تراث المذهب الحنفي في السياسة التركية (2)

حسين جمو | وكالة نورث برس سوريا

دشّن انقلاب 1980، مرحلة جديدة في تركيا تضمّن توسيع الاستخدام الانتقائي للإسلام السياسي على عدة مستويات.

تحول الانفتاح الذي بادرت إليه رئاسة الشؤون الدينية، منذ عام 1980، تجاه السلفية (وفقاً لمقتضيات الجهاد الأفغاني) إلى خرق الجدران “الماتريدية – العثمانية” أمام الإسلام الجهادي في نسخته العربية، الأمر الذي أقلق العديد من الأكاديميين الأتراك، فدعوا منذ منتصف التسعينيات، إلى “جعل الفقه الحنفي بنسخته التركية، جوهر النهج الليبرالي، لتمييز تركيا عن بقية المجتمعات المسلمة” بحسب البروفسور محمد زكي إشجان.

حين تسلّم حزب العدالة والتنمية الحكم، عام 2002، تطلّع إلى قيادة العالم الإسلامي، ضمن ترتيبات دولية جديدة في التعامل مع أيديولوجيا الإسلام الجهادي. وتحت ضغط عدد هائل من توصيات مراكز الدراسات الغربية، وبإسناد مخابراتي، تم الترويج على نطاق واسع لنموذج حزب العدالة والتنمية، كإسلام قادر على احتواء الخطاب الجهادي – في جزئه المعادي للغرب – في العالم الإسلامي.

ترشيح الحزب لأداء هذا الدور استند إلى ميراث التجربة التركية تاريخياً، مع قناعة بأن فتاوى واجتهادات الفقهاء الأحناف، تاريخياً، أكثر انفتاحاً من الناحية السياسية، سواء في إقامة علاقات خارجية أو أسس الحكم. لذلك، فإن ترشيح الغرب لحزب العدالة والتنمية، بعد 11 أيلول/ سبتمبر 2001، لقيادة العالم الإسلامي إلى اتجاهات أكثر تصالحية في العلاقات الخارجية، يأخذ في الاعتبار الطابع الليبرالي للمذهب الحنفي في إطار السياسات التركية، والتي لم تعد تحت إدارة منفردة لهيئة رئاسة الشؤون الدينية. فقد لعب الداعية، فتح الله غولن، دوراً محورياً في توسيع الهيمنة التركية في مناطق تراث المذهب الحنفي، في البلقان وآسيا الوسطى، وكان بمثابة الرئيس التنفيذي لمشروع الإسلام الليبرالي القائم على الاجتهادات الحنفية المتأخرة. خصمه الكبير داخلياً تمثل في أحمد داوود أوغلو الذي سرعان ما ستتم إزاحته بعد فترة قصيرة من انهيار التحالف بين أردوغان وفتح الله غولن.

تحدي الجنوب “العربي”

لم يكن أمام حزب العدالة والتنمية خيار واحد يعتمده. فاعتمد عدة أدوات تنفيذية تضاربت لاحقاً مع بعضها البعض. تركّزت البروباغندا الغربية على التسويق لفكرة أن أي حزب إسلامي يمكنه تسلم السلطة وفق نموذج حزب العدالة. فشهدت السنوات الأولى من هذا المشروع (2002 – 2007) ثورة إعلامية عالمية موجّهة، تم خلالها تكريس شاشات وصفحات الإعلام في سبيل إقناع الإسلاميين بالانتخابات كطريق للحكم. فالتحقت حركة حماس بالأمر، وتقدمت أحزاب إسلامية أخرى في الانتخابات في عدد من الدول العربية والإسلامية.

في تركيا، كان غولن يراقب بحذر هذه السياسة. فهو يعد من الأدوات التنفيذية لنشر النموذج التركي الحنفي عبر المدارس الدعوية، والرجل يعد فعلياً، مبشّراً للنسخة التركية من المذهب الحنفي. ينعكس صدى هذه الهوية لدى كتابات تلاميذه وأتباعه عنه، كالدكتور المغربي، محمد جكيب، على سبيل المثال. ففي معرض تبريره تجاوز غولن لتراث “رسائل النور” للشيخ الكردي، بديع الزمان سعيد النورسي (الشافعي)، يكتب: “إن انتماء الأستاذ (يقصد غولن) إلى المذهب الحنفي يجعله أكثر قربا إلى استعمال الفكر والعقل في باب الاجتهاد، وذلك لأن المذهب الحنفي، وخاصة في باب الفقه، أكثر المذاهب الأربعة توظيفا للعقل والفكر”. (مقومات العقيدة عند فتح الله كولن – محمد جكيب – مركز نسمات للدراسات الاجتماعية والحضارية – 11 أبريل 2019)

ووجد مثل هذا الترويج للماتريدية صدىً في الصحافة الغربية أيضاً بصيغة أن حركة خدمة “تشجع الشباب على الانفتاح على العالم الغربيّ، وتُعنَى بالثوابت الإسلامية” (تحقيق لصحيفة إيكونوميست عن مدارس حركة خدمة – 2008).

ولفتح الله غولن تاريخ في خدمة الطورانية. ففي سيرته التي كتبها تلميذه فريد الأنصاري، العديد من الوقائع بخصوص تحقيره لليساريين. والأخطر أن هناك خيط صلة تكاملي بين مخيمات “الذئاب الرمادية” التي أسسها ألب أرسلان توركيش، ومخيمات أسسها غولن في منطقة جبلية بإزمير لـ”مواجهة الفكر الشيوعي الإلحادي”. (فريد الأنصاري- عودة الفرسان – 266).

كان هذا التلاقي، بين ارتباط التوجه السياسي للمذهب الحنفي في تركيا بالفضاء الطوراني القومي، وتسويقه بأنه الأكثر انفتاحاً على الفضاء الاجتماعي لحلف الناتو، مصدراً لمعضلة لم تظهر بأنها معضلة سوى في السنوات الأخيرة. فعلى النقيض من البنية الليبرالية القومية للإسلام الذي توجهه الدولة داخل البلاد، فإن فتح الله غولن واجه صعوبات في التوغل داخل البلاد العربية، ويرجح أنه لم يغرب بذلك، لكنه نجح إلى حدا في إقليم كردستان العراق. لذلك، بقي تأثير غولن على السياسات العربية لحزب العدالة ضعيفاً، وتبين أن هناك ممانعة من جانب غولن حول سياسة إلحاق العرب بالنموذج التركي. وقد ظهر ذلك أول مرة خلال إرسال جمعيات تركيّة، بأمر من الدولة “أسطول الحرية” إلى قطاع غزة عام 2010، وسقوط 11 قتيلاً على أيدي فريق اقتحام للجيش الإسرائيلي. حينها خرج غولن إلى العلن، وانتقد بشدّة كل من شجع على إرسال هذه القافلة وتحدث عن ضيق أفق أصحابها. كشفت الحادثة التناقض بين رؤيتي غولن وأحمد داوود أوغلوـ حول ترجمة معنى “القيادة” في العالم الإسلامي. فالتمدد جنوباً، نحو البلاد العربية، يحتاج إلى حلفاء محليين، وهؤلاء من تيارات إسلامية إما تضعف الرابطة القومية (كالسلفية) وتجاهر بالعداء للغرب، أو أنها متمحورة حول عروبة فضفاضة (الإخوان)، وفي كلتا الحالتين، تكون الهوية الوطنية التركية في موقع غير مريح، وهذا الموقع هو الهاجس الأول لفتح الله غولن، الذي قام بتحريف

مسار وجهة “رسائل النور” الإسلامية العالمية، إلى المجتمعات التركية ذات المذهب الحنفي. فالتزم غولن الاتجاهين الآسيوي والبلقاني، فيما عمّق داوود أوغلو توجه تركيا نحو العمق العربي.

السلفية والإخوان

سرعان ما ظهرت نتائج عكسية لمغادرة العدالة والتنمية الإطار المحلي إلى التمدد جنوباً على حوامل إسلامية غير تركية. فقد تحول الحزب، خصوصاً في مرحلة هيمنة أردوغان، إلى راعٍ ميداني للإسلام الجهادي في دول الربيع العربي. فكما اعتمدت الولايات المتحدة، بشكل مرحلي، على هذا الخطاب الإسلامي ضد الاتحاد السوفييتي، سلكت تركيا هذا الطريق، لاستخدام الجهاديين، الذين ظهرت أنواع لا حصر لها، سياسياً، في حربها المعلنة، منذ تأسيس الدولة التركية، ضد الكرد في سوريا والعراق، وضد قوى عربية أخرى في عدد من الدول.

انعكس هذا التوجه التركي على البنية الاجتماعية المحلية، وإنْ كانت نتائج ذلك ما زالت محدودة في الوقت الحالي، من حيث الظاهر. فقد تمركزت في تركيا فروع دعوية للتيارات الجهادية المقاتلة، وخطاب بعض هذه التيارات يستهدف نموذج الدولة الوطنية، بل يحقّرها ويدعو إلى هدمها، بما في ذلك الدولة التركية نفسها. لذلك، بدأت الدولة تنحو إلى تقليص هامش الحرية للجهادية السلفية، مقابل منح “الإخوان” مساحة أكبر، باعتبار أن الفئة الأخيرة في نسختها الحالية، من دعاة الدولة السلطانية. ومؤخراً، منذ خسارة حزب العدالة بلدية اسطنبول، تظهر ملامح أخرى لسياسة أكثر طورانية وأقل إسلامية، وتهميش لدور الإخوان في مناطق الاحتلال التركي، لصالح حكم تركي مباشر.

أوقع تشابك هذه السياسات مع تنظيم الإخوان المسلمين، في الدول العربية، الإسلام التركي تحت تأثير خطاب متشنّج، تحت ضغط هزائم أتباعه في الدول العربية، وإحجام الدول الغربية عن التدخل لتعديل كفة المشروع التركي، وهو الأمر الذي يرجعه الباحث “مراد سيزر” إلى ما أسماه “الصبغة القومية للإسلام التركي”، فرغم اعتماده على التراث الحنفي، الأكثر تحرراً، إلا أنه يثير الشكوك على مستويين. فالأوروبيون ينتقدون إعاقة العدالة والتنمية دمج المهاجرين الأتراك في المجتمعات الأوروبية، عبر سياسة التكتلات في المساجد والمنظمات. كما أن العديد من الدول العربية تنظر بريبة إلى محاولات الهيمنة التركية.

مع ذلك، بقي حزب الحركة القومية، صامتاً في خطاباته الرسمية، تجاه تعرض الإطار الحنفي للإسلام التركي إلى ضربات قوية. لكن العديد من كوادره وقياداته تطرقوا إلى هذا الهاجس في مقالات وحوارات. من بين هؤلاء، البرلماني والقيادي في الحزب، كوندوز أكتار. ففي مقالة له نشرها عام 2006، في صحيفة راديكال، طالب بأن تكون تعاليم المذهب الحنفي “الأساس اللاهوتي للجمهورية العلمانية”، معتبراً أن مصطفى كمال “أسس لهيمنة الفقه الحنفي على رئاسة الشؤون الدينية”، وأن على أصحاب التوجهات الدينية في السياسة التركية الإدراك جيداً أن المذهب الحنفي الذي تمثله الجمهورية العلمانية “أفضل نموذج للإسلام”.

إن تأثيرات التواطؤ التركي مع التيارات الجهادية في سوريا، وتوفير بيئة محلية لأقرانهم الأتراك، ستظهر كمعطى جديد في خريطة الولاءات الأيديولوجية. فالدمج الذي أقدم عليه أردوغان، بين ما يعتبره “متطلبات الأمن القومي” والاستثمار في “الإسلام الجهادي”، ضد الكرد، سيظهر أولاً في حوارات أمام الدكاكين في المدن الصغيرة، وكيف سيقوم أحد الموطنين في واحدة من هذه النقاشات بالاستناد إلى مؤلفات الداعية السلفي ذو الأصل التركماني العراقي، “عبدالله يولجو”، بتكفير الدولة العثمانية، والسخرية من “الخرافات الصوفية” القادمة من اجتهادات الماتريدية الحنفية، وكيف أن تركيا “دولة تقف على حافة الكفر”.

منذ إعلان التحالف بين الحركة القومية والعدالة والتنمية، عام 2015، حدثت متغيرات كثيرة تترك أسئلة أكثر مما تطرح أجوبة. وأولها عدم توفر أي أساس لوجود مثل هذا التحالف، عدا الطرح المشترك الإبادوي ضد الكرد. لكن، على المستوى التركي الداخلي، تتعرض الحاضنة الدعوية للمذهب الحنفي، الجناح المهم للدعوة الطورانية القومية، إلى تجفيف عنيف من قبل أردوغان، بلغت حد الإبادة الاقتصادية لكل الخصوم المتهمين بالولاء لفتح الله غولن. ووفق الخيوط الرفيعة المكوّنة لسياسات أردوغان، فالصورة الماثلة تظهر فوضى هائلة يدركها، أو يصرح بها، قلة من الساسة الأتراك، من بينهم داوود أوغلو، الذي يعرف ما الذي أسسه وكيف ينتهي الأمر بكل ذلك.

الواقع أن إزاحة داوود أوغلو، أو خروجه من السلطة، نقطة التحول الأبرز في السياسة التركية الداخلية للحزب. فهذا الأمر فتح المجال أمام حزب العدالة والتنمية ليصبح طورانياً أكثر من كونه إسلامياً سنياً، كما جعل الحزب متأهباً – في وقت متأخر- لإغلاق الباب أمام رياح السلفية الجهادية، وأكثر التصاقاً بالقاعدة الاجتماعية للسنة الأتراك (الأحناف) وهذه الساحة مشتركة بين العدالة والتنمية والحركة القومية، وبات هذا ميدان التآخي بين الطرفين.

يتوافق كل من حزب العدالة والتنمية والحركة القومية، في بناء هوية تركية سنّية، (سليم كورو Turkey’s Wolf Pack- ). فالقومي التركي في خطابات حزب الحركة القومية وممارساته، هو التركي السنّي الحنفي. وبالنسبة لحزب العدالة، فيحمل خطاباً سنياً أوسع في السياسة الخارجية. فالنطاق القومي لكل منهما، مختلف. ووفق الخطوط الأيديولوجية، مكان حزب الحركة القومية في خندق واحد مع حركة غولن وليس أردوغان. فرؤية غولن الرومانسية تجاه أتراك وسط آسيا جعله يستخدم تعبير “فتوحات آسيا الوسطى” بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وهي رؤية تتطابق مع حزب الحركة القومية في تسيير مستويين دعويين: الإسلام بالصيغة الحنفية، والرابطة التركية الطورانية.

حزب العدالة، حتى العام 2016، كان يسير وفق الرؤية التي خطّها أحمد داوود أوغلو، في أن الهوية المتمحورة حول الإسلام أوسع تمثيلاً من التركية الطورانية. وعلى هذا الأساس سخر داوود أوغلو من “الجدار الأيديولوجي” لباهجلي، وتساءل في خطاب له في نيسان/أبريل 2016: هل بإمكان حزب الحركة القومية حتى التفكير في دخول الانتخابات شرق تركيا؟ (يقصد المناطق الكردية).

كردياً، بدأ حزب العدالة يفقد قاعدته الشافعية، وسيتفاقم ذلك في السنوات القليلة القادمة، نظراً لتحول خطاب أردوغان إلى الطورانية المحافظة. فالرجل بات يرد على سؤال حول القضية الكردية بقوله: “إن هذا السؤال معيب.. لقد تم حل القضية وانتهى الأمر”. لكن انفضاض النقشبندية الشافعية عنه يتوقف على عوامل عديدة، منها كيف يمكن استيعاب هذه الكتلة خلال السنوات الثلاث المقبلة كردياً، ومدى العلاقة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والنسخة الطورانية من حزب العدالة.

شيئاً فشيئاً يتمحور هذا التحالف السياسي بين أردوغان وباهجلي، حول التعبيرات والمظاهر الاجتماعية والسياسية للماتريدية المترنّحة، في ظل غياب الأب الروحي لتوليفة الإسلام الليبرالي الحنفي، فتح الله غولن، وفي ظل تزحزح أركان “الإسلام السياسي الليبرالي” داخل تركيا بفعل توغل الجهادية و”الإخوان” داخل قطاعات غير قليلة من المجتمع التركي.

أقصى ما يمكن بناءه ضمن هذا التحالف ليس حتى نوعاً من العثمانية المحلية، بل أقل من دولة “آق قوينلو”، إلى أن تعود تشكيلة داوود أوغلو إلى الساحة عام 2023، أو حتى قبل ذلك، كحكومة أو معارضة، لمحاولة ترتيب فوضى الخيارات الاستراتيجية التي تعيشها تركيا، داخلياً وخارجياً، من دون أن يعني ذلك أن الوضع سيصبح أفضل لتركيا المأزومة.

——

هذا المقال نقلا عن وكالة نورث برس سوريا. للاطلاع على الموقع الأصلي.. اضغط هنا.

——

لقراءة الجزء الأول من المقال.. اضغط هنا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد