الروح العثمانية؟!! يا للعار

نبيل الملحم

هو أمر لا يستدعي الضحك، ربما يستدعي القول إنه أمر مخز، فها هو رئيس جمعية الأمراض المعدية في تركيا، يقول للـ (سي إن إن)، أن على العالم التحدث باللغة التركية، فالحديث باللغة التركية يقلل من الإصابة بانتشار فايروس كورونا، على العكس من التحدث باللغتين الإنكليزية أو الروسية.

 لا نعلم على وجه التحديد أية لغة يقصد الرجل:

 ـ لغة ناظم حكمت، يشار كمال، يلماز غونيه، عائشة كولين، صلاح الدين ديمرطاش، إيليف شفق؟ أم لغة عصمت إينونو وطيب رجب أردوغان، أم لغة السلطان عبد الحميد؟

 حتماً ليست لغة يلماز غوني، وهي لغة كردية على أية حال، يلماز في آخر أيامه كتب وصيته ووهب جسده للمجمع الكردي في باريس ليتصرف بها…لم يهبها للعثمانيين، وهب نفسه لبقعة صغيرة وبعيدة عن شمس الوطن يتردد فيها يومياً اسم كردستان على الصفحات والأفواه حيث كان حلمه قبل أن يغمض عينيه أن يصنع فيلماً عن تاريخ كردستان وعن نضال شعبه ضد مستعمريه.

 هي ليست لغة إيليف شفق، فالسيدة شفق، صاحبة “قواعد العشق الأربعون”، قيد التحقيق، وها هي تفرّ من مكان إلى مكان، وقد خطفت بأعمالها الروائية أربعون لغة عدا لغتها الأم، ذلك أن لغتها تكشف عن ما وراء الستار، لتطارَد تحت تهمة “الخيانة، التحريض وزعزعة الاستقرار”.

 في تركيا يحذرونك في المدارس والجامعات من أن تحكي بغير اللغة التركية، أن تكتب بسواها من اللغات، فما حالك إذا ما كتبت باللغة “الكرمانجية” وهي لغة يلماز غوني، وعاطف يلماز ويشار كمال، وفي البرلمان كذلك:

 ـ عليك أن تذهب إلى اللغة الأم.. اللغة التركية وحدها، فاللغة التركية، لغة تتمتع بحس النكتة، ولها نكهة الجثث، أكثر من ذلك يقول برلماني تركي:

 ـ وجهها جميل ويجب أن يكون تقبيله ممتعاً.

 حتى في البارات وبيع اللذة.. على اللذة أن تكون تركية، ولا شيء في تركيا من هدر الحقوق.. لا جرائم أسرية، ولا تضييق على الحريات، ولا حتى نساء شابات، ينتحلن أسماء مختلفة ربما أكثرها تداولاً اسم “يلدز”، بابتساماتهن الشاحبة، وحواجبهن المرسومة، وتنانيرهن الكاشفة يتجولن بين طاولات “البافيون”، ليبعن للزبائن شيئاً من أجسادهن، لقمة لقمة لزبائن شرهين في (دولة الفضيلة).. على نساء البافيون أيضاً أن يتكلمن اللغة التركية وحدها، مع أنهن على دراية بالعديد من اللغات.. لغات من مثل الفارسية والتركية والكرمانجية، ولا تستبعد أن من بينهن من يحكي اللغة الروسية والإنكليزية والفرنسية، وثمة من يكتفين بلغة الكفّين..

 اللغة التركية هي لغة “الجيش الجبار”، وقد ورثه رجب طيب أردوغان من مصطفى كمال أتاتورك بعد أن أورثه أتاتورك لعصمت إينونو.

 ولكنه ليس جيشاً جباراً، أقله ما بعد حملة الاعتقالات التي طالته وقد أفرغته من الأدمغة، فخلوصي آكار ليس محارباً، وما فوق كتفيه ليس دماغاً صالحاً للعمليات الحربية، ولو كان الأمر كذلك لما رأينا أردوغان،  في قاعة القديسة كاترين، ووراءه صفّ من القيادات التركية بانتظار ظهور فلاديمير بوتين، لمصافحة شاحبة، بل مذلّة للرئيس التركي، في لقاء هو استعراض قوة، وكان علينا أن ندقّق أكثر في تلك القاعة.. إنها قاعة “كاترين”، تلك القيصرة التي دحرت السلطنة في أكثر من مكان وقضت على “خانية القرم” بعد أن جرّدتها من أستانة، فكيف للغة هذا الجيش أن تكون لغة جبّارة، وقد طاردته قوّات “الميت” في الأزقة والثكنات؟

 لا نحكي هنا عن الجيش.. نحكي عن “اللغة” التي أنتجت قواعدها من ثكنات الجيش، وقد طوردت تحت حجة “المؤامرة” منذ 2016 إلى اليوم، لتطال الانتهاكات مئات الجنرالات كما الصحفيين والكتاب ووسائل الإعلام، ولم تطل الكتّاب الأتراك فحسب، لقد وصل الأمر إلى مطاردة حتى كتب الهولندي سبينوزا، والفرنسي ألبير كامو، وبات اقتناء كتبهما أو إعادة نشرها ارتكاب جريمة يعاقب عليها القانون في ظل قوانين الطوارئ، فما بالكم حين يتصل الأمر بوثائق ويكليكس؟

 “عندما أردنا تسليم مسودة الكتاب إلى دار النشر في ساعات الفجر الأولى، تم اعتقالنا، وتمت مصادرة كل الملاحظات المتعلقة بالكتاب وكل أجهزة الكومبيوتر. وبعد ذلك قررنا إعادة تأليف الكتاب في السجن، ولأنه كان ممنوعاً علينا استخدام أي كومبيوتر أو آلة طابعة، فقد كتبنا كل شيء بالقلم الرصاص.. كنا في زنزانتين مختلفتين وتبادلنا النصوص من زنزانة إلى أخرى”، هكذا يصف الصحفي باريز تاركوغلو الطريقة التي تم فيها تأليف كتاب “التسريب. أشهر الأتراك في ويكيليكس”، الذي ألفه بالتعاون مع زميله باريز بليفان في السجن.

 لقد اتهمت السلطات التركية كلا الصحفيين بـ”الانتماء إلى منظمة أرغينكون الإرهابية”، معتبرة أن مجموعة المتآمرين هذه عملت على إسقاط حكومة أردوغان، ولم يُطلق سراح تاركوغلو وبليفان إلا بعد أن قضيا /18/ شهراً في السجن.

 في دولة الفضيلة، أثير جدل واسع طال نظرية النشوء والارتقاء، حتى كان على الحكومة حذف داروين من المناهج المدرسية، لحساب مدارس “الإمام الخطيب”. مع أنه لم يتسن لداروين “إهانة الرئيس”، كما فعلت “حميدة يغيت”، وقد كشفت عن خطوط الاتصال ما بين “داعش” وحكومة أردوغان، لتزج في السجن، في بلد بات سجناً واسعاً، كما يقول رئيس اتحاد ناشريه كنعان كوتشاتورك ليضيف:” كل ما نأمله أن لا تكون الأمور أكثر سوءاً”، وأن “يتراجع عدد عمليات اعتقال الكتّاب”، مذكّراً بفلم يلماز غوني:” أين السجن الحقيقي، هل هو السجن المحاط بالهراوات والأسلحة والأسلاك الشائكة، أم هو هذا البلد الكبير المحاط بنقاط الحدود وبالبحار المسمى تركيا”.

 يلماز غوني، وقد أراد أن لا ينتهي الأولاد إلى مصائر الآباء، كان قد قالها، حيث رسم غوني مأساة هذا الشعب المستمرة وفجرها على يد بيرفان عندما يخنق سمسار الخراف ليقول أن هذا الشعب عندما سينفجر سيجرف معه من يقف في وجهه ولن يفلت أحد من عدله ومن أصابعه.

 كلام كثير ومثير، كنا قد سمعناه من العثمانيين الجدد، ومنهم عثمانيون سوريون.. كلام يدعوك إلى التحلّي بالروح العثمانية..

 الروح العثمانية؟!!

 ـ يا للعار.

*المصدر: نورث برس

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد