الأتراك الأوراسيون وعقيدة مواجهة الإمبريالية الغربية!

فرهاد حمي | نورث برس سوريا

مع أفول الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي تطلعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى نشر عقيدة فرانسيس فوكوياما الداعية إلى ترسيخ القيم الليبرالية على مستوى النظام العالمي، وسعت في الوقت نفسه إلى إعادة تموضع تركيا تبعاً لتلك العقيدة التي تولي لتركيا دوراً محورياً – نظراً إلى موقعها الجغرافي والسياسي والثقافي والديني- في احتواء الجمهوريات ذات الطابع الإسلامي في البلقان والشرق الأوسط وتلك الناطقة باللغة التركية في وسط أسيا.

برزت صياغة هذه الاستراتيجية في مؤلف غراهام فولر، نائب الرئيس السابق للمجلس القومي الأمريكي، عام 1993 بعنوان “جيوبوليتيك تركيا الجديدة.. من البلقان إلى الصين”، الذي كان بمثابة خارطة الطريق للرؤية الأمريكية حيال المقاربة التركية في منطقة ” أوراسيا”.

في حين شكل كتاب وزير الخارجية التركي السابق داوود أوغلو “العمق الاستراتيجي” نسخة تركية محلية لترجمة هذه المقاربة في السياسة الخارجية التركية بعد تسليم حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم عام 2002. 

غير أنّ الطاقم السياسي والثقافي والاقتصادي على المستوى الداخلي في تركيا، الذي كُلف لتأدية هذه الاستراتيجية، كان مختلفاً في تركيبته الجديدة عن تلك المؤسسات البنيوية التركية السابقة التي كانت تتكيف مع مناخ الحرب الباردة، وبالتالي ستكشف الأحداث التاريخية اللاحقة بأن الطاقم الجديد الذي يسمى “الكتلة الأطلسية”، الموالية للغرب، لن يشق طريقه بسهولة متوقعة في مواجهة رواسب الطاقم القديم الذي سيعيد إنشاء ذاته تحت يافطة “الأوراسيون” في لعبة الهيمنة على السلطة والنفوذ. وعلى هذا النحو ستكون الحلبة السياسية والصدام المفتوح والخفي بين هذين الكتلتين كنوع من مواجهات النفي والنفي المضاد في ترسيم خارطة بنية الدولة التركية ما بعد الحرب الباردة.

حشدت بيروقراطية الدولة والقيادات العسكرية والأمنية والشخصيات الأكاديمية والسياسية في مرحلة ما بعد التسعينيات أسلحتها عبر إعادة اختراع ذاتها بغرض مواجهة الكتلة الأطلسية، وقد أطلقوا على أنفسهم “الأوراسيون” في بداية الألفية الجديدة. وعليه، ستصبح لعبة الشطرنج داخل أروقة الدولة وفق وجهة نظر هذا التيار أداة لدفع تركيا صوب ما يسمى المحور الروسي – الصيني تعويضاً وإحلالاً عن “الإمبريالية الغربية”، وعلى ضوء ما سبق، يتوجب البحث عن السياق الإيديولوجي والمؤسساتي والسياسي لما يسمى “مجموعة أوراسيا في تركيا” بصورة أكثر تفصيلاً ضمن اللحظة التاريخية المتشكلة بهدف الإحاطة بالمشهد السياسي التركي القائم حالياً. 

إيديولوجية أوراسيا التركية

يرجع البرفسور التركي “سلجوق جولاك أوغلو” نشأة عقيدة مجموعة أوراسيا المعادية للغرب في تركيا إلى رحم ثلاثة تيارات أسياسية مشتركة في نزعتها اليمينية المتطرفة (اليسارية الكمالية والقومية والإسلامية)، والتي تتبنى مقاربة معادية للغرب على مستوى السياسة الخارجية، وتنتهج الرؤية القومية المتطرفة على صعيد السياسة الداخلية، وتتقاطع هذه النسخة التركية مع إيديولوجيا البعث، أو ما يعرف في بعض الأوساط الثقافية التركية بـ”الفاشية السوداء”. وتعتقد هذه الكتلة بأن على تركيا أن تنهي عضويتها من حلف الناتو، وتوقف مساعيها للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي. وتزعم في الوقت نفسه، باضمحلال الهيمنة الأمريكية عالمياً، وتالياً تنبع مصالح تركيا خارج العالم الغربي مع كل من روسيا والصين وإيران والهند وباكستان.

أتاتورك ضد الغرب

في الحقيقة، هذه المجموعة لن تكتفي في إطلاق مقولات يسارية كلاسيكية  ضد الإيديولوجية الليبرالية الجديدة، بل ستسلح ذاتها تاريخياً من خلال عباءة ميراث مصطفى كمال أتاتورك. محمد برنتشيك، الذي يعاون أبيه دوغو برنتشيك في الترويج للنزعة الأوراسية في تركيا عبر مؤسسة أتاتورك التابعة لجامعة اسطنبول، يسلط الضوء في مادة بحثية أكاديمية على جذور الكمالية في خطاب مجموعة أوراسيا التركية؛ حيث يقتفي أثار هذا الخطاب على سبيل المثال في البيانات الرسمية للجمهورية الناشئة وكذلك في الخطب والمقابلات الصحفية التي أجريت مع أتاتورك. 

ففي مقابلة صحفية شهيرة مع أتاتورك، ينقل الصحفي الأمريكي أندرو مانغو، على لسان أتاتورك وفق ما يقوله برنتشيك بأن: “تركيا لا تبالي بأية قوى عظمى في العالم، سواء كانت أمريكا أو غيرها من القوى الغربية، ولا تؤدي دور القرد”، ويضيف الصحفي الأمريكي بأن أتاتورك لم يكن يهدف إلى استنساخ الغرب، بل كان يسعى إلى المشاركة في الحضارة العالمية، على الرغم أن حزمة الإصلاحيات السياسية في بنية الدولة كانت من نتاج الحضارة الغربية.

ويسرد محمد برينتشيك بأن الكمالية، كما يفهم اتباعها اليوم، لم تكن مرادفاً للغرب. حيث استوحت الكمالية أربعة مبادئ أساسية من روح الثورة الفرنسية(الجمهورية، العلمانية، الثورة، القومية) وفق المنظور الكوني بمعزل عن دولة بعينها، واثنان من الثورة البلشفية، الدولتية (نموذج الاقتصاد المركزي المختلط) والشعبوية (تجاوز النزعة الطبقية داخل المجتمع)، ناهيك عن أن أتباع أتاتورك القوميون يستشهدون بأسطورة طوران التركية بغرض نزع الغربنة عن الثورة الكمالية التي كانت في العمق موجهة ضد الإمبريالية الغربية، وما حرب الاستقلال ومقولات أتاتورك ضد الغرب في هذه الفترة سوى برهاناً لتعزيز هذه الفرضية.

برنتشيك الابن، الذي يحاول تلبيس هذه الرؤية تاريخياً بالكمالية بصورة كلية، يسعى إلى إخفاء التناقض الإيديولوجي بين أتاتورك والباشوات العثمانية التي كانت تقود جمعية “تركيا فتاة” في مستهل الحرب العالمية الأولى، وخصوصاً جناح أنور باشا الذي كان يحلم باستحضار أسطورة طوران من عمق وسط أسيا، ويتلقى دعماً إيديولوجياً من مهاجري التتار المسلمين الروس، ذوي النزعة الطورانية الإسلامية، أمثال يوسف اقجورا واسماعيل غسبرنسكي، وذلك بالضد من النزعة الكمالية التي كانت تتطلع إلى تشيد دولة قومية في جغرافية الأناضول وميزبوتاميا كسياق لا مفر منه ضمن الشروط الدولية القائمة حينذاك.

عقدة سيفر

بالعودة إلى مناخ ما بعد الحرب الباردة، دافعت هذه المجموعة عن عقيدتها في مواجهة الغرب من خلال التشهير بالسياسات الليبرالية  الجديدة  ومقولات ما بعد الحداثة، ووصفت نفسها أيضاً من دعاة قيم الحداثة الصلبة التي تتمسك بعقيدة الدولة المركزية والسياسة الاقتصادية المدارة من قبل الدولة. علاوة على أنها شنت هجوماً إيديولوجياً عنيفاً ضد الغرب، نظراً إلى أن استراتيجية “الإمبريالية الغربية” حسب مزاعمها تستهدف ركيزتين في بنية الكمالية: 

الأولى: انحلال مفهوم “الدولتية” التي كانت تتحكم بالاقتصاد بالمساندة مع الشرائح الصناعية الصغيرة والمتوسطة “البرجوازية المحلية” نتيجة انفتاح السوق التركي أمام قروض صندوق النقد الدولي واستثمارات الشركات الأوروبية منذ منتصف الثمانينيات تتويجاً بتوقيع الاتفاق الجمركي مع الاتحاد الأوروبي في عام 1996. وثاني تلك الركيزة هي زعزعة “الجمهورية الشعبوية” التي تتعرض إلى تفتيت إثر المقاربة الأوروبية عبر معايير كوبنهاغن التي تحترم حقوق الأقليات القومية وتساند المحليات الإدارية بالضد من المركزية القائمة على “العرقية الأحادية المتجانسة”.

صاحبت هذه التبريرات الدفاعية في مواجهة الغرب عقدة تاريخية مزمنة متجذرة في مخيلة مجموعة “أوراسيا” المسمى “عقدة ميثاق سيفر” التي فرضتها الحلفاء على تركيا بعد الحرب العالمية الأولى عام 1920 بهدف تقسيم ميراث الدولة العثمانية، بما في ذلك الجغرافية التركية الحالية، على الأسس القومية والدينية. تلك الاتفاقية التي تنصل منها الحلفاء فيما بعد إثر توقيع اتفاقية لوزان عام 1923.

تعززت استثارة هذه العقدة  في سياق الدعاية التي يروج لها “الأوراسيون” إبان التدخل الأمريكي في كل من أفغانستان والعراق. وبررت هذه المجموعة من حجم مخاوفها بالاستناد إلى تصريحات ومواقف غربية مثل تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة غوندليزا رايس، ومقالتها المشهورة في واشنطن بوست التي كانت تدعو إلى تشكيل الشرق الأوسط الجديد، بالتوازي مع صعود الحالة الكردية في المنطقة بعد تأسيس فيدرالية كردستان العراق، ومطالب الاتحاد الأوروبي من أنقرة من خلال ميثاق كوبنهاغن بتعزيز اللامركزية المحلية على المستوى الداخلي.

وعليه، ستقوم مجموعة أوراسيا بريادة دوغو برنتشيك، رئيس حزب الوطن والذي ينسق مع المنظِّر الروسي إلكسندر دوغين، في تحريك التيارات الحانقة داخل هياكل الدولة التركية ضد المجموعات الموالية للغرب، بغرض تغير المسار الجيوسياسي التركي في نسق النظام الدولي عبر تشكيل محور برنتشيك – أردوغان- باهجلي، المسنود أمنياً من روسيا ومالياً من الصين. وهو الأمر الذي سنتناوله باستفاضة في المقالة القادمة.

——

نُشر هذا المقال للمرة الأولى بوكالة “نورث برس سوريا”، ويمكنكم الرجوع إلى النص الأصلي عبر هذا الرابط.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد