طارق حداد | نيوزويك
أمطرت الغارات الجوية وقذائف هاون من تركيا إلى جانب ميليشياتها العربية على بلدة رأس العين الحدودية الشمالية السورية قبل بضعة أسابيع حيث أظهرت صور الهجوم حالة الأطفال الذين تعرضت بشرتهم للإذابة والحرق وهم يصرخون.
يُزعم أن هذه الذخائر احتوت على الفسفور الأبيض، وهي مادة كيميائية بإمكانها الاشتعال ذاتيًا ويُمكن أن تسبب الاحتراق حتى تصل إلى أكثر من 4800 فهرنهايت بمجرد ملامستها للهواء، ففي حقيقة الأمر، فإن الضحايا الذين نجوا من الإصابة الأولية- حسب ورقة منظمة “هيومن رايتس ووتش”- ربما يعانون من الألم الشديد والالتهابات الحادة وفشل في أعضاء جسمهم وانخفاض قدرة أجسامهم على مقاومة الأمراض، وقد يعانون من تشوه وإعاقة مدى الحياة، إلى جانب الصدمات النفسية وعدم القدرة على إعادة الاندماج في المجتمع.
وعلى الرغم من استخدام الفسفور الأبيض ربما يُعتبر جريمة حرب باستخدامه ضد المدنيين، إلا أنه ليس كذلك بالنسبة لاستخدامه في الحرب، لأن القواعد المقبولة دوليًا بشأن الحرب قد تم وضعها من قبل الممثليين الدبلوماسييين، غالبًا لا تكون كذلك، كقوانين الأسلحة التي تميل إلى إعطاء الأولوية للأهداف العسكرية، ومن ثم فإن القوانين التي تحكم الفسفور الأبيض توضح ذلك.
قوانين الفسفور الأبيض تعني أن تركيا ليست وحدها
قدرة المادة الكيميائية على الاحتراق في ظل حرارة شديدة تجعلها فعالة للغاية ويظهر ذلك في حالتين إنها تصبح مُضيئة في ساحة المعركة (حينما تُستخدم في الشعلات الضوئية) كما أنها تُنشر دخانا كثيفًا لإخفاء حركة القوات البرية (حينما تستخدم هذه المادة الكيميائية في الذخائر الدخانية)، بسبب فائدتها لمجموعة متنوعة من الأغراض بغض النظر عن أنها أسلحة مضادة للأفراد، لذلك فإن القواعد المقبولة للحروب تحمي استخدامها.
لا يتم تصنيف الفسفور الأبيض كعامل كيميائي بموجب اتفاقية الأسلحة الكيميائية، إذ يُستخدم عادة في معظم متاجر الأسلحة التقليدية في الهيئات العسكرية حول العالم، وعادة ما يُستخدم لعمل ستار من الدخان “تمويه” أو استعادة قوة القوات في ساحة المعركة، ولأن الفسفور الأبيض يولد الكثير من الحرارة عند إشعاله، يُمكن استخدامه أيضًا ليُسبب خللاً لأسلحة العدو الذين يعتمدون على الأشعة تحت الحمراء.
وبالنسبة لاستخدام الفسفور في عملية الاستهداف، إذ يُساعد في إضاءة ساحة المعركة ليلاً أو نهارًا، ففي النهار يُمكن من رؤية الدخان كإشارة، وفي الليل، يُمكن رؤية المناطق بوضوح أكبر- بسبب الحرارة التي ينتجها، من خلال نظارات الرؤية الليلية، لذا يقع استخدام الفسفور الأبيض في الأغلب ضمن البروتكول الثالث لاتفاقية الأسلحة التقليدية مقارنة باتفافية الأسلحة الكيميائية.
ومن ناحية البروتكول الثالث، فهو يحظر بصرامة استهداف السكان المدنيين بأسلحة حارقة مُصممة خصيصًا للتسبب في إصابات حروق ولا يُسمح صراحة بالقنابل وقنابل الدخان التي يُمكن أن تسبب نفس الإصابات، ولكن ظاهريًا دون عمد. ولهذا السبب تم اعتماد اتفاقيات جنيف الأولى منذ أكثر من 90 عاما، ولا يزال الفسفور الأبيض يُستخدم على نطاق واسع بصورة مذهلة.
كان قد أقرت الولايات المتحدة باستخدام الفسفور الأبيض في الفلوجة في العراق عام 2004، ووجدت دراسة أُجريت عام 2010، أن التأثير على الأطفال الرضع الذين توفوا بالسرطان وسرطان الدم، كان أسوأ من التأثير الذي نال الناجيين من قنبلتي هيروشيما وناجازاكي الذرية.
كانت إسرائيل قد استخدمت ذخائر محملة بالفسفور الأبيض خلال عملية الرصاص المصبوب في الفترة ما بين 2008 -2009، حيث أحرقت وشوهت العديد من المدنيين الفلسطينيين، حينما لجأوا إلى المدارس والمراكز المجتمعية كملاجئ، وحينها توصلت منظمة “هيومن رايتس ووتش” في وقت لاحق، إلى أن إطلاق النار العشوائي على مناطق مدنية مكتظة بالسكان يُشكل جرائم حرب، وهو استنتاج يخلُص إلى أن إسرائيل التي تجادل في استخدامها للذخائر فقط من لعمل ستائر دخانية، لا تزال تنكر استخدامها لهذه المادة.
ويُمكن أن نرى أنه حتى في سوريا، فإن تركيا تعد بعيدة عن الدولة الوحيدة التي أُلقي عليها اللوم بسبب استخدام الفسفور الأبيض العشوائي، وإلى جانب ذلك كانت قد اُتهمت القوات الحكومية السورية والروسية باستخدام نفس المادة في مناسبات متعددة، كما استخدمتها الولايات المتحدة على المدنين في الرقة خلال المعركة ضد تنظيم “داعش” مؤخرًا في عام 2017. الولايات المتحدة ترفض التحقيق.
نفت تركيا حتى الآن جميع مزاعم استخدامها للفسفور الأبيض في الهجوم الأخير على شمال سوريا، وأصدرت عدة بيانات تزعم أن الهجمات تم شنها هي من قبل إرهابيين من أجل تشويه “حساسية ونجاح الجيش” التركي، على حد وصف المجلة الأمريكية “نيوزوييك”.
لم تنل مجلة “نيوزوييك ” الأمريكية أو صحيفة “ذا تايم أوف لندن” البريطانية أي اعتراضًا حول نشر صور عن هجوم مدينة رأس العين، ولكن كان قد أكد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على نطاق واسع أن تقارير استخدام الفسفور الأبيض تُعد “أخبارًا كاذبة”، كما كرر العديد من وزرائه نفس نقاط الحوار في الصحف المتحالفة أو قنوات التلفاز الإخبارية، في الوقت ذاته الذي تنكر فيه العديد من الحسابات الموالية للقومية على موقع تويتر أي هجوم، حينما تُنشر صورًا لادلة على الإنترنت، مُدعية هذه الحسابات أن الدولة التركية لا تملك أسلحة كيميائية.
وبالملاحظة، لم يستجب البيت الأبيض ووزارة الدفاع الأمريكية، وبريطانيا والخارجية الفرنسية ومسؤولو الاتحاد الأوروبي لطلبات المجلة الأمريكية للتعليق، كما أكدت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية المدعومة من الأمم المتحدة من قبل أنها على علم بالادعاءات ضد تركيا، ومن ثم فهي تجمع معلومات فيما يتعلق بإمكانية استخدام الأسلحة الكيميائية، ورغم ذلك فإن المحققين يرفضون أخذ عينات من بشرة المصابين الذين يشتبه في حروقهم بسبب الفسفور الأبيض، بحجة أن هذه الحالات تقع خارج نطاق اختصاصهم، مما يعني أن عينات الأنسجة التي أخذتها الفرق الطبية الكردية ونُقلت إلى إربيل في شمال العراق، من أجل تحليلها، سوف تتُرك في الثلاجات لتشويه سمعة تركيا.
لا أحد يريد أن يتم التحقيق في هذه القضية بسبب النتائج التي ستتجلى بعد ذلك، على اعتبار أن أحد الأشياء التي تقلق الناس هي مسؤولية تركيا عن ذلك.
والجدير بالذكر أن وزارة الخارجية الأمريكية كانت وافقت على مبيعات أسلحة بقيمة 373.2 مليون دولار لتركيا في عام 2019، ومن ثم فإن حجم وطبيعة المبيعات التجارية المباشرة إلى تركيا تثير مخاوف كبيرة أمريكية خاصة إذا كانت هذه المواد تُستخدم في الأصل خلال الهجوم التركي في شمال سوريا، كما تثير مخاوف محتملة حول استخدام الأسلحة الكيميائية في انتهاك اتفافيات المستخدم النهائي المعمول به والقانون الأمريكي والدولي”.
ذلك القانون الذي وقعه السيناتور الديمقراطي كريس فان هولين وباتريك ليهي وريتشارد بلومنتال، والسيناتور الجمهوري مارشا بلاكبيرن، وعلى الرغم من الجهود التي يبذلها أعضاء مجلس الشيوخ لمزيد من الدقة في حالات كهذه ، يمكن لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية العودة إلى البروتوكول الثالث.
سد الثغرة
نظرًا لاستمرار الهجمات المزعومة مثل الهجمات التي تُنفذ دون تطبيق عقوبات عليها، حاولت منظمة “هيومن رايتس ووتش” تعزيز البرتكول الثالث في السنوات القليلة الماضية، بحجة عدم كفايته لأغراض الدفاع عن المدنيين من استخدام الفسفور الأبيض.
وفي هذا الصدد، ينص البروتكول على حظر الأسلحة على المدنين، الأسلحة الحارقة بشكل عام، خاصة المخصصة أساسًا لإشعال النار في الأهداف لإحداث إصابات حروق للأشخاص من خلال اللهب أو الحرارة أو الدمج بينهما.
ومع ذلك، نظرًا لأن العديد من ذخائر الفسفور الأبيض – وبالأخص مادتها نفسها- غير مخصصة بشكل أولي “لأغراض تحريضية”، إلا أن اللائحة تسمح باستخدامها المتواري. والجدير بالذكر أن تنظيم استخدام السلاح بموجب البروتكول الثالث يعتمد على كيفية وصف المستخدم الغرض منه، لذا فإنه بموجب هذا التعريف، لا يؤخذ حجم تأثيره مادام له غرض رئيسي يتجاوز نطاق البروتكول، وعليه ، فأن هذا النهج يسمح لبعض الذخائر التي تنتج آثارًا حارقة، أن تهرب من نطاق تنظيم استخدام السلاح.
وفي هذا الإطار، تدعو ورقة منظمة “هيومن رايتس ووتش” إلى وضع تعريف أكثر شمولية للأسلحة الحارقة، كي يركز التعريق أكثر على التدمير الذي لحق بالمدنيين، بعيدًا عن الغرض الذي صممت من أجله هذه الأسلحة في المقام الأول ومن جانبها، فقد قدمت “هيومن رايتس ووتش” استنتاجاتها إلى اجتماع للأطراف المتعاقدة في اتفاقية الأسلحة التقليدية في الأمم المتحدة في جنيف، سويسرا ، في عام 2018، ولكن لم يحضر غير عدد قليل من البلدان حلقة النقاش، الذين كانوا ذات صلة بالبروتوكول الثالث.
وبُيد أنه من بين هؤلاء الدول؛ أستراليا والنمسا وشيلي وكرواتيا والمكسيك ونيوزيلندا والاتحاد الروسي وسويسرا، إلى جانب ممثلين من اللجنة الدولية، وقد رفض اللاعبون الرئيسيون مثل الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وإسرائيل التفكير في الأمر. ووفقا لهذا المعنى، فإن مبادرة “هيومان رايتس ووتش” لم تحصل بعد على الدعم اللازم للمتابعة.
—-
للاطلاع على النص الأصلي.. اضغط هنا