بين أبرز المواضيع الاشكالية في قضية البيئة، أخذ موضوع “التمدن” حيزاً كبيراً في تفكير بوكتشين. حيث ميز بشكل حاد المدينة عن التمدن. بالنسبة إلى بوكتشين، فإن التمدن يقوض إمكانات المدينة باعتبارها ساحة حقيقية للحياة السياسية والمواطنة. كما أنها تستعمر كل من المدينة والريف معاً، وبالتالي تفاقم أزمة البيئة. في حين يرى أوجلان، إن نموذج التمدن الرأسمالي بشقيه الدولتي والخاص، جنباً إلى جنب مع الحضارات الهرمية القديمة، يقوم على الهياكل السرطانية المشوهة داخل ثالوث “التمدن والطبقة والدولة“، بحيث يدفعنا نحو حافة “قتل المجتمع” ويرسخ أزمة البيئة إلى أقصى الحدود من خلال التهام مناظر الطبيعة الزراعية.

بالمقابل، يعتبر أوجلان أن “العقل قد تطور في علاقة وثيقة مع المدينة. فالمدينة هي المكان الذي بدأ فيه البشر في التعرف على اتساع طاقاتهم [إمكاناتهم]“. وعليه، يسعى أوجلان إلى استعادة الإمكانات الحرة والحقيقية للمدينة من أجل التغلب على قضية التمدن، حيث يعبر عن هذه المسألة بقوله” يجب أن نفكر في كيفية إنقاذ ما تبقى من الجمال والأخلاق والعقل داخل المدينة”.

سياسة الوعي البيئي- الاجتماعي

يبقى السؤال الأساسي، كيف نقوم بإعادة بناء مجتمع بيئي وديمقراطي؟ في الواقع، طور بوكتشين نموذجه بالاعتماد على “الكومينالية” (التشاركية المجتمعية من القاع) أو ما أطلق عليه يوم ما حنا آرندت بــ” الكنز المفقود” وذلك من خلال تجسيده في سياسة “البلديات التحررية”. هذا النموذج سيكون قادراً وفق بوكتشين للتغلب على الهرمية والهيمنة والاستغلال المتمثل في نظام الدولة- الأمة الرأسمالية. أخذ بوكتشين أفضل جوانب الماركسية والتقاليد الاشتراكية التحررية الغنية، ليشكل توليفة” الكومينالية” بحيث تكون قادرة بشكل جذري لتجاوز النظام الرأسمالي والدولة- الأمة. فالكومينالية تهدف إلى إشراك الناس في التجمعات الديمقراطية والمدنية، لممارسة السياسة وجهاً لوجه، واتخاذ القرارات المتعلقة بشؤونهم العامة. وبذلك، فإنها تستعيد “السياسة الحقة” من الدولة – أي المشاركة الكاملة لجميع المواطنين في الشؤون العامة.

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، كان أوجلان يخوض معركة فكرية لفهم طبيعة الدولة الخطرة، وكان يهدف من وراء ذلك إلى تقوية إرادة الناس وتمكينهم من أجل تفادي سطوة جهاز الدولة المركزي، وعند اطلاعه على بوكتشين، وجد بديلاً قابلاً للتطبيق بخصوص القضية الكردية وإمكانية توسيع هذا النموذج ليكون بمثابة خارطة الطريق للشرق الأوسط، حيث يسوده الحرية والديمقراطية. واستناداً على الكومينالية والبلديات التحررية، طور أوجلان مشروعاً مناهضاً للرأسمالية ومركزية الدولة المفرطة، أطلق عليه “الكونفدرالية الديمقراطية”، والذي يرتكز على ثلاث ركائز: الوعي البيئي- الاجتماعي، والديمقراطية الجذرية، وتحرير المرأة. وكنموذج اجتماعي غير دولتي وبيروقراطي، تهدف الكونفدرالية الديمقراطية إلى تمكين الناس من إدارة شؤونهم من خلال المجالس الاجتماعية، جنباً إلى جنب مع اتحاد البلديات والمجالس الديمقراطية المنتخبة من قبل الشعب من خلال السياسة الديمقراطية المباشرة وجهاً لوجه، وبذلك أعاد أوجلان صياغة رؤيته للسياسة باعتبارها إدارة ذاتية.

مثل بوكتشين، أعتبر أوجلان أن وجود الدولة فوق المجتمع يعد إنكاراً أساسياً “للسياسة” بالمعنى الأرسطي وأرندت الأوسع للكلمة، حيث أشار بأنه: “بأي حال من الاحوال، تعمل هياكل السلطة والدولة، حينما يتم إنكار حق الناس في إدارة السياسة الاجتماعية“. وفقاً لذلك، أطلق أوجلان على السياسات المناهضة للدولة اسم “السياسة الديمقراطية”. بحيث تكون صيغتها النهائية توسيع نطاق الكونفدرالية الديمقراطية على حساب هيمنة الدولة- الأمة الأحادية.

على الرغم أن التقاليد الآناركية طاغية في كتابات أوجلان فيما يتعلق بنقده للدولة، إلا أنه لم ينجرف إلى حالة إنكار الدولة ضمن برنامجه السياسي، نظراً أن الدولة التركية هي الجزء الذي لا غنى عنه في عملية المفاوضات، والتي بدونها لا يمكن حل القضية الكردية، إضافة إلى أن نموذج الدولة لا يزال معمول به في النظام الدولي الراهن. وعوضاً عن ذلك، حاول إضفاء الطابع الديمقراطي على الدولة نفسها، وإنشاء ما أسماه بـ “جمهورية ديمقراطية“، والتي تتعارض مع نموذج الدولة القومية الاحادية، بحيث تتقبل نظاماً ديمقراطياً قائماً على مجتمع ديمقراطي. إذ ستشكل كل من الكونفدرالية الديمقراطية والجمهورية الديمقراطية وفق ما تصوره أوجلان لاحقاً، بمثابة أعمدة محورية فيما تسمى بــ” أمة ديمقراطية“.

سياسياً، يتخذ أوجلان نهجاً ذا شقين: فهو يهدف إلى إضفاء الطابع الديمقراطي على الدولة في شكل “جمهورية ديمقراطية”، وبنفس الوقت يقوم بتمكين قدرة الناس أيضاً حتى يتمكنوا من إدارة شؤونهم خارج نطاق بيروقراطية الدولة، وذلك من خلال مشروع الكونفدرالية الديمقراطية.

ومنذ عام 2005، تبنت الحركة الكردية مشروع الكونفدرالية الديمقراطية، وأعاد حزب العمال الكردستاني وجميع المنظمات التابعة له هيكلة مؤسساته تحت اسم (اتحاد مجتمعات كردستان)، حيث تم ممارسة هذا المشروع منذ مطلع عام 2005 في شمال كردستان (كردستان تركيا). والمعلوم، منذ عام 2012، أي بعد انطلاقة الحراك الثوري السوري، بدأت روج آفا تدير مناطقها من خلال تنشيط هذا النظام، إذ تمت كتابة العديد من المقالات حول تأثير الأبعاد السياسية والوعي البيئي الاجتماعي من زاوية رؤية أوجلان وتطبيقها العملي من خلال الحركة الكردية.

من الناحية السياسية، يعتبر الوعي البيئي الاجتماعي (الإيكولوجيا) بمثابة الجسد التأسيسي لتفكير أوجلان. ومع ذلك، لا يمكن اختزال أوجلان فكرياً تحت عباءة بوكتشين. وفي الوقت نفسه، لا يمكن إنكار الأهمية الكبرى للإيكولوجيا الاجتماعية في الزخم الذي أعطته أوجلان لتبني موقف أكثر جذرية وديمقراطية. من الناحية الجدلية، احتفظ أوجلان بــ” الايكولوجية الاجتماعية” كأحد الركائز الأساسية للحداثة الديمقراطية، وتالياً قام برعايتها وتطويرها وإثرائها في بيئة اجتماعية وسياسية مختلفة تماماً عن بيئة بوكتشين.

ملاحظة: لسهولة قراءة النصّ الكترونياً، تم نشر النص بدون الحواشي والمصادر، ستتم إضافة نسخة PDF باللغة الانكليزية مع المصادر. أضغط هنا