حسين جمو
عادت مسألة التراث السياسي للمذهب الحنفي في السياسات الاجتماعية التركية في السنوات الأخيرة، على نحو خافت وجاد، نتيجة القلق بين نخب تركية علمانية تجاه تيارات دينية وافدة تضعف من مكانة القومية مقابل تعظيم رابطة الإسلام. والطورانية التركية لم تقم على هذا الأساس، بل قامت على الارتباط العضوي مع الإسلام التركي الذي أخذ طابعاً ليبرالياً طيلة القرن الماضي.
فدعاة إحياء وتعزيز التراث الحنفي، من هذه الزاوية، ليسوا تياراً إسلامياً، بل ينطلقون من رؤية أعمق مشغولة بالحفاظ على ريادة القومية التركية في حال طرحت إلى جانب المفهوم الديني. وما سيرد في مناقشة التراث الحنفي هنا، يدور في هذا الإطار، وليس البعد المذهبي الفقهي (الشريعة).
يرصد أحمد داوود أوغلو، أنه خلال مرحلة الحرب الباردة، تحركت تركيا في ثلاثة اتجاهات: الأوروبي والأميركي والإسلامي ( العمق الاستراتيجي- ص 249). أما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فإن تركيا دخلت مرحلة “سلبية ومخيبة للآمال” بحسب وصف أوغلو، بسبب عدم جاهزية السياسات التركية للوضع الجديد.
حتى العام 1990، كانت سياسات الطورانية مقتصرة على حزب الحركة القومية، ولم تشكل جزءاً من سياسات الدولة التركية على الصعيد الخارجي، لكنها استخدمت داخلياً ضد الشعوب غير التركية. واعتباراً من عام 1992 ، بدأت تركيا بترديد عبارة “العالم التركي من البحر الأدرياتيكي حتى سور الصين العظيم” (داوود أوغلو – 247). واستمرت هذه السياسة حتى تسلم حزب الرفاه، بقيادة نجم الدين أربكان، السلطة، عام 1996.
ما هو هذا الشعار (من البحر الأدرياتيكي حتى سور الصين العظيم) ؟ هل البحر الأدرياتيكي -البلقاني اليوناني- تركي؟ هل تعيش هناك شعوب تركية ؟ إذا كان لحاقاً بالتراث العثماني، فلمَ لا يتم ضم الجنوب الشامي والحجازي إلى هذه التركيبة ؟
ليس مصادفة أنّ العالم التركي المقصود في الشعار محدد بهيمنة التراث الاجتماعي للمذهب الحنفي. هل يشكل هذا التراث فضاءً للسياسة ؟
شكّل المذهب الحنفي مركز الأيديولوجيا الدينية للدولة العثمانية على مدى خمسة قرون. نشطت الدولة في احتكار القضاء الديني للمذهب الحنفي حتى العام 1914، لضمان مقام رفيع للمذهب في المدن غير الحنفية الكبرى (دمشق- حلب – بغداد- المدينة – مكة – القدس). فكان المذهب الرسمي للدولة، بهيمنة إقصائية على رجالات وقضاة المذاهب الثلاثة الأخرى، قبل أن تعود الدولة إلى التقليد المملوكي، في تعيين قضاة المذاهب الأربعة أواخر الدول العثمانية، حين كانت تنهار.
كان هناك تحدّيان متعارضان أمام الدولة. الأول، أن مؤسسة شيخ الإسلام الحنفية، وريادة هذا المذهب، يضمن عدم إثارة سؤال شرعية العثمانيين. لكن في المقابل، كانت فتوى حنفية سبباً لأزمة اجتماعية مديدة في الدولة، وهذه الفتوى باتت جزءاً من روايات أدبية، كما في “اسمي أحمر” لأروهان باموك. فالمرأة التي يغيب زوجها دون أن يكون هناك دليل مادي على أنه قتل، فإنه لا يحق لها الزواج أو الطلاق. ولأن الالتحاق بالجيوش كانت مهنة رائدة، فإن آلاف الجنود من كل جيل، كانوا في إطار المفقودين، فكانت العديد من النساء، يهجرن موطنهن إلى حيث يكون القاضي شافعياً، في الأرياف غير التركية، لتحصل على الطلاق.
شرعية الخلافة
خلال قرون طويلة، واجهت الدولة العثمانية مرتين سؤال مشروعية حكمها شرعاً. ففي الأول كانت بعد وفاة سليم الأول، وعن سبب عدم إقامة مراسم نقل الخلافة من مصر إلى القسطنطينية. وحينها تصدى الوزير الأعظم، لطفي باشا (توفي 1563) لهذه الدعاوى في كتابه “خلاص الأمة في معرفة الأئمة”. ووفق شذرات يذكرها أكمل الدين إحسان أوغلو، في كتابه الدولة العثمانية، فإن محور الدفاع عن شرعية السلطان في كيفية تبرير إخراج الخلافة من قريش (ص 229 – 236).
المرة الثانية التي أثيرت فيها مسألة الشرعية كانت خلال مرحلة الدعوة الوهابية مع نهاية القرن الثامن عشر. فقد كانت الزوايا والتكايا نسيت سؤال شرعية الخليفة. ففيما عدا اجتهادات وحالات استثنائية في المذهب الحنفي، على ولي أمر المسلمين، أن يكون منحدراً من البيت الهاشمي، من أهل الاجتهاد، وتساهل بعض الأئمة فجعلوا من النسب القرشي، مع الاجتهاد، كافياً. وبنو عثمان لا من هذا ولا من ذاك. إلا أن تفسيرات معاصرة في ذلك الحين لإسقاط المذهب الحنفي شرط القرشية في الخليفة جعلت سيادة هذا المذهب علة الوجود العثماني في تأسيس دولة سلطانية متوجة بلقب الخلافة، رغم محاولات مؤرخي الدولة تهميش هذا المرتكز.
لا غرابة في القول إن السلطان سليم الأول، حين استجلب “عدّة الخلافة” من القاهرة، بعد معركة الريدانية، قد تأثّر بالتنظير الشرس الذي قدمه قبل ذلك بقرنين، قاضي الأحناف بدمشق، نجم الدين الطرسوسي، للوافدين الترك والشركس (دولة المماليك) بأن لا مانع شرعياً من أخذ التركي الخلافة لنفسه وفقاً للمذهب الحنفي، وحذّر الطرسوسي المماليك والترك من “رياء الشافعية” لأنه لا شرعية لديهم لخليفة ما لم يكن قرشياً (الطرسوسي- تحفة الترك فيما يجب أن يُعمل في الملك). حتى زمن سليم الأول، لم يجرؤ أي من قادة الترك طيلة قرون على فعل ذلك. بل إن المماليك قد جلبوا طفلاً من بني العباس وقلدوه الخلافة ليحكموا باسمه، دون الخوض في “المغامرة الحنفية”.
كردستان الشافعية
بات المذهب الشافعي، على المستوى الاجتماعي، مصنعاً لتعريب النخب الكردية. فنوستالجيا “آل البيت” و”البيت الهاشمي” والأصل القرشي، سلبت فؤاد الكرد الشوافع على مدى قرون، وهو ما لا نعثر عليه بين الترك والأفغان والبلوش والأرناؤوط، وكل هؤلاء تبعوا المذهب الحنفي الذي كان بحق، مذهب معظم الشعوب المشرقية غير العربية، ومنحهم ثقة واعتداداً بالذات لا يضطرون معه إلى اختراع نسب إلى آل البيت، كما فعلت الأرستقراطية الدينية لدى الكرد (الشوافع) والفرس (الشيعة). ويلفت أبو مصعب السوري، في كتابه، المقاومة الإسلامية العالمية، إلى خاصية السيادة في المذهب الماتريدي الحنفي لدى الأفغان الذين لم يندمجوا مع التنظيمات الجهادية ذات المنشأ العربي خلال سنوات الجهاد الأفغاني وحتى اليوم. فالخصائص الاجتماعية للمذهب الشافعي، اندماجية تجاه موطن الإسلام الأول، بينما الخصائص الاجتماعية والسياسية للحنفية أكثر نزوعاً نحو الاستقلال.
شكّل المذهب الشافعي، المدعوم بالنقشبندية، في بداية تأسيس الجمهورية، خطاً من خطوط المقاومة الكردية ضد الفضاء الحنفي التركي والذي شهد، خلال فترة قصيرة، تتريك ملايين الأرناؤوط والشركس والتتار، وجميعهم من الأحناف. لذلك، اعتمدت الدولة على اختراق الشافعية النقشبندية والاختباء وراء شعار “كلنا مسلمون” كأداة للتتريك الناعم. والتقسيم الاجتماعي المذهبي في تركيا، على خلاف ما هو سائد عربياً، واضح. فمن البديهي أن يقال، حتى اليوم، أن سكان القرية الفلانية شافعيون وإلى الغرب منها قرية للأحناف. وقد نجمت عن الهوية المركبة لحزب الحركة القومية (الطورانية الممنطقة بالموروث التاريخي الحنفي) ظهور أطروحة إلغائية عنيفة للغاية تجاه العلويين والأرمن واليونان. ففي العمق، أطروحات ألب أرسلان توركيش، طائفية حنفية تجاه العلويين الأتراك، وطورانية تجاه الكرد، وتركية تجاه أحناف البلقان والقوقاز. لهذا اهتم توركيش، خلال العقدين السادس والسابع من القرن الماضي، بالمهاجرين الأفغان والبلغار والقوقازيين، كعناصر مستقبلية في القومية التركية. والقبائل التركية تاريخياً انقسمت إلى قسمين، الأول يدور في فلك التصوف الشيعي، وهؤلاء ثبت عليهم تسمية التركمان. وذروة ظهورهم كان مع الصفويين. فيما القسم الآخر اعتنق الإسلام السني الحنفي. اليوم كل التعريفات التفصيلية للقومية التركية تقصر الشخصية القومية على الثاني، وتستبعد القزلباش التركمان. وينعكس هذا اليوم على امتدادات المطامع التركية خارج الحدود، فلا أحد من أحزابها يلقي بالاً لما حدث لتركمان تلعفر وطوزخورماتو الشيعة، فيما يتم إشهار السيوف من أجل تركمان كركوك السنة.
إن نجاح الجمهورية في بداية تأسيسها تتريك المكونات غير التركية (الشركس والألبان)، وصعوبة تحقيق نجاح مماثل بين الكرد، لا يعود ببساطة إلى قوة الشخصية الثقافية الكردية، فالثقافة الشركسية والبلقانية لها تاريخ سياسي في المقاومة لا يقل عن الكردية. بل العامل الأكثر أهمية، إلى جانب التقاليد الدينية النقشبندية، أن الكرد أصحاب أرض، والشعوب غير التركية كانت ضمن موجات اللاجئين الكبرى باتجاه الأناضول.
الإخوان والنقشبندية
شهدت تركيا موجات إحياء “عثمانية” عديدة، منذ تأسيس الجمهورية عام 1923. في مطلع الخمسينيات كان الإحياء الإسلامي عاماً، غير مؤطر أيديولوجياً، وبقي كذلك. تناوبت سلسلة من الأحزاب الحالمة بالإحياء الإسلامي الذي هندسه في الأساس بديع الزمان النورسي الكردي، في قيادة المشروع، وفي الذروة كان نجم الدين أربكان.
في تركيا حزبٌ فريد من نوعه، هو حزب الحركة القومية. ليس إسلامياً بالمعنى الأيديولوجي، وليس علمانياً في الرؤية الاجتماعية، إنما “حارس الهيكل التركي”. التاريخ أساس أطروحاته. فالتاريخ التركي لدى الحزب، حلقات مترابطة منذ السومريين وحتى اليوم. غير أنه يتفادى التطرق إلى حلقة من هذه الحلقات في الهيكل: الارتباط الروحي للأتراك تاريخياً بالمذهب الحنفي. وحين نقول “المذهب الحنفي” فليس القصد الوجود المادي لهذا المصطلح في خطابات الحركة القومية، إنما في بنيته السياسية التاريخية.
يرصد الباحث في معهد القوقاز، سفانتي إي كورنيل، ظاهرة ملفتة، وهي الجذور الشرق أوسطية (الأشعرية) للإسلام السياسي التركي، ويأخذ مثالاً خطاب نجم الدين أربكان، ذو النزعة الإخوانية – القطبية. ويُرجع غياب الإسلام العثماني التقليدي الحنفي في الإسلام السياسي، رغم شعارات “العثمانية الجديدة”، إلى مصدرين أساسيين: حركة “الإخوان المسلمين” والطريقة النقشبندية الخالدية.
إن القاعدة الشافعية للطريقة النقشبندية اعتلت المركز الروحي في كردستان وبلاد الشام والعراق، من دون أن تضع شرعية السلطان العثماني تحت المساءلة. فالنقشبندية تفادت هذا الاختبار بالنظر إلى حكام آل عثمان كسلاطين أكثر من كونهم خلفاء للمسلمين. ويرجح أن هذا التسامح النقشبندي مع رأس السلطنة، غير الشرعية، قد قوبل من السلطان بالإحسان لشيوخ الطريقة. وكلما انتشرت النقشبندية في المدن، كلما فتح المجال أكثر أمام الفقه الشافعي في المدن الكبرى.
أسس نجم الدين أربكان حزبه، السلام الوطني، ثم النظام الوطني، في السبعينيات، على قاعدة جمهور النقشبندية قبل أن يدخل في خصام معهم بسبب تحالفه مع حزب الشعب الجمهوري عام 1974. بقي أربكان متطلعاً إلى نوع من الإسلام الجامع، التشاركي، ضمن منظومة إقليمية واسعة شرق أوسطية. لم يرشح تركيا لقيادة العالم الإسلامي بالشكل الذي ظهر لاحقاً مع حزب العدالة والتنمية، بل كان مسكوناً بهاجس إنقاذ تركيا من التغريب وما يسمى في الأدبيات الأربكانية “الإلحاد”. لذا تطلع إلى الدول الإسلامية العربية، بتصورات غلبت عليها الرؤية الإخوانية القطبية.
في موازاة ذلك، كانت الطروحات الكبرى ذات الطابع الإسلامي بعد تأسيس الجمهورية، ذات منشأ شافعي كردي، بدءاً من عبدالحكيم الأرواسي إلى بديع الزمان النورسي. إن هذا التفصيل المغفل عنه، حدد المسار العام للإسلام السياسي، ووجه ضربات للربط التركي بين القومية العِرقية والإسلام، وأجبر قيادات من أمثال نجم الدين أربكان وتورغوت أوزال، على تقديم مقاربات أقل تطرفاً تجاه القضية الكردية، على عكس حزب الحركة القومية، الذي اتجه برنامجه القومي إلى الفضاء الحنفي (البلقان وقبرص وآسيا الوسطى والقوقاز). لا يظهر التموضع المذهبي في خطاب حزب الحركة القومية صريحاً، فالجزء الإسلامي من الطورانية لا ينظّر مطلقاً للانفتاح جنوباً على البلاد العربية، إلا كمشروع احتلالي، أو شرقاً باتجاه إيران وكردستان، بل تحاكي إلى حد كبير القومية الأرمنية المرتبطة، طبيعياً، بالمسيحية. لذا، رغم تشارك الحركة القومية مع الإسلاميين، الأيديولوجيا الإسلامية، فإن التباين ليس بسيطاً في تفسير كل منهما لما يقصده من الجذور الإسلامية. لدى ألب أرسلان توركيش قاعدة شهيرة: “نرفض القومية التي ترفض الإسلام، ونرفض الإسلام الذي يتجاهل القومية”. بالتالي، بيئة هذا الإسلام الذي يتحدث عنه حزب الحركة القومية، محصورة في الإسلام التركي السني (الحنفي). وهذه الفرضية لها خريطة ميدانية. فخلال الصدامات والاغتيالات السياسية في السبعينيات بين اليمين واليسار، خارج الجامعات، انحصرت نقاط الصدام الدامية في المناطق ذات الانتشار العلوي والسني التركي. في هذه المناطق كان شبيبة فرقة الذئاب الرمادية تنفذ عملياتها ليس كحركة قومية طورانية، بل كقوة إسلامية خاصة بالترك الأحناف. فالعلويون القتلى في غالبيتهم العظمى كانوا أتراكاً.
في موازاة ذلك، تعتمد مدارس الخطباء، الدينية، في تركيا، بشكل رئيسي على الاجتهادات الحنفية. هذه المدارس تتبع لرئاسة الشؤون الدينية، التي أسسها مصطفى كمال كامتداد ليبرالي لمؤسسة شيخ الإسلام، وهي الدائرة التي تتلقى سنوياً تمويلاً “يقارب مليار دولار”. المضمون الحنفي للمدارس، التي رمى فتح الله غولن ثقله وراءها حين كان حليفاً لأردوغان، ينعكس على خريطة الطلاب. فرغم تأثر البيئة الكردية التقليدية بمسحة إسلامية اجتماعية قوية، لكن الإقبال الكردي عليها ليس كبيراً، بينما تزداد نسبة الطلاب في المناطق التركية وسط وغرب الأناضول، وهذه المنطقة معقل “مهمتجيك”، أو “المحمّديين” الذين شكّلوا تحت هذا الشعار طلائع القوات المحاربة ضد الجيوش الغربية ولاحقاً في تصفية اليونانيين عقب مذبحة إزمير.
بعد مئة عام من تلك الوقائع، ظهرت شعارات “مهمتجيك” جنباً إلى جانب مع شعار الذئب، بين الجنود الأتراك خلال معارك احتلال عفرين. وعفرين بالمناسبة، هي المنطقة الكردية التي ينتشر فيها المذهب الحنفي، إلى جانب كوباني ومناطق أخرى غرب الفرات.
نُشر المقال في موقع NPA