فرهاد حمي
السؤال الذي كان دائماً يُطرح على عالم الاجتماع والمفكر الأمريكي إيمانويل والرشتاين، في الأعوام الأخيرة خلال معظم لقاءاته الإعلامية والمنتديات الفكرية والمحاضرات، كيف سيكون شكل النظام العالمي في السنوات القادمة؟ الإجابة كانت دوماً بصيغة متأرجحة من قبل والرشتاين: “لا يمكننا الآن رسم سيناريوهات النظام العالمي في المستقبل بدقة، السنوات العشر القادمة ربما ستكشف لنا هذه الحقيقة، لكننا نستطيع التكهن بأن النظام العالمي سيتخذ شكلين: إما شكل شمولي مظلم بريادة قوة مالية جديدة، أو فتح آفاق جديدة للحداثة الديمقراطية التي ترسخ المساواة والحرية والديمقراطية”.
والرشتاين الذي غادرنا قبل يومين في مدينة نيويورك انقسمت مسيرته الفكرية والبحثية على مرحلتين، المرحلة الأولى كانت تأسيس نظرية النظام العالمي من خلال مجلداته الأربعة التي تبحث عن جذور نشأة النظام العالمي الجديد بقيادة الرأسمالية الغربية ومراحل تطوره من القرن السادس عشر وصولاً إلى أعوام السبعينيات من القرن العشرين. المرحلة الثانية تمثلت في الولوج إلى مرحلة اللايقين بعد هذا التاريخ جراء انزياح الهياكل البنيوية للنظام العالمي تحت ريادة الولايات المتحدة الأمريكية، بحيث أصبح إعادة تعويم النظام واستقراره وفق قواعده التقليدية مهمة شبه مستحيلة.
عقب حصول والرشتاين على رسالة الدكتواره من جامعة كولومبيا في نهاية الخمسينيات، انصبت اهتماماته على المجتمعات غير الغربية، وتحديداً صوب أفريقيا والهند والعالم الثالث، حيث ترأس جمعية الدراسات الإفريقية التي مكنته من خلالها في التعرف على صديقه الفيلسوف الاجتماعي الثوري “فرانز فانون” ونضال الحركات التحررية في أفريقيا بشكل أكثر قرباً وعمقاً. في حين حفزته تفجير ثورة الشباب عام 1968 لمعرفة الطاقة التمردية الجديدة داخل النظام القائم. وفي هذه الأثناء، ستُعقد علاقة صداقة وطيدة مع المؤرخ الفرنسي، فرنان بروديل، أحد أشهر المؤرخين الفرنسيين خلال القرن العشرين، حيث ذاع صيته في كتابة ثلاثة مجلدات ضخمة، حملت عنوان “الحياة المادية والاقتصاد والرأسمالية”.
ومع أزمة عدم اللايقين التي زعزعت بنية النظام الدولي في أعوام السبعينيات من القرن الماضي وفق والرشتاين، كشفت أطروحات الفيزيائي البلجيكي “إيليا بريغوجين” حول نظرية اللايقين والنظام في الفضاء الفيزيائي، وخاصة نظرية الديناميكية الحرارية الثانية وسهم الزمن، آفاق جديدة أمام والرشتاين. وفي المحصلة سيقول والرشتاين بأنه مدين في المقام الأول لكل من فانون وبروديل وبريغوجين في مسيرة حياته الفكرية، علاوة على كل من ماركس وفرويد وماكس فيبر وكارل بولاني وأندريه غوندر فرانك.
نظرية النظام العالمي
والرشتاين سيقف عند الأطروحة الماركسية التي تقول بظهور النظام الرأسمالي في المدن الإيطالية في القرن السادس عشر، وسيتخذ من هذه الفرضية بغية الشروع في بناء “نظرية النظام العالمي” التي بدأت قبل خمسة قرون بصورة مختلفة عن النظم والإمبراطوريات والدول السابقة، من جهة ديناميكية مسارها المادي والإيديولوجي المتباين. ومن أجل هذه المقاربة، سيخصص فالرشتاين أربعة مجلدات، يتناول فيها كيفية تطور هذا النظام الرأسمالي في المراكز المهيمنة، ومن ثم علاقة المركز مع المحيط والأطراف ضمن كوكبة الخارطة السياسية العالمية.
وعليه، سيبدأ تشكل محور المركز في أوروبا الغربية انطلاقاً من إسبانيا هابسبورغ والبرتغال في القرن السادس عشر(إثر اكتشاف القارة الأمريكية وطريق رأس الرجاء الصالح البحري إلى الهند) ومن ثم سيندرج هذا النظام ويتوسع في هولندا(بعد الحرب الثلاثين عاماً في أوروبا الوسطى والغربية) وبريطانيا (بعد الحروب النابوليونية) والولايات المتحدة (بعد الحربين العالميتين)، في حين ستخضع الدول غير المتطورة روسيا والدول الإسكندنافية (الدنمارك والسويد) والمدن الإيطالية والدول الواقعة تحت سيطرة إمبراطورية هابسبورغ الغربية (هنغاريا، النمسا، الإمارات الألمانية والتشيك) وبروسيا فيما بعد تحت خانة “شبه محيط” لنفوذ القوة المهيمنة في المركز، مع إمكانية وجود نوع من المناورة والمساحة الذاتية لها. في الوقت الذي ستكون المستعمرات الأمريكية والهندية والصينية ومجتمعات أوروبا الشرقية والعالم الثالث بمثابة دول الأطراف، وهي المعنية بالدرجة الأولى بتأمين اليد العاملة والمواد الخام. وبالتالي، سترسم هذه الحلقات الثلاثة مسار النظام الدولي منذ القرن السادس عشر وصولاً إلى السبعينيات من القرن الماضي.
والرشتاين لن ينجر نحو النظرية الاقتصادية الضيقة فيما يخص عزل الإنتاج وقوة العمل والتبادل عن عوامل أخرى ضمن تقسيم نظام العمل الدولي رغم ميوله للماركسية، بل سيتداخل الصدام السياسي، والتنافس الجغرافي، والحروب المحلية والدولية على مواقع السلطة والنفوذ والتوسع من خلال الملكيات الاستبدادية المركزية مثل فرنسا مع لويس الرابع عشر، وظهور دول قومية على الساحة مثل بريطانيا وهولندا، في تكوين النظام الرأسمالي الدولي.
يقول والرشتاين إن النظام اكتمل على المستوى العالمي مع هزيمة نابليون بونابرت في معركة واترلو 1815 وصعود الهيمنة البريطانية في القرن الثامن عشر، لكن بقي يعاني من فراغ إيديولوجي متسق بعد الثورة الفرنسية، ومن أجل ذلك كرس مجلده الربع بعنوان “انتصار الوسط الليبرالي من 1789- 1914″، الذي يسلط فيه الضوء بصورة مستفيضة على مغامرة القيادة الليبرالية في كل من فرنسا وبريطانيا بتدجين اليمين المحافظ القديم من جهة، وترويض الحركات الثورية الراديكالية اليسارية من جهة ثانية، وركزت أطروحته في تفسير النصر الليبرالي على ثلاثة أعمدة، الأول صناعة خيال الأمة في بنية الدولة القومية بغرض إزالة الصراع الطبقي بين الفقراء والأغنياء. الثاني تقديم بعض الخدمات الصحية والاجتماعية المتواضعة للطبقة العاملة من خلال جهاز الدولة. الثالث استمالة القوة الراديكالية الديمقراطية الهادفة إلى المساواة الكاملة في الحقوق والواجبات عبر إشراكها في الاقتراع والانتخابات الجزئية وفق التصور البرجوازي. وبالتالي، أصبحت هذه العقيدة هي المسيطرة في نهاية المطاف على عقول الحركات اليسارية واليمينية المحافظة حتى لو لم تكن هناك أحزاب ليبرالية تحكم السلطة.
غير أن والرشتاين سينظر إلى ثورة الشباب التي تفجرت في شوارع باريس والدول الأوروبية والعالمية عام 1968 على أنها بداية أفول العقيدة الليبرالية بعدما تمتعت بمرحلة من البحبوحة والراحة إثر سحق الفاشية في الحرب العالمية الثانية، ويعود ذلك حسب فالرشتاين في مؤلفه “ما بعد الليبرالية” إلى ثلاثة عوامل أيضاً، أولاً فشل الحركات الديمقراطية الاجتماعية في أوربا الغربية وأمريكا في تحقيق المساواة الاجتماعية، بحيث كانت تمارس الاحتكار والتسلط تحت القناع الكينزية الاقتصادية. ثانياً انكشاف الستار عن الأنظمة الشيوعية الشمولية في الاتحاد السوفياتي، والتي كانت نسخة أكثر استبدادية من الرأسمالية الغربية من جهة عدم اتخاذ خطوات راديكالية في ترسيخ الحريات الاجتماعية والسياسية نتيجة تكوين طبقة رأسمالية الدولة بصورة احتكارية فجة. ثالثاً، فشل الحركات القومية في العالم الثالث التي اعتلت السلطة بعد حقبة الاستقلال في تحقيق الوعود التي قطعتها أمام القاعدة الجماهيرية.
منذ السبعينيات، سيشدد والرشتاين بأن النظام الدولي انزلق إلى مسار اللايقين بسبب فقدان الشرعية الإيديولوجية، وما تبعه ذلك من التوسع الاقتصادي المتراكم على المستوى الدولي الذي ابتلع قوة العمل وفجر أزمة البطالة الشاملة، ودفع في الوقت نفسه، الطبقة المتوسطة في البلدان الغربية إلى أن تطالب بزيادة حصتها المالية من القيمة المتراكمة التي تستأثر بها عادةً الطبقات المستثمرة المحدودة، وضرورة توسيع مشاركتها في القرار السياسي الديمقراطي في الدولة والمجتمع، فضلاً على أن زيادة التكاليف في إعادة تدوير النفايات الصناعية جراء التزايد الصناعي المتهور، عرقلت إمكانية الدول والشركات العالمية الاستثمارية الكبيرة في مراكمة المال والثروة بصورة سليمة، خاصة مع تفجر أزمة البيئة على المستوى الدولي.
ونظراً إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية، القوة المهيمنة في فلك النظام العالمي، دخلت أزمة بنيوية، سيحاجج والرشتاين في كتابه المعنون “انحسار قوة الولايات المتحدة الأمريكية” بأن الفوضى التي تضرب النظام الدولي تشعبت منذ هزيمة أمريكا في حرب فيتنام، وما تلا ذلك من الأعباء المالية على الخزينة الأمريكية، وخاصة مع أزمة فك الدولار عن قيمة الذهب وتخلي الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون عن اتفاق بريتون وودز، وحظر النفط عن الأسواق الغربية من قبل منظمة أوبك.
يتعقب والرشتاين مسار الاقتصاد والهيمنة الأمريكية ما بعد الحرب العالمية الثانية بشكل دقيق، ويشير بأن دورة كونتدراتيف الأولى والتي تعني “النمو الإنتاجي المتصاعد”، تعرقلت بعد هزيمة فيتنام وتالياً فتحت ثغرات أمام دورة كوندراتيف الثانية والتي تعني الركود، وهذه الدورات الاقتصادية في ظل النظام الدولي يصل مداها حسب والرشتاين إلى /50/ عام تقريباً، وتؤثر بشكل مباشر على زعزعة القوة المهيمنة في العالم، مما سنحت هذه العوامل مجتمعة لظهور منافسين عالميين جدد في شرقي آسيا(اليابان، الصين، كوريا) وفي أوروبا (ألمانيا) لمزاحمة النفوذ الأمريكي. كما يعتقد فالرشتاين بأن انهيار الاتحاد السوفياتي والحروب الأمريكية في الشرق الأوسط ووسط آسيا، فرضت أعباء إضافية على الولايات المتحدة بغرض إعادة الاستقرار والتوازن في النظام الدولي، بحيث لم تستطيع الإدارة السياسية أن تحقق التوازن بين الهيمنة الأمنية الدولية والتوازن في الإنتاج الاقتصادي بصورة متسقة، مما أثر على أدائها العسكري والأمني وتراجع نفوذها السياسي الدولي تدريجياً.
سوسيولوجية جديدة
تبعاً لذلك، لن يحصر فالرشتاين جهوده في مراقبة النظام الرأسمالي الدولي الذي يئن تحت أزمة بنيوية شاملة، بل سيحاول انطلاقاً من اختصاصه في علم الاجتماع في إعادة رسم منهجية علمية جديدة من أجل مواجهة التحديات والمشاكل القائمة، وذلك من خلال مؤلفات عديدة مثل “نهاية العالم الذي كنا نعرفه”، وعليه، سيدعو إلى منهجية كلياتية ضد النزعة الاختصاصية في العلوم الغربية، بغرض توحيد جهود جميع العلوم الإنسانية والعلمية والفلسفية في نسق متكامل من أجل الإحاطة بالظاهرة العالمية الحالية المعقدة والمتشابكة.
لن يتوانى فالرشتاين في كشف القناع عن النزعة العنصرية والقومية والطبقية داخل الحضارة المركزية الغربية منذ الثورة الفرنسية وانتشارها تحت عباءة التراث الاستعماري، وكان ذلك أكثر وضوحاً في كتابه مع المفكر الفرنسي إتيان باليبار، لكنه لم يهادن رؤية إدوارد سعيد في شيطنة المركزية الغربية تحت تسمية “الاستشراق” وتقليدها بطريقة شرقية مقلوبة، لأن الحداثة الصناعوية والإيديولوجية القائمة على الاستغلال والخضوع لا تستحق التقليد والثناء بالنسخة الشرقية أصلاً. ومع ذلك بقي فالرشتاين مخلصاً لمبادئ الثورة الفرنسية الثلاثة (الحرية والمساواة والإخاء).
والرشتاين وأوجلان
وفي سلسلة من المقالات والتعليقات الصحفية منذ العقدين الأخيرين، وصف والرشتاين، الظاهرة الإسلامية السياسية والمتطرفة في الشرق الأوسط، بمثابة ردة فعل سلبي فج على الفوضى الدولية في نسق النظام العالمي، بخلاف التيارات الاجتماعية والسياسية المحلية التي تحاول أن تعزز المساواة والحرية والديمقراطية جراء ترهل الدول القومية في الشرق الأوسط نتيجة اللايقين الذي يجتاح العالم. ومن أجل ذلك، لم يتردد والرشتاين يوماً في حسم موقفه الأخلاقي والوقوف مع النشطاء والتيارات الاجتماعية الجديدة المناهضة للنزعة الدولية المتوحشة، وتأكيده بوجوب خلق رؤية أخلاقية وسياسية وفكرية متكاملة لتكون جبهة بديلة في مواجهة التحديات القائمة بقوله: “إن لم نتحرك، فثمة من سيأتي ويملئ الفراغ عوضاً عنا”.
على ضوء ذلك، سيتعرف أوجلان على مؤلفات والرشتاين في سجن إيمرالي، وسيكنّ له إعجاباً شديداً بسبب مساعيه في تشخيص النظام الرأسمالي العالمي، ورؤيته الفريدة في تأسيس منهجية سوسيولوجية جديدة بعيدة عن قوالب علمية ضيقة، كما سيتبادل معه الرسائل من خلال المحاميين، ويرسل له مؤلفاته التي دونها في السجن. وبدوره سيقوم والرشتاين بمبادلة الثناء له لما يقوم به من جهود جبارة في تحقيق السلام في تركيا والشرق الأوسط، ولن يتردد في كتابة افتتاحية أطروحة أوجلان التي كانت معنونة بـ”خارطة الطريق” عام 2009، حيث كتب: “ما يقترحه أوجلان من القضايا والإشكاليات حول حل القضية الكردية والدولة التركية لا يقتصر على المنظور التاريخي والجغرافي ضيق، بقدر ما يتناول قضايا أكثر عمقاً وأهميةً من خلال زاوية النطاق العالمي”.
سيشارك والرشتاين في تأليف كتاب مشترك بعنوان “بناء حياة حرة: حوارات مع أوجلان” عام 2019، مع مجموعة من الأكاديميين وعلماء الاجتماع، أمثال، أنطوني نيغري، وديفيد غروبر، جان هولوى، رؤوال سيباتشي. سيستقبل أوجلان هذه المبادرة بسعادة غامرة، كونها خطوة تعزز من التلاحم والنضال الكوني بغية ترسيخ مجتمع أخلاقي وسياسي وديمقراطي.
ليس مستغرباً اليوم، أن نشهد في شمال شرقي سوريا مؤلفات والرشتاين تباع في المكتبات والمعارض وتجد طريقها بين النشطاء السياسيين والبيوت العامة والأكاديميات الثقافية رغم ظروف الحرب القاسية، فهذا العطش في معرفة آراء والرشتاين والمناقشة حول تصوراته لم تفارق حتى ألسنة المقاتلين والمقاتلات وهم يقارعون التنظيمات الإرهابية في ظل مشهد اللايقين الذي يجتاح سوريا والمنطقة.
والرشتاين الذي تنبأ بسقوط الاتحاد السوفياتي منذ السبعينات القرن الماضي، فارقنا وسط مستقبل مجهول، وترك خلفه ذاك السؤال العالق والمريب، كيف ستكون صورة العالم في السنوات القادمة بدون تنبؤاته وتنظيراته لسيرورة النظام العالمي؟
—-
*هذا المقال نُشر للمرة الأولى على موقع وكالة “نورث برس سوريا”، للاطلاع على المقال الأصلي.. أضغط هنا